رغم حبي للغناء، شرقيًا كان أو غربيًا، عربيًا كان أو هنديًا، شعبيًا كان أو طربيًا أو أوبراليًا، إلا أن الموسيقى تبقى بالنسبة لي العشق المجنون، بل وأعظم الفنون والإختراعات التي أبدعها العقل البشري. لذا فأول وأكثر ما يثير إنتباهي وفضولي، وبالتالي إعجابي في نتاج أي موسيقار، هو موسيقاه الصرفة وليس الملحنة للأغاني، سواء كان الأسطورة بوشيني في مقدمة مانون ليسكوت، أو الموسيقار فريد الأطرش في مقدمة بنادي عليك، أو فقيدنا الموسيقار المجدد إلياس الرحباني في دمي ودموعي وإبتسامتي، الذي غادرنا في مثل هذه الأيام قبل سنتين عن عمر ناهز 83 عامًا.

ففي الوقت الذي يستذكر أغلب الناس ما لحنه الموسيقار الراحل لأساطين الغناء العربي مثل فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وملحم بركات وما أحدثه من تجديد في عالم الأغنية العربية، أستذكر له ما أبدعه في عالم الموسيقى الصرفة، كموسيقى الأفلام والمسلسلات، التي يمكن القول بأنه كان مؤسس مدرستها في العالم العربي، والتي تتلمذ فيها وعلى أسسها كل من جاؤوا بعده.

كانت موسيقاه التي ألفها للأفلام والمسلسلات، إيقونتها وبصمتها الخالدة التي لا يمكن تذكرها ومشاهدتها من دون إستذكارها، أبرزها موسيقى الأفلام المصرية "دمي ودموعي وإبتسامتي" و"حبيبتي" و"أجمل أيام حياتي" و"هذا أحبه وهذا أريده"، أو موسيقى المسلسلات اللبنانية "عازف الليل" و"لا تقولي وداعًا" و"ألو حياتي" التي جمعت الثنائي الرائع الخالد في ذاكرتنا أبدًا، هند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب.

ما يميز الياس الرحباني هو أنه رغم حلمه بالسير على خطى أخويه عاصي ومنصور، إلا أنه أختط لنفسه طريقا مختلفًا عنهم لكنه موازٍ لهم. فموسيقاه فيها روح الرحابنة، لكنها تحمل توقيعه الخاص، لذا بقيت تسمية الأخوين رحباني كما هي، ولم تتحول الى الأخوة رحباني، حتى بعد سطوع نجمه في عالم الموسيقى والتلحين. فقد تشَرّب بموسيقاهم ثم أضفى عليها من دراسته وموهبته، لتخرج بنكهة شرقية وغربية كان بارعًا في المزج بينهما. لذا تُذَكرني موسيقاه وألحانه بالموسيقى اليونانية بعض الشيء، التي تمتاز بغربية بنائها الموسيقي الى جانب روحها الشرقية.

كان رائد الأغنية الشبابية اللبنانية، التي هوجم بسببها في البداية، لكنها بقيت حية الى اليوم تتداولها الألسن لتصنع الفرح، لذا لقب بـ"صانع الفرح". أما موسيقى وأغاني الإعلانات فقد كان رائدها بلا منازع، وكل من خاض غمارها بعده سار على خطاه، الى درجة أنه حول مرة موسيقى إعلان إسمه "باريلا مكاروني" إلى لحن لأغنية "وعدوني ونطروني" للصبوحة، والتي أثارت حينها جدلًا واسعًا، لكنها نجحت وأحباها الناس كغالبية أعماله لأنها من القلب الى القلب. فقد كان فضاء الموسيقى لديه واسعًا لا حدود له أو تابوات، لذا لم يتردد في كتابة وتلحين أغنية لهيفاء وهبي، وحينما سُئِل عن الأمر قال: "هيفاء ليست مطربة بل فتاة إستعراض، وعالم الغناء مليء بفتيات الإستعراض، فأين المشكلة في التعامل معها؟".

تأثير الموسيقار الراحل على التجربة الفريدة لزوجة أخيه الأسطورة فيروز. كان محوريًا، من ناحية أن زرع فيها روح التجديد والمغامرة. وكان منعطَفًا أساسيًا في مسيرتها الغنائية، أثرى ما سبقه، ومهد لما تلاه. ففيروز في أغاني إلياس لم تكن فقط صوتًا ملائكيًا نترقب قدومه من السماء، بل صوتًا مألوفًا نسمعه ونلتقي به كل يوم، غنت له "كان الزمان وكان" و"طير الوروار" و"كان عنا طاحون" و"سهر الليالي"، وكلها أغاني مثلت تحولًا في مسيرة فيروز، مَهّدت لاحقًا لتحول آخر لها مع ولدها زياد الرّحباني. إذ لم تكن فيروز نفسها تتخيل أنها ستغني "عندي ثقة فيك" و"كيفك إنت" و"تمرق علي إمرق"، لو أنها إنتقلت مباشرة من مدرسة عاصي ومنصور، الى مدرسة زياد، دون أن تمُر بمدرسة إلياس!

كان نتاج الموسيقار الراحل غزير كمًا، وفي نفس الوقت، وهي حالة لا تتكرر لدى كثيرين، ثري نوعًا. فمنذ بداية مسيرته الفنية وحتى رحيله، قدم إلياس الرحباني أكثر من ثلاثة آلاف لحن، بين أغاني ومقطوعات موسيقية وموسيقى تصويرية لأفلام ومسلسلات ومسرحيات غنائية وأغاني أطفال وإعلانات. وكان عاشقًا للبنان، لذا رفض عرضًا فرنسيًا بإستضافته مدى الحياة، ليتفرغ لتأليف الموسيقى، يوم غادر مع عائلته لبنان في بداية الحرب الأهلية، وفضل العودة الى لبنان ليحلق في سمائها حتى غادرها قبل سنتين الى سماء الموسيقى الأرحب.