إن فيلم "رسائل البحر-2010" للمخرج المصري داوود عبد السيد فيلم عن رسائل الحياة، و التوق إلى الحرية والتحقق، والتمسك بفرادة الذات وتمايز مسارها الوجودي، بالقياس إلى الآخر السادر في الغفلة (البحار الرافض تسلم الرسالة) أو في التملك والتسليع وإعلاء قيم الليبرالية الرثة (الحاج هاشم/صلاح عبد الله).

فيلم "رسائل البحر"، فيلم عن التفرد واحترام المغايرة والاختلاف والاكتشاف وكشف الحجب عن مجاهيل الذات والآخر.

يبدأ يحيي/آسر ياسين مساره التفردي، باستكشافين جوهريين:

- استكشاف البحر وخفاياه ورسائله؛ فالبحر مزدان بالخيرات والمباهج والأهوال والتمنع والرسائل المبهمة؛

- استكشاف ذاكرة المكان (الإسكندرية) و ومسارات الأشخاص (فرانشيسكا/ نبيهة لطفي وكارلا/سامية أسعد ونورا/بسمة) واكتشاف خفايا وخبايا العلائق والعواطف (العلاقة بنورا/بسمة).

ولا يتم الاكتشاف، هنا، دون توظيف نصوص نغمية متعددة السجلات والمرجعيات والخلفيات الثقافية والجمالية؛وتروم هذه النصوص النغمية المختارة بعناية أو المنجزة برهافة وكثافة تعبيرية عالية، ما يلي:

- الكشف عن المكنون والمخفي والإفضاء باحتقان واكتئاب الذات (حالة نورا /بسمة)؛

- اكتشاف المشترك العاطفي والوجداني بين ذاتين تواقتين إلى التحقق الكياني (نورا /بسمة و يحيي /آسر ياسين)؛

- إضاءة اللاشعور الثقافي للشخصيات (فرانشيسكا / نبيهة لطفي وكارلا /سامية أسعد / ويحيي /آسر ياسين)؛

- الكشف عن ممكنات التحقق من خلال التصالح مع رسائل الحياة، وارتضاء الخيار الرواقي، وتقبل الآخر مهما كان مختلفا.

تتخلل النغمات والإيقاعات، إذن، كثيرا من مفاصل الفيلم. وهو يتضمن الأنواع الموسيقي التالية:

- الموسيقى الكلاسيكية: موسيقى فريديريك شوبان (1810-1849) و لودفيغ فان بيتهوفن (1770-1827) وفرانز ليست (1811-1886)؛

- الموسيقى اللاتينية؛

- الموسيقى العربية: أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفايزة أحمد ومحمد قنديل. . . إلخ؛

- الموسيقى التصويرية للموسيقار راجح داوود.

خصص في ما يبدو، كل نوع موسيقي، للكشف عن قطاع نفساني أو ثقافي أو وجودي مخصوص أو لإضاءة التقاطعات القائمة بين الأفراد ومحيطهم الطبيعي والتاريخي والاجتماعي.

1-الموسيقى الكلاسيكية: ( فريديريك شوبان وبيتهوفن و فرانز ليست)

قدمت في مفاصل مختلفة من الفيلم مقتطفات موسيقية مأخوذة من ريبرتوار الموسيقى الكلاسيكية.

وقد وظفت ست مقطوعات لفريديريك شوبان، وهي:

- الليلية رقم 2 المصنف9؛

- الليلية رقم1 المصنف15؛

- فنتازيا ارتجالية رقم 4؛

- سوناتا رقم 2 للبيانو المصنف رقم 35؛

- فالس رقم 2 المصنف 34؛

- كونشرتو بيانو رقم 2 بمصاحبة الأوركسترا المصنف رقم 21 ( الحركة الثانية).

ووظف مقطع واحد، لفرانز ليست، صديق شوبان وشريكه في الرومانسية، وهو المقطع التالي:

- ليلية "أغنية الحب" رقم 3 المصنف 62؛

كما تم توظيف مقطع واحد للودفيغ فان بيتهوفن (1770-1827) ، وهو:

- سوناتا بيانو رقم14 أو سوناتا ضوء القمر (الحركة الأولى).

لم يتم اختيار مقاطع موسيقية كثيرة نسبيا من ريبرتوار فريديريك شوبان (1810-1849) ومن إرثه النغمي الرومانسي اعتباطا؛ فقد كانت الصياغة الميلودية والكتابة الهرمونية، وإضافاته الرفيعة إلى اللغة الموسيقية حسب صاحب "تاريخ الموسيقى"، مطبوعة بالحنين المرهف إلى الحب من جهة والحنين الحارق إلى الوطن الضائع (بولونيا) من جهة أخرى.

كان انجذاب يحيي إلى أناقة الجملة الموسيقية ورهافتها ولطافة التعبير الميلودي لدى شوبان، سببا في اقتناعه بإمكان التحقق وتجاوز العوائق والمثبطات والاستجابة الفاعلة لنداءات الحب والوجود.

وقد سبق لنتيشه أن أكد على فرادة وتميز أسلوب شوبان في التأليف والبناء الموسيقي.

آخر الموسيقيين المحدثين الذي رأى الجمال وعشقه، مثل ليوباردي، هو البولوني شوبان الفذ (لا أحد ممن سبقه أو تبعه يستحق هذا الوصف) ، لقد كانت له نفس الأناقة الأميرية الاصطلاحية التي كان رفائيل يبديها في استخدام الألوان التقليدية البسيطة، -ليس فيما يخص الألوان، بل فيما يخص التقاليد اللحنية والإيقاعية. لقد كان يتلقاها باعتبارها قد ولدت في جو من اللياقة ولكنها تلعب وترقص في هذه الأغلال مثل أكثر العقول حرية ورشاقة –وذلك دون أن يزدريها)1.

فلما كانت موسيقى شوبان مزدانة بالحزن والشجن والحنين، كانت أنسب لوضعية نورا /بسمة، الغارقة في الاكتئاب والتذمر والتحرق إلى الاطمئنان الوجودي، ولوضعية يحيي/آسر ياسين، المشتاق إلى إبداع أصيل موصول بالمخيلة والوجدان والعقل. كما اختيرت مقطوعة لبتهوفن (1770-1827) وأخرى لفرانز ليست (1811-1886) ، لتوافقهما مع حالة وجدانية –نفسانية مختلفة نسبيا. ومن المعلوم، أن رومانسية شوبان انسيابية وشاعرية وهادئة، أما رومانسية ليست فهي سريعة ودينامية ومتفجرة.

تمس المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية دخيلة نورا /بسمة ويحيي /آسر ياسين، وذواتهما المطبوعة بالألم والحزن والاحتراق الداخلي والحيرة والحنق والغضب والتحرق إلى الأصالة الوجودية.

لم الجمع بين شوبان وبيتهوفن، رغم الاختلاف التقني والجمالي النوعي الكبير بينهما؟

من المعلوم أن ثمة اختلافا كبيرا بين بيتهوفن وبين شوبان، فيما يخص التصورات التقنية، وطرائق البناء والتركيب، وأساليب الكتابة للبيانو وحساسية الأذن.

وقد وظف مقطع وجيز من سوناتا "ضوء القمر" لبيتهوفن، للكشف عن لحظات ارتجاج نفسي واكتئاب مصحوبين بنزيف. وقد تميزت الحركة الأولى الموظفة في الفيلم، بغلبة الكآبة والشاعرية العاطفية والبكائية عليها.

الميل إلى العزف الحي

كان الافتتان بالعزف المنساب المشحون بالألم والشجن والأسى قنطرة التعارف بين يحيي/آسر ياسين ونورا/بسمة. تكمن جمالية الموسيقى، في بهاء تحققها، أي في جمالية العزف المشحون بذاتية وذوق وشجون ومواجع العازف. إن الموسيقى المكتملة والناجزة (المسجلة) ، لا تؤجج وجدان ومخيلة، إنسان -مثل يحيي- نذر حياته، للكشف عن المحجوب والمخبوء والأشياء الجاذبة في الحب والعشق والصداقة والعالم. فهو مهتم جوهريا، بتحقق إنسانية الإنسان، وهو يشحن اللحن المعزوف، بذاتيته المشروخة، وآماله وآلامه وبصمته الوجودية الخاصة. فهو مأخوذ بالتعبير والأداء، والتطلع إلى الإتقان الأدائي والبراعة، وجمالية التفاعل مع الأحاسيس والعواطف المتضاربة.

2- الموسيقى اللاتينية

تم اختيار معزوفة Yolanda مبهجة وجذلى وباعثة على الرقص والاحتفاء بالصداقة والحنين السعيد إلى ذكريات الماضي القريب /البعيد.

تمس هذه المقطوعة الفرد وهو يداعب الحياة وينثر الذكريات، ويعبث بأحزانه ومواجعه وأسقامه النفسانية وهمومه الوجودية وهواجسه الفكرية ويعلي من قيمة التحاب والتواد الإنساني.

3-الموسيقى العربية: (أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفايزة أحمد ومحمد قنديل)

تم توظيف مقاطع غنائية لأم كلثوم؛ وهي:
- عودت عيني ( تأليف أحمد رامي/ لحن رياض السنباطي/ مقام كورد)؛
- فات الميعاد ( تأليف مرسي جميل عزيز/ لحن بليغ حمدي/ مقام سيكاه)؛
- رق الحبيب (تأليف أحمد رامي/ لحن محمد القصبجي/ مقام النهاوند)؛
- لسه فاكر (تأليف عبد الفتاح مصطفى/ لحن رياض السنباطي/ مقام العجم).

كما وظفت أغنية وحيدة لمحمد عبد الوهاب وهي:
- كل داه كان ليه (تأليف مأمون الشناوي/ لحن محمد عبد الوهاب / مقام البياتي).

كما تم توظيف أغنية وحيدة لمحمد قنديل هي:
- أغنية "جميل واسمر"؛ (تأليف عبد المنعم السباعي/ لحن أحمد عبد القادر / مقام الرست)؛

واستحضرت أغنية واحدة لفايزة أحمد؛ وهي:
- أنا إليك قلبي ميال؛ ( تأليف مرسي جميل عزيز/ لحن محمد الموجي/ مقام الراست).

ولم يكتف المخرج بالمقطوعات الغنائية، بل وظف مقطوعة موسيقية لمحمد القصبجي؛ وهي:
- موسيقى ذكريات/ أو معزوفة ذكرياتي؛وهي من مقام النهاوند.

تم توظيف هذه المقطوعات الغنائية باعتبارها خلفيات ومرجعيات فنية وجمالية ذات تأثير كبير في صياغة الوجدان الجمعي. ولا تكتفي هذه المقطوعات بتغذية وجدان الشخصيات في لحظات التيه والحزن (أغنية "جميل و اسمر" لمحمد قنديل) كما في لحظات التذكر العذب ( أغنية "كل دا كان ليه" لمحمد عبد الوهاب) أو في لحظات الإغواء واقتحام عتبات الرغبة (موسيقى ذكريات أومعزوفة ذكرياتي لمحمد القصبجي) فقط، بل تضيء بدلالة الموافقة والمؤالفة ( أغنية "كل دا كان ليه" لمحمد عبد الوهاب) طورا أو بدلالة المخالفة والمضادة (أغنية "جميل واسمر") طورا آخر، نفسية ووضعية الشخصيات.

وكما ترتبط المقطوعات الغنائية العربية بفضاءات مخصوصة مغلقة غالبا (الأتليه والحانة والملهى) ومفتوحة أحيانا (السوق الشعبي)، فإن المقطوعات الكلاسيكية مرتبطة، عمقيا، بفضاء الشرفة بما هو فضاء تخومي تفاعلي.

وبينما يختار يحيي/آسر ياسين الاستمتاع والتمتع بعزف نورا/بسمة ويتأمل عالمها النابض بالألم والحزن والوجع والحنين والغضب ويتماهى معه، فإنه يستمتع بالمقطوعات الغنائية العربية، في سياق انشغاله بنثريات الحياة أو بتحصيل اللذات أو بالاستمتاع بالغوايات. وبينما ترتبط المعزوفات الكلاسيكية بلحظات ملازمة الذات واستبطانها واستقصاء مواطن الاعتلال فيها، فإن المقطوعات الغنائية، ترتبط بالمشترك، أي بلحظات ملازمة المجتمع ومقاسمته رموزه وتعبيره النغمي وحساسيته الجمالية.

إن الموسيقى الكلاسيكية مرتبطة هنا بالشعور فيما ترتبط المقطوعات الغنائية أو تحيل إلى اللاشعور الجمعي. وبينما تتطلب الأولى، معايشة وملازمة ومصاحبة صادقة للنغم وهو يتدفق، فإن الثانية لا تتطلب، على الحقيقة، إلا المسايرة أو المتابعة أو الاستحضار اللحظي للمخزون النغمي أو الإيقاعي.

وفيما تحيل المعزفات الكلاسيكية إلى متاهات التمازج الصوتي أو الهرمونيا، فإن المقطوعات الغنائية، تحيل إلى بهاء الميلوديا.

تمس المقطوعات الغنائية المختارة، الذوات وهي تستعرض المشترك النغمي والإيقاعي، وتتمرس باللذات والمباهج ( (إذاعة أغنية أم كلثوم في حانة) ، وتساير إيقاع الحياة، بحذر أو بأبيقورية مدركة أو غير مدركة أو برواقية صريحة أو ضمنية.

هل تكون الموسيقى الهارمونية، أقدر على الكشف عن مكنون الدخائل، من الموسيقى الشرقية الميالة إلى التطريب المفتوح والنغمية الرهيفة واستعمال العُرَب الصوتية والتلوينات والتنويعات والنشوة الإيقاعية ؟ أم أن التعدد النغمي، وتنوع السجلات الموسيقية، علامة من علامات التمسك بالوعي الكوسموبوليتي وما يرتبط به من تلاقح وإخصاب وإثراء وتمازج وتهجين؟

ألا تضيع الفرادات الجمالية والفنية والإنجازات التقنية، في ظل إلحاق المنجز الموسيقي المتفرد بالمشترك وبالذاكرة الفنية الجماعية ؟ألم يؤكد الموسيقار وليد غلمية على قوة حضور البيزنطي والوصفية الغنائية في موسيقى رياض السنباطي وعلى تفرد منجز الموسيقار محمد القصبجي مثلا؟

تميز القصبجي خصوصا في "رق الحبيب" بالعمل على المد الصوتي. أي أنه ترك للمستمع التفاعل مع الصوت وليس مع الكلمة، وبهذا المعنى تفرد القصبجي، ربما لأنه ابن أصوله الحلبية2.

4-الموسيقى التصويرية: راجح داوود.

وبينما تتكفل المقطوعات الكلاسيكية بالكشف عن حرائق ومواجع وتطلعات الذات، وهي تنزع إلى الإصالة الكيانية والتحرر من الاستلاب والقهر الاجتماعي (يحيي/آسر ياسين ونورا/بسمة) ، وتكشف المقطوعات الغنائية العربية، عن التلاقي أو التماس الجمالي بين الذات وأقرانها و أندادها ، فإن موسيقى راجح داوود كشفت عن تحولات الذات وهي تشتبك بجمال وقوة الطبيعة وأسئلة التاريخ وإشكاليات المجتمع وتتطلع إلى إجابات وجودية تاريخية شافية للغليل.

انشغل راجح داوود، إذن، بإضاءة مساحات التقاطع بين أشواق الحبيبين (يحيي ونورا) ، وبين مجهولات العالم والطبيعة والتاريخ. إذ لا يرد الحب في الفيلم، مجردا من تحولات التاريخ والمجتمع وتغير الطبائع والأذواق والسلوكيات (تراجع القيم الكوسموبوليتية وصعود ذرائعية ليبرالية رثة). لا يكتسب الحب -هنا -كل معناه، إلا متى ربط العالم الشعوري والذهني والوجداني للمتحابين، بالطبيعة (البحر) والتاريخ والعالم والمعنى الأكبر (موقع الفرد ودوره في تاريخ متحول). كان من الضروري، إذن، إضاءة هذا الارتباط الشعوري والوجداني، جماليا، وإنارته موسيقيا.

يعيش يحيي/آسر ياسين مسارته الوجودية، الطافحة بمتع الاكتشاف (الحب والعشق والموسيقى والحرية والصداقة والجنس ) وأهوال المسير (التيه والتمزق والجوع والألم والإحباط و مواجهة الذرائعية الرثة) ، في فضاء يشهد تحولات جوهرية: (هيمنة منطق التسليع والتسويق والمنفعة العاجلة/تواري الماضي الكوسموبوليتي للإسكندرية/إغلاق محلات الخياطة القديمة/حلول الفرجة الاستعراضية محل الإبداع المستوحى من ثقافات ضفتي البحر الأبيض المتوسط/حلول الكباريه محل المسرح).

5-تركيب:

تعبر الأنغام والإيقاعات في فيلم "رسائل البحر "، عن هواجس الذات وقلقها الوجودي، وهي تتأمل العالم، وتبحث عن معنى لرسائل الحياة الغامضة والملغزة، وتشتبك بكثير من الاحتدام والعنفوان مع تقلبات الحال، في محيط تهيمن فيه قيم التملك والتسليع. تنبري الموسيقى هنا، للكشف عن المكنون واستكشاف دروب التجربة الإنسانية ودهاليز الغواية وفضاءات العشق، وإضاءة نقاط التماس بين الفرد المنشغل كليا بأصالة الكيان وعالم تحف به قوى التدمير (الصيد بالديناميت/تدمير العمارات التاريخية /التخلي عن المشترك الثقافي والمثاقفة الإسكندرانية النموذجية في متخيل المثقفين. ).

هوامش
1- (فريدريك نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته-كتاب العقول الحرةII، ترجمة: محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2001، ص. 165. )
2- (وليد غلمية، حوار مع وليد غلمية، ضمن: الموسيقا العربية أسئلة الأصالة والتجديد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2004، ص. 39. )