مناخ مشبع بصور الأجداد وأصواتهم
كمفتاح سلّم موسيقيّ تبدأ العبارة الأولى من رواية (خربة الشيخ أحمد) "حجّي ي ي.. موجّييد؟". ينهمرُ إيقاعُها قوياً رتيباً كمجذافٍ عتيقٍ يشقّ نهرَ الذاكرة. ترتاح الكلمات هنيهة في صدر عجوزين يتعاطيان الحنين، ثم تعود بنبرها المبهر الجامعِ شدة الريح وهمسَ الماء "توجّد لمّن ربّعنا ذيج السنة؟ سنتن أمحلت، واستشملنا؟"، وحين يخفت هديرُ الأسئلة الآتي من الجزيرة السورية ألتفتُ إلى يميني لأنظرَ وأسمع مايقول أبي، فلا أجدُ إلا فراغاً وعويلاً أخرسَ يذكّراني أنّ أبي مات منذ عقدين. هي الخربة تختزن روائحَ الآباء والأجداد كصندوقي المطعّم بالفسيفساء أفتحه كلَّ بضع سنين وأغرق في شمّ ولثم خصلةٍ من شعر أمي خضّبوها بالحناء عشية وفاتها فتعلّقتها رائحتها. لا يسعى مؤلّفُ الرواية الشاعر (عيسى الشيخ حسن) لتفجير اللغة وخلق دلالات جديدة، لكنه كساردٍ مأخوذٍ بميراث قومه ولغتهم سرَتْ شهوة التعبير في قلبه. هزّ شجرة اللغة، وفتحَ جيوبَ الحكاية في الغصن الفراتيّ، فتجلّت الجذورُ التي غذتنا دهوراً، واكتشفنا بعضاً من روح البداوة وهدير النهر في أصواتنا ومفرداتنا "لغة أضمرت في كلماتها مفردات الأولين"، كما يصفها الروائيّ.


عيسى الشيخ حسن

ملخص الرواية:
تدور الأحداث بين قريتي الصفرة وخربة الشيخ أحمد الواقعتين في القامشلي أقصى الشمال الشرقي من سوريا أوائل الثمانينيات، وقبلها بثلاثين سنة يأتي الحاج عبد اللطيف بالأستاذ عبد العليم ياسين ليعلّم في مدرسة الصفرة، ويزوّجه من ابنة موظف الصحة الغريب أيضا، لكنّهما يتوفيان بحادث سير، ويتبعهما الجدّ، فيتبنى الحاج عبد اللطيف وزوجه طفلهما الوحيد ياسين. حين يكبر يتقدم لخطبة "حسنة" الصبية التي لجأت مع أهلها إلى الخربة هرباً من الثأر، لكنّ أمها ترفضه قائلة: "واحد مامنعرف قرعة أبوه منين.. نعطيه بنتنا؟" فتدفعُ هذه الجملة ياسين للبحث عن أهله، مما يجعل الأحداث تمتد إلى دير الزور وإدلب وحماة.

موضوع الرواية:
مازالت العشائر البدوية والزراعية القاطنة الجزيرة السورية تحتفي بالأنساب وتتناقلها شفاهة وأحياناً كتابة، ولعلّ ما أحاط بهذه المجموعات البشرية من ظلم وإهمال على مدى قرون يبرّرُ سعيَهم الحثيث لإثبات نسبهم وانتمائهم الأصيل إلى منطقة كان لها أدوارٌ حضارية مهمة في التاريخ القديم، وقد عكسَ الكاتبُ هذا الهمَّ الجماعيّ في قصة إثبات نسب ياسين عبد العليم ياسين رافداً إيّاها بهروب عائلة حسنة من الثأر ونزوح عائلة الياسين إلى إدلب ثم حماة ليكرّسها مشكلة عامة في الجزيرة. هي قضية الانتماء والهوية. قضية لن تفقدَ أهميتها ومناصريها مهما اختلفت المكوّنات والأسباب، وقد تبلورت الرؤية الشمولية للموضوع في الإشارة إلى هواجس ياسين "ماذا لو كان وضيعَ الأصل؟ وماذا لو لم يصل إلى معرفة نسبه؟" فأثارت ضمناً أسئلة الهوية والوجود من وجهة نظر مغايرة.. نظرة عالَمٍ يتّجه للفردانية والخصوصية ويؤمن بقيمة الإنسان بالتغاضي عن أصله وفصله، لكننا حين نرى المجتمعات المضطهَدة تجلدُ أبناءها وتلتهم نفسها بمعاييرَ لاترحم خاضعة لسلطة الدم في الحسب والنسب والثأر وسواه ندركُ أنّ العالَمَ الحديث مازال بعيداً عن تحقيق التوازن بين الهويات.

الشكل والبناء:
قسمَ الكاتبُ الرواية إلى تسعة وأربعين فصلاً مرقمة، ومعظمها مروّسٌ بعبارات غنائية أو شعرية من تراث الجزيرة تحاكي حالةً فيها وتثري النص دلالياً، ففي الفصل السابع مثلاً يتحدث عن لجوء فواز المشعل والد حسنة إلى الخربة، ويروّسه ب "يجيك يوم ياما أسعد أيامك، ويجيك يوم تلبس سمال الناس"، لكنّ هذا التقسيمَ لا يساعدُ في إدراك الزمن، إذ يتشظّى الفصلُ الواحد إلى فقراتٍ لا روابط سببية ولا اشتباك حقيقي للأحداث والشخصيات بينها، ففقرة عن ياسين في حلب، وأخرى عن أبي دحام في الصفرة. ورغم توقيت الأحداث بوقائع معروفة كحرب العراق وإيران واضطرابات الإخوان في سورية إلا أنّ هذه التواريخ ظلت محايدة يمكن حذفها دون أن يتغير شيء في البناء الدرامي، وقد استخدم الكاتب بنيتين زمنيتين، الأولى دائرية شاملة تعتمد تقويماً زراعياً يراعي تغيّرَ الفصول والأشهر، يبدأ بالرواية شتاء 1980 وينتهي صيف 1981 مارّاً بطقوس الزراعة والري مرتين مؤكّداً خلودها واستمراريتها، والبنية الزمنية الثانية داخلية متقطعة تتأرجح بين تقنيات الاسترجاع والاستشراف وأنماطٍ من التداعي الحر في ذاكرة الكاتب. هذه البنية المعقدة داخلياً والازدحام الملحميّ بالشخصيات والأماكن جعل تتبع الأحداث شاقا في الثلث الأول من الرواية، كما سبّب للكاتب نفسه بعض الاضطراب والخلط في أسماء الشخصيات كما سنبيّن لاحقاً.

تحوّلات المكان وجدليّة التيه والاستقرار:
المكان في الرواية أكثر من خلفية للحوادث. هو كائن حيّ وُلد بظرفٍ تاريخيّ واجتماعيّ خاص ونمَا بهدوء من بضع خيماتٍ نصبها الشيخ أحمد والحاج عبد اللطيف أوائل القرن العشرين إلى بيوتٍ طينية تكاثرت مع التحاق الأهل والأقارب بعد نكبات تعرّضت لها القبائل انتهت بالنزوح والتشتت ثم الاستقرار، لكنّ المكانَ المرهون للعزلة والإقصاء ظلّ ينزف أبناءَه فارّين من ثأر حيناً وباحثين عن هوية أو حياة كريمة أحياناً أخرى. هكذا كانت الجزيرة تتثاءب وتتوثّب.. تتفتّت وتتبدّد مع الراحلين، وفي رحلة ياسين وأجداده قبله من الجزيرة إلى إدلب وحماة ثم عائدين إلى دير الزور فالقامشلي تتجلى ديمومة الرحيل والعودة في صيغة دائرية تتّسق مع حركة الزمن التي استخدمها الكاتب "يستعيد القوسَ الذي رسمه في أسبوعين من القامشلي فحلب، ثم إدلب فحماة، وعما قليل سيغلق الدائرة عندما يصل الصفرة" 281.
تجري معظم أحداث الرواية في الصفرة، بينما يتأخر ذكر الخربة إلى الفصل السادس، ولن تُمنحَ أكثر من مشهدين أو ثلاثة: التعريف بنشأتها، والتنافس بين شيخها والحاج عبد اللطيف، ولجوء أهل حسنة إليها، وهذا مايثير تساؤلاً عن سبب عنونة الرواية بها، ألأنّ "خربة الشيخ أحمد" أكثر فنية، أم لتمجيد المكان الذي التقى به ياسين وحسنة أول مرة اقتداءً بالشعراء القدامى؟
الأسلوب في تتبع نشأة القريتين وظهورهما إلى الوجود يذكّرُ بمافعله عبد الرحمن منيف في (مدن الملح) حين وصف اندثار بعض القبائل وميلاد مدن النفط ، فأبدع في تخيّل عوالمَ موازية للواقع باتت من أهم ملامح روايته، وربما لم ينجُ روائيّ بعده من تأثيرها، لكنّ عيسى لم يرسم بانوراما كاملة للمكان كمنيف، بل كشفَ أجزاءً صغيرة منه تاركاً البقية في العتمة، وياللغرابة أن يكون الفرات بين الغائب المحتجب، فبالكاد يذكره وهو الذي قامت الحياة في الجزيرة بسببه وعليه!
الفرات الحاضر الغائب.. في رواية جزراوية مثخنة بطعنات الرحيل نفتقده جسداً يسيل خصوبة ويبذر الحكاياتِ حول ضفافه. ظهور شحيح يومض كنجمٍ هادٍ بعيد يشدُّ الراحلين إلى مهدهم.. تتذكّره حسنة وأمها كلما قرصهم الشوق إلى قريتهم "التائهة" على كتف الماء. ينظر إليه ياسين من نافذة القطار وهو يمضي به من القامشلي إلى الحسكة فالدير، لكنّ الفرات لايقترب أكثر.. يستمرّ في جريانه الأزليّ في خطٍ موازٍ للهويات الضائعة.. هوية حسنة المقتلعة من جذورها والمنفية، وهويات أفراد عائلة الياسين الذين جلوا عن مواطنهم مراتٍ عبر أجيالٍ بسبب الثأر أوالحروب والقحط، وأخيراً هوية ياسين المنقطعة، وكأنّما الكاتبُ تجاهلَ ثرثرة الفرات المحايدة ليعليَ رمزية الفعل الإراديّ عند ياسين وهو يشقّ مجراه الخاص محقّقاً وجوده كقوة بشرية ضاربة بعمق في المكان.

الشخصيات ومجانية الأسماء:
برز ياسين بطلُ الرواية وحاملُ موضوعها إيجابياً خيّراً بالمطلق. عرّضَ نفسه للموت ليحميَ أخَ حسنة من رصاص الثأر، وحين وجد أهله الحقيقيين أخبرهم أنه لم يأتِ راغباً بإرث، وإنما يريدهم عزوة له، ولم تختلف عنه حسنة في تكوينها البسيط ذي الجانب الواحد رغم التناقضات التي يمكن أن يخلقها تجسيدُها محنة الهروب من الثأر والانكسار في اللجوء والغربة، وقد ساهمتْ معظمُ شخصيات الرواية في إرساء مناخٍ تعاونيّ متعاطف، وكان لتركيز الكاتب على الصفات المشتركة للعجائز أنْ خلقَ نموذجاً واحداً، فالحاج عبد اللطيف وأبو دحام والشيخ أحمد والملّا سعيد في أواخر العمر متعَبون محمَّون عن الطعام يستغرقهم الحنين للماضي ومازالوا مقدَّرين في عائلاتهم، وتتضاءل أكثر إمكانية التمييز بين العجائز النساء، فهنّ جميعاً يعددن الطعام ويشرفن على أدوية أزواجهن وحميتهم، لايمرضن، ولايتوقفن عن الخدمة مهما كبرن. شخصية دحام الوحيدة التي بدت مركّبة نوعاً ما، ونحَت إلى الاستقلالية والفردية مغامرة في الحب والعمل متحملة عبء الفشل دون ندم أو مراعاة لأحد، لكنّها ظلت بعيدة نسبياً، ولم يتقاطع خطّها مع الآخرين إلا بالحدود الدنيا. هذا التنميط المتأثّر بما تفرضه القبيلة من معيار جمعيّ متشدّد للسلوك والقيم الرجولية أضعفَ الصراع، فحتى أم حسنة التي كانت مثيراً أساسياً فيه واستثناءً من حيث دورها المحرّض والكاشف لم تبدُ سيئة، بل تدافع عن مصلحة ابنتها وعائلتها وفق المعايير الأخلاقية السائدة.
استخدام الكاتب قوالبَ محدودة في إنتاج عدد كبير جداً من الشخصيات الرئيسة والثانوية أوقعه في اضطرابٍ وخلط بين أسماء شخصياته وصفاتهم على النحو الآتي:
1- أولاد الشيخ أحمد والحاج عبد اللطيف: سجّلَ الشيخان ولديهما في مدرسة المدينة "منصور الشيخ أحمد وعبد الله العبد اللطيف" 31، وقد تكرر الاسمان هكذا مرات، وفي الفصل السابع ظهر منصور جانب أبيه عند استقبال الضيوف اللاجئين "منصور يلف سيجارة لأبيه"، ونفهم أنه ابنه الأول من مخاطبة الضيوف له " ماتقصّر يابو منصور" 38، لنفاجأ بعد وفاة الشيخ باستلام ابنه إبراهيم المشيخة بشكل طبيعي مما يوحي أنّ إبراهيم الذي لم يُذكر سابقاً هو الابن الأكبر (135)، ويستمرّ ذكره لآخر الرواية، بينما يُنسَب منصور لاحقاً لعبد اللطيف "اعتذر دحّام عن مرافقة إبراهيم الشيخ ومنصور العبد اللطيف" 144، ولم يعد يذكر منصور إلا في الصفحات الأخيرة مشرفاً على وليمة الحاج عبد اللطيف لأهل ياسين وملتبساً أيضا بابنه عبد الله، إذ ذُكر كل منهما بأنه يعيش في مدينة القامشلي، وأولاد عبد الله يتكلمون اللهجة الماردلية، ومنصور متزوج من ماردلية أيضاً.
2- فواز المشعل: خاطبته زوجه في الصفحات (138- 244) ب " أبو عاصي"، وبدا من سياق الأحداث أنّ ابنه عاصي هو الكبير الذي استعار مسدس والده ليطلق الرصاص بعرسٍ فقتل شاباً بالغلط وعرّضهم للجلوة، ثم في الصفحات (170-173-174-178) دُعي بأبي عناد مراتٍ وكذلك زوجه، فمن هو عناد هذا الذي لم يظهر في الرواية؟! والمشكلة أنّ امرأة لاعلاقة لها بهم ظهرت في المقطع الرابع باسم أم عناد، وكانت تشكو لأم دحّام من شراء ابنها بقرة مريضة.
3- عائلة ياسين: في تتبّع شجرة العائلة يذكر العديدَ من أسماء وسِيَرِ الأعمام والأخوال وأولادهم وأحفادهم ليبين مدى احتفاء هذه العشائر بالأنساب وروابط القربى معيداً قيمة العائلة الكبيرة في مواجهة غربة الإنسان وعزلته في المجتمعات المدنية، لكنّ الأخطاءَ التي وقع بها هنا رغم قلتها تضعفُ ما أراد، فوقع التباسٌ بين أخوال الأستاذ عبد العليم بييت الحكمدار وأخوال أبيه أحمد بيت الحاج قاسم قدور في إدلب، كذلك ذكر جدَّه لأمه موفق البيطار أبو نظمي مرتين في ص (26)، بينما في (94-93) سمّاه فهمي البيطار، أمّا قريبه الديري المتديّن فتارة اسمه محمود (120)، وتارة اسماعيل (149-175).
4- (محمد محسن العلاص أو والده، وعلاوي المحسن): شخصيتان متطابقتان تارة تاجرا مواشي وتارة صاحبا دكان ومرة في الصفرة وأخرى في الخربة "لم تأت أم دحام لتستوفي الدين، بل لتبحث عن عنزة حلوب عند محمد المحسن" 20، ولاحقاً " لمّا تأخرت أم دحام سأل ابنها عنها علاوي المحسن، فأخبره أنها مرت به، واشترت عنزتين" 33، وكذلك في الصفحة (24) جاء الحاج عبد اللطيف إلى دكان علاوي المحسن يسأل عن ياسين فأتاه بكرسي وأراد أن يضيفه كازوزة، ولابدّ أنّ هذا حدث في الصفرة إذ لايتوقع لشيخ تسعيني أن يمشي مسافة ساعة إلى الخربة، بينما في ص (46) علاوي المحسن سكن الخربة منذ سنوات، وفي ص (210) أنّ ياسين يشتري دندرمة من دكان العلاص.
5- الخلط في الأماكن: أشار عيسى مرّاتٍ إلى أنّ الصفرة والخربة في ريف القامشلي (98- 260-277)، ويبدو أنه نسي هذا، فيقول ياسين عن جده بأنه سكن الحسكة منذ خمسين سنة وبقي فيها لمماته (93)، كما يقدّم نفسه في إدلب "ياسين العبد اللطيف، من الحسكة" 245، وتؤكّده هويته "أوقفتهم دورية مفاجئة، وأخذوا هوياتهم، وحين سألوهم عن سر هذه العلاقة بين شاب من الحسكة ورجلين من إدلب.." 269. هذه الفوضى في الأسماء والأماكن توحي أن الكاتب لم يكن لديه خطة واضحة محكمة قبل بدء الكتابة، وإنما انساق مع تداعياته في رسم مشاهد مستقلة أقرب لمنشورات الفيسبوك، فجاءت كل فقرة منفصلة يمكن أن توضع في غير مكان.

المعالجة الدرامية وتوظيف الحكايات:
منذ الصفحات الأولى يرسم عيسى الشيخ حسن مشهدَ عجوزين يستذكران السنين الماضية. يمرُّ سريعا على أطلالهما المبعثرة مكتفياً بالإشارة والتلميح. يلقي ضوءاً شاحباً على خيالاتٍ تعبر ذاكرته كقوافلَ تختفي وتظهر بين كثبان الرمال. لوحات سينمائية مكثفة توحي أكثر مما تبين، ويستمرُّ على نفس المنوال في الفصل الثاني. يجتزئ حواراتٍ عائلية عادية "- يدي ماعاد تناط ظهري/ -توكّل بالله ياحجي. والله ماأخطينا بشي" ولانعرف علامَ يعاتبُ الأبُ أبناءه. حوارات لاتؤسّس للقادم، ولا تساهم ببناء الشخصيات، إذ يمكن أن نحيلها إلى أي عجوز وابنه في الرواية، لكنّها بالمقابل هي ماتمنحها خصوصيتها إذ تنبض بروح المكان وأهله، وتشي بنمط العلاقات والسلوكيات، وتزخر بإيقاعات لغة عشائرية تجمع بين البداوة والفلاحة، كذلك تشير إلى أنها رواية الآباء والأجداد، فأكثر عبارة تكررت "قال العجوز.. قالت العجوز".
انشغلَ الكاتب في الثلث الأول من الرواية بتصويرِ البيئة المتنوعة لريف الجزيرة ومدنها وضبطِ لغة الحوار العامية لتقارب لُكنتها ونبرتها، وحشدَ شخصياتٍ كثيرة تعبر عن مختلف الأجيال، واستخدمَ تقنيات سرد متعددة، مما أخّرّ وضوحَ الخطّ الدرامي وجعلَ الأحداثَ تسيرُ كجداولَ ضحلةٍ لامغامرات كبرى أو مفاجآت فيها، لكن منذ الفصل السابع عشر استحوذت سيرة ياسين على معظم النسيج الروائي، بدءاً من مرافقته حسنة إلى المحكمة ثم إصابته بالرصاص وصولاً إلى العقدة الرئيسة المتمثلة برفض أمّها له وجلده بعبارتها الجارحة "مامنعرف قرعة أبوه منين"، العبارة التي وخزه بها بعض الحساد في الطفولة أيضاً، فانفجرَ قلقٌ كبير كامن ألقى به على طرقاتٍ مشطورة مثله بحواجز الخوف، ولم يهدأ حتى أعاد أعمامُه الاعتبارَ إلى شخصه "عزيمة ياسين ماتصير بليل.. لازم العالم تجي بالضو. تايعرف القاصي والداني إنه ابنا رجع" 273.
وقد أحسن الكاتب توظيف الحكاية ليعمّقَ الإحساسَ بمعاناة ياسين من خلال عقد صلة بين تجربته وتجربة كونتا كونتي في رواية (الجذور) الأمريكية ملهماً إياه اقتفاء أثره في البحث عن جذوره جاعلاً الاهتمامَ بالأسلاف فضيلة إنسانية عالمية تتجاوز القبلية. الإشارة الثانية الموفقة كانت إلى حكاية دائرة الطباشير عندما اجتمع شيوخ القبائل وأهله ومن ربوه ليقرروا نسبه "في المجلس الذي انعقد في حوش العبد اللطيف كان نحو خمسين رجلا ينتظرون مايشبه بيانا أو مفاوضات حادة.. وفكر صفوان البيطار بدائرة الطباشير، وفيما إذا سيوضع ياسين داخلها ويتجاذبه الآباء" 291. هذا التوظيف الجميل للحكاية يدل على استمرار الصراع الأبوي بين حقّ الدم وحقّ الحبّ والرعاية مثيراً الشكَّ الأزليّ في قدرة الدم وحده على الصمود والانتصار.
اختار الكاتبُ معالجة دراميّة سينمائية تصوّر الأفعالَ والسلوكيات وقلما تلجأ إلى التحليل النظري متماهية مع بساطة الحكاية ونمط العيش في الجزيرة، فتجلّت ذاتُ ياسين وهواجسُه في محاولاته تجاهلَ حسنة واقتلاعها من قلبه بعدما أهين بسببها وفي بحثه عن أهله أثناء اضطرابات البلاد غيرَ مبالٍ بالخطر، مما يكشف عن بنية نفسية قوية وإيجابية، صاحبها يعرف مايريد ويمضي إلى أهدافه بثقة وعناد.
في مقاربة غير مباشرة لحال اللاجئين السوريين اليوم يكشف الروائيّ عن جوهر المعاناة من خلال طلبِ أمّ حسنة من أولادها أن يسلكوا سلوكاً ليناً يتناسب مع وضعهم الجديد: " وتذكّرت حسنة أيام قريتهم البعيدة، يوم كانت شيخة الشيخات.. ولكنّ الغربة بنت حرام، أمها قالت لها ولأخوتها محذّرة "ياغريب كون أديب"، وأحست حسنة أنها فقدت جناحيها بعد هذه العبارة، وفي اليوم التالي بحثت عن نظرتها القديمة لتخرج بها من باب الخيمة الصغيرة، بحثت كثيراً ولم تجدها" 51.. هذه الفقرة الجميلة فيها من كثافة التجارب وخبرات السنين مايشفعُ للكاتب تعثره في حفظ بعض أسماء شخصياته الكثيرة، فهي بقدر ماتقتل من كبرياءٍ تعكسُ وعياً جديداً بالواقع المتغير وكيفية تأثيره في طبائع الناس وسلوكهم.. إنها تعبّر اليوم عن أحوال الملايين في بلاد اللجوء، وهكذا تنضفر القضيتان: الهروب والانكسار في الغربة والبحث عن الهوية والانتماء لتشكلا قضية واحدة محورية تنطلق من بؤرة الآلام القبلية إلى فضاء إنساني يضطرم ويغلي فوق براكين التغيير والانفجارات التاريخية الدولية.


الخلاصة:
للشاعر عيسى الشيخ حسن عدة مجموعات شعرية ومساهمات جيدة في كتابة المقال ماحمّله عبءَ أن يكتب روايته الأولى كالروائيين المتمرّسين، فأبدع في جوانب، وأعياه جانب أو أكثر، وتبقى أهمية تجربته أنها قدّمت صورة واضحة عن الجزيرة المغفلة.. بيئتها وناسها ومشكلاتها ولهجتها، وهذه الأخيرة كانت بين أكثر جهوده لفتاً للنظر في اختيار مفردات وتعابير متجذّرة ودالّة وفي ضبط بنيتها بالشكل واستعارة بعض الأحرف الفارسية ليوصل النبر والموسيقا في كلامهم. إن احتفاءه بالمعجم الشفوي وإضاءة مافيه من كنوز التراث الشعبي جنّبه الوقوع في عامية مسطحة ومبتذلة، وزاد بريق لغته بذهب الفصحى وفضة العامية، أمّا مايمكن عّده ثغرات أو خلل فقد جاء من الاضطراب في أسماء الشخصيات وسحرية الحلول سواء في ظهور نسب معروف لياسين أو حين حيّر ابن عم حسنة عليها فتذكّرت أمها فجأة أنه أخوها بالرضاعة ولايجوز زواجه منها.
(خربة الشيخ أحمد) الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر- تركيا في طبعتها الأولى عام 2021 في 306 صفحات رواية تُقرأ مراتٍ دون أن تفقد تأثيرها، بل إنّ الزخم العاطفي المرتبط بالحب والانتماء يتكثّف كلّ مرة ليصبح جوهرة الرواية الحقيقية المشعّة من روح الجزيرة جاذبة في كل مكان القلوب الباحثة عن معنى بسيط وعميق للحياة.