مرت علينا قبل أسبوع الذكرى الثانية لرحيل الفتى الطائر الموسيقار جمال سلامة_ الذي حَلّق من شاطيء الإسكندرية الى صقيع موسكو، لينهل من محيط الموسيقى العالمية ويعود موسيقارًا "قد الدنيا"_ عن عمر ناهز الـ75 عاماً، متأثراً بإصابته بفيروس كورونا.

كان الموسيقار الراحل من أبرز المُجَدّدين في الموسيقى العربية عموماً، ومِمّن رفدوا أنهُرها بإبداعهم، وساهمَت موسيقاهم بتشكيل جزء من الذوق والوعي الموسيقي، ليس فقط للشعب المصري، بل ولأغلب الشعوب العربية التي إستَمَعَت لِموسيقاه وإستمتعت بها ونهَلت من ينبوع أنغامها، سواء كتترات للمسلسلات، أو كموسيقى تصويرية للأفلام، أو كألحان قدمها لكثير من المطربين. إضافة الى كونه من رواد التحديث، الذين ساهموا في نَقل مدرسة التأليف الموسيقي العربية، من الإرتجال والدَندَنة والحِفظ الشفاهي، الى الإحتراف العلمي والتدوين النغمي والتوزيع الهارموني.

نشأته
ولد الموسيقار الراحل عام 1945 في بيت فني يزخر بالأنغام والآلات الموسيقية. فوالده المؤلف الموسيقي حافظ سلامة، وأخيه الملحن فاروق سلامة عازف الأكورديون في فرقة أم كلثوم. لذا نشأ عاشقاً للفن والموسيقى تحديداً، وقد شَخّص والده ذلك، فشجعه على الإلتحاق بالمعهد العالي للموسيقى ليَصقل موهبته أكاديمياً، لكنه لم يكتفِ بذلك وسعى الى رفد دراسته الأكاديمية بالخبرة العملية، فعمل الى جانب الدراسة مع فنانين كبار، كما عزف في فرقة أم كلثوم قبل أن يتجاوز السابعة عشر عاماً.

بعد إكماله لدراسته في المعهد متخصصاً في آلة البيانو، الذي بات فيما بعد من عازفيه الماهرين، سافر إلى روسيا للإلتحاق بكونسرفتوار تشايكوفسكي في العاصمة موسكو، ليُثري موهبته الشرقية بالموسيقى الغربية، بالتتلمذ على يد أحد أساطين الموسيقى العالمية، وهو الموسيقار آرام خاتشادوريان، ثم عاد إلى مصر عام 1976 حاملاً شهادة دكتوراه في التأليف الموسيقي، حيث عمل عضواً في هيئة تدريس كونسرفتوار القاهرة بأكاديمية الفنون، كما كان عضواً في لجنة الموسيقى بالمجلس الأعلى للثقافة.

عطاءٌ زاخر
هذا التراكم من الموهبة والخبرة، كَوّن لديه خزين نغمي وأساس هارموني، إستطاع من خلاله أن يقدم باقة من أروع الألحان، وأن يُبدع بتأليفها وتوزيعها كل حَسب فكرته وأجوائه. حيث ألف خلال مسيرته الفنية الطويلة موسيقى تصويرية لأكثر من 200 عمل ما بين سينما ودراما تلفزيونية ومسرح، بالإضافة الى عشرات الألحان الغنائية. لذا أبدع في تلحين الأغاني كما في الألحان التي قدمها لسميرة سعيد وماجدة الرومي بنفس إبداعه في تأليف الموسيقى الدينية كما في مسلسل "لا إله إلا الله"، وبنفس إبداعه في تأليف الموسيقى الرومانسية كما في فيلم"حبيبي دائماً" ومسلسل"الحب وأشياء أخرى"، وبنفس إبداعه في تأليف الموسيقى الصعيدية كتتر مسلسل"ذئاب الجبل"، وبنفس إبداعه في تأليف الموسيقى الدرامية كما في فيلم"رحلة النسيان" و"العذاب إمرأة"، وبنفس إبداعه في تصوير الموسيقى التصويرية لمسرحية "شارع محمد علي". وقد لعبت موسيقاه دوراً كبيراً في تخليد أغلب هذه الأعمال.

إن قائمة الأعمال الناجحة والخالدة للموسيقار جمال سلامة تطول، فقد وضع الراحل الموسيقى التصويرية لأشهَر المسلسلات الدينية مثل "محمد رسوال الله" و"لا إله إلا الله" و"أبو حنيفة النعمان". أما الفن السابع، فمن أنجح أعماله له الموسيقى التصويرية لفيلم "حبيبي دائماً" و"أفواه وأرانب" و"أريد حلاً" و"ليلة بكى فيها القمر" الذي لَحّن أغانيه وأشهرها "ساعات ساعات". كما لَحّن الكثير من الأغاني الناجحة لسميرة سعيد، مثل "جاني بعد يومين" و"مُش حتنازل عنك" و"وحِشني". كما لَحّن لماجدة الرومي بعضاً مِن أشهر أغانيها، مثل "بيروت سِت الدنيا"، وقصائد لنزار قباني منها "مع الجريدة"، وكان من أسباب حُضورها إلى مصر، وتبنّاها فنياً بحكم علاقته القوية بوالدها.

من ناحية أخرى، كان التعامل بين الموسيقار جمال سلامة والزعيم عادل إمام إستثنائيا، فقد وضع الموسيقى التصويرية لـ13من أعماله، بينها مسلسل "أحلام الفتى الطائر" وأفلام "الانسان يعيش مرة واحدة" و"غاوي مشاكل". كما كانت علاقته بالأديب نجيب محفوظ مُمَيّزة، فقد كان صديقاً له، وقام بتأليف الموسيقى التصويرية لرواياته عندما تم تجسيدها تلفزيونياً، مثل"بين القصرين" و"الكرنك" والتي جاءت كالعادة مُعَبّرة عن أحداث الرواية وشخصياتها.

الروح الشرقية
لقد سَعى الموسيقار الراحل لتقديم أعمال موسيقية تعتمد على ما تعلمه خلال دراسته للموسيقى الكلاسيكية فى روسيا. لكن بعد عودته لمصر، وجد أن السائد المَسموع بين الناس هو نمَط ألحان مدرسة عبدالوهاب والموجي وبليغ والطويل، التي تعتبر أن من يَدرس الموسيقى العالمية لا علاقة له بالموسيقى الطَرَبية التي يسمعها ويُحبها الناس، لذا إضطر حسب قوله، الى تقديم أعمال يَسمَعها الناس تنافس كبار الملحنين، لكنه كان يُطَعِّمها ببَعض ما تعَلّمه من سِحر الموسيقى العالمية وطابعها الأوركسترالي، وكان البيانو حاضراً بأغلب ألحانه. لذا كان المرء يُمَيّز فيها عدم إنتمائها للمدرسة المذكورة، مع محافظتها على الروح الشرقية وتفرّدها بالشجن، فهي شرقية فيها شجن لكنها ليست طَرَبية، ويشترك في هذه الخاصية بموسيقاه مع الموسيقار عمر خيرت والرحابنة، ويمكن أن نميزها بوضوح في ألحان على شاكلة مقدمة "مسسلسل الحب وأشياء أخرى" أو"محمد رسول الله" التي تبدو كأغنية أوبرالية، سواء بلحنها أو بأداء ياسمين الخيام، أو بأغاني عاطفية مثل "جاني بعد يومين" أو "مش حتنازل عنك أبداً"، التي تشجيك، لكنها لا تُطربك. وهذه بالمناسبة ميزة أكثر مِنها مَثلبة.

قصةٌ جميلة
وهناك قصة جميلة رواها في أحد البرامج الإذاعية تتعلق بإستخدامه للبيانو في لحن مقدمة المسلسل الديني "محمد رسوال الله". يقول: "رشّحني الشاعر عبدالفتاح مصطفى لتلحين تتر مسلسل"محمد رسوال الله" بعد أن إستمع لعملي مع ياسمين الخيام في أوبرا عيون بهية. كانت التتر يبدأ بعبارة "دعوة إبراهيم"، وإقترحت أن نضع قبله عبارة"محمد يا رسول الله" التي لم تكن موجودة فى الأغنية، وفعلاً وافق المخرج أحمد طنطاوي. لكن عندما إنتهيت من اللحن وسمعه صرخ قائلاً: "إيه يا دكتور، دَه كفر، إنت حاطط البيانو في عمل ديني؟"، وكانت أول مرة يدخل البيانو فى لحن عمل ديني، فزعلت ونزلت من الأستوديو، وفوجِئت بعرض المسلسل في أول أيام رمضان وبه ألحاني، وإسمي ليس على التتر! لكن تمّت إضافته بعد تدخل الرئيس السادات".

في نوفمبر 2020، تعاون جمال سلامة مع دار الأوبرا المصرية في مهرجان الموسيقي العربية، وقام بعزف بعض من مؤلفاته علي المسرح مع أوركسترا القاهرة السيمفوني، ليكون هذا الظهور بمثابة عودة مؤقتة وأخيرة للموسيقار الكبير إلي الساحة الموسيقية قبل رحيله.