"الكتابة مخيلة تتلهف إلى سعادة الكلمات"
رولان بارت.

ليس هناك أعقد من تقديم قطاف بِكْرٍ قدّر مؤلِفه في سماحة سجاياه أن في استنطاقنا لمحتوى عروضه كشف لطرافته واستحضار دقيق لمناخاته، وهي مناخات تواشجت ضمنها أبعاد وجدانية وجمالية تعضُدها حجج معرفية وعقلانية، عكف من صاغها بطريقة مبسّطة احتلت موقعا وسطا بين سلاسة لغة التخاطب وضوابط لغة المعرفة، على عرضها بشكل مفارق يعزّ حضوره لدى غيره من المولعين بالموسيقى، ذاكرة وتاريخا، أو من المؤلفين المتخصّصين في هذا الضرب من صنوف المعرفة.

بالحدس وحده يستشعر المرء ثراء لحظات غبطة مختلسة غيّبتها شدائد سنوات الكدّ والمغالبة، يستحيل علينا عقلا ومنطقا استعادتها في نظارتها الأصلية، حتى وإن قُدر لنا أن نضحّي من أجل ذلك بنفيس ما نُقش في ذاكرتنا من جليل الوقائع. فالطفولة مربّع أصيل يسكن عميقا في ذاكرتنا نحتاج دائما إلى بذل جهد خرافي قصد انقاذه من غياهب التلف والنسيان، فجميعنا غير قادر على تحمّل ضربات الزمان الـمُوجعة والوقوف من جديد، لولا تشبثنا بقدر غير قليل من براءة الطفل ورفضنا الملحمي لابتسار أفق الإنسان في مسار محتوم نحو غياهب النسيان.
فقد أصرّ محــمد عماد الزرقاء مستعينا بملون أقلام ذاكرته الخرافية، وضمن قطافه البكر الذي حمل عنوان "الدرجة الصفر من الموسيقى" وصدر خلال الأيام القليلة الماضية عن الدار التونسية للكتاب، على استعادة مشاهد من حديقته الخلفيّة.

"يد فانية" تخطّ منتخبات لخواطر عاصفة وذكريات عابرة، تعقّبت بتدبّرٍ وطرافة تقلّبات الأزمنة وأهلها. لتحفر في أعماق طبوع أوطان التونسيين، مدنا وعروشا وبادية، وتَجْلُوَ روابط ثقافية متشعّبة عتم عليها ادعاء الصدور عن أصول عربيّة، أو التفاخر بالانتظام في سلك إسلام واجهة، بعد تراجع التركيبة القبيلة الأصلية وابتسار آصرة الأخوة في الله في الافتتان بشيوخ الطرق والاستغاثة بالصلاح والاحتماء بأربابه على الحقيقة.

قَدَّرَ المؤلِف -وهو على تمام صواب- أن استشكال الدرس الموسيقي من بوابة ما وسمه تفاعلا مع مؤلَف "رولان بارت، الكتابة في درجة الصفر"، خَلِيقٌ بأن يُدرَجَ ضمن تصوّرٍ عابر للتخصّصات تحيل مضامينه على زخم هائل من المعارف، ارتأينا اختزال مضامينها المتعدّدة في خطابين: يحيل أولهما على تجليات الذاكرة، ويحفر ثانيهما، تجاوزا لضيق العبارة، في ثنايا أبعاد تلك الذاكرة المعرفية والمنهجية.
لكن لو حاولنا قبل مراجعة تلك الابعاد تقريب مدلول تلك "الدرجة" التي وَصَلَهَا "بارت" بالمعرفة الأدبية، وطابقها المؤلِف في غواية دالة مع ما احتفظ به حول المعرفة الموسيقية، ذاكرة ومنهجا.
درجة الصفر مجدّدا

ليس من الصعب أن ندرك حدسا، وحال تصفح محتويات هذا الكتاب، طبيعته المخبرية المستعصية على كل تصنيف. فقد تخيّر محمد عماد الزرقاء للحديث عن هواجسه الناظمة لاصطدامه بمن قاسموه العيش ضمن مختلف فضاءات التعيين الاجتماعي، الخاصة منها كما العامة، ردّ تلك الهواجس إلى توصيف دقيق لمأساته الإبداعية التي شَاكَلَتْ الدرس الموسيقي من بوابة صياغة مشروع طريف غير مبذول، هدفه - فيما شُبّه لنا- مصالحة حرية القول مع رِسْنِ الذكرى. لذلك قضى البَتُّ في مختلف استفهامات ذلك المشروع إبداعا موسيقيّا (المقام، والتصيح الصوتي، والايقاع، والانماط أو الطبوع، والانشاد، الغناء)، ونظما (النص، والاسطورة، والدراما، والتراث، والتفكير، والبحث، والصورة والصوت) ومَوْئِلاً (الشرق والغرب، والمتوسط، والزنوجية الافريقية، والمدرسة، والجامعة والمصيف، والسوق، والفضاء الافتراضي) واجتماعا بشريا (الخوف، والجنون، والعنف، والجريمة، والاقصاء، والتَوْتَمُ، والدين، وراس المال، ونمط الإنتاج، والقوميات، والثورة، والوباء)، رد صياغتها إلى "لغة بيضاء" تقع على تماس أسلوب المشافهة في لغة التخاطب، ونقصد اللهجة التونسية المتداولة طبعا، ممزوجة بلغة أدبية منقلبة على ذاتها تحتفى بإنتاج الدلالة دون كبير عناية بأشكالها الزخرفية وذلك على منوال ما استنبطته عارضة أهل القِوَالَةِ والنافخين في روح الكَلَمِ منظوما كان أو منثورا.

يعيدنا هذا التصرّف مجدّدا إلى مربع أليف يحيل على علاقة اللغة بالأسلوب كما استشكل ذلك "رولان بارت" في ما وسمه بـ "الوحدة الأيديولوجية للبرجوازية"، تلك التي أنتجت نمطا مُحدَثًا التزم بتفجير أنماط الكتابة الكلاسيكية. فقد قدّر أن انطلاق الكتابة من العدم هو الذي سمح للغة بتجاوز إطار الترسيخ، وحوّلها من موضوع للتأمل، إلى موضوع للفعل، فموضوع للقتل، لتصبح حاضرا موضوعا للغياب ينبني على أقصى درجات الحياد، وهو معنى "الكتابة في درجة الصفر"، تلك "الكتابة البيضاء" التي لا تكترث بالزخرف الأدبي، لتستقي نسغها من الحكيّ قصد التعبير عن أشكال "تمزق الشعور" الناشئ عن مجابهة المجتمع، مع نوع من الترحيل transfert المأسوي الذي يفتح على منابع الالهام أو الابداع. ولأن اللغة ليست بريئة على الاطلاق، وأن للكلمات ذاكرتها، فإن تمازج الدلالات الـمُحدثة مع القديمة، هو ما يبني المصالحة بين الحرية والذكرى على الحقيقة، فتتحوّل الكتابة عندها إلى "حرية متذكرة"، تتخلّلها أصداء عنيدة للكتابات السابقة. ويعود السبب في حصول ذلك إلى الانقلاب الطارئ على الـمُدركات والمشاعر نتيجة للتنافس الشديد بين البنيات الاقتصادية القديمة والحادثة، بحيث لا يكون أمام الأدب إلاّ اختياران لا ثالث لهما: فإما أن يتقصّى مواصفات الشكل فيبقى أصما عن جميع ما يدور حوله، وإما أن يُدرك الكاتب نضارة العالم الراهن، حتى وإن لم يملك للتعبير عن ذلك سوى لغة ميّتة. وهو ما يشي بفظاعة مأساة كل مؤلف فذّ إزاء الورقة البيضاء. لأن التاريخ سيضع بين أصابعه كتابة ورثها عن غيره، هي الوحيدة التي بوسعه استخدامها، لذلك سيجد نفسه مضطرا إلى خوض معركة ضد موروث الأسلاف من بين أولئك الذين حوّلوا الأدب إلى طقس مقطوع عن دواعي المصالحة مع المجتمع، والحال أن خلاصه يكمن في خلق لغة يُرسلها حرّة، فتعود إليه مصطنعة يشوبها الرياء والانغلاق، تعبيرا عن مأزق مجتمع برمته. وحدهم الافذاذ من صناع الكَلَامِ بوسعهم الإفلات من ذلك المصير، مُستنبتين أسلوبا شفاهيا يجسّم "الدرجة الصفر" أو الدرجة المحكيّة للكتابة"، في معانقتها للسياقات المعيشة للاجتماع البشري، وردّها بظاهر اليد لكل شفرة مغلقة متعالية للكتابة. فاللغة الحديثة شهادة حيّة عن الصراع بين الفئات أو الشرائح الاجتماعية المتباينة المصالح، والكتابة الحرّة شعور حادّ بالتمزق بين زمنيتين، وجهد يأبى الانقطاع عن معاودة الكرة قصد تجاوز ذلك الـمطبّ أيضا.

في العثور على الزمن الضائع:
يحيل البحث في تمثّلات التونسيين وتصرفاتهم حيال الوسط الطبيعي على دراسة الجوانب الثقافية للممارسات المتصلة بإنتاج خصوصيات معاشهم المشترك، وكذا على دور التمثلات الجماعية في صياغة المعرفة بمجال الانتساب. وليس من سبيل إلى فهم ذلك الواقع من دون استكشاف الخصوصيات الثقافية المتّصلة بالمعتقدات والقيم والأيديولوجيات المهيمنة والفنون والملكات، في بعديها اليدوي أو التقني والنظري والفكري. وهو ما يربطنا بما راكمه التونسيون من موروث ثقافي ومعرفة مفصّلة بخصوصيات المجال الذي استوطنوه، وكيفية تعقّلهم لواقعهم المعيش أيضا.

هذه النظرة للجغرافية التونسية كنتاج للتصوّرات الثقافية، هي التي يتعيّن علينا الاحتفاظ بها حال تصفّح مؤلفين محورين فيما نحن بصدده ونقصد كتاب محمد بن عثمان الحشايشي (1853 - 1912) "الهديّة والفوائد العلميّة في العادات التونسية" وكذلك كتاب الصادق الرزقي (1874 - 1939) "الأغاني التونسية"، وهما مؤلَفان طريفان في ضربهما، جمع أولهما صنوف من المعارف وضّحت ترتيب معاش التونسيين وكيفية جري عوائدهم وأخلاقهم وطباعهم وطقوسهم في سراّئهم وضرّائهم، بحيث تمّ رد التحليل إلى جملة من الأبعاد تسمح بالنظر في تاريخ المجال الجغرافي كإطار لمختلف عمليات المدّ أو الغزو، وهي عمليات وضعت التونسيين في مواجهة غيريات أجنبية، غالبا ما سعت إلى استيعابها حضاريا وثقافيا بعد فرض غلبتها عليها. كما اقتضى ذلك أيضا التعرّف على علاقة التجربة المعيشة بالمجال الجغرافي، وتطوّر تقاليد التونسيين ومكوّنات ثقافتهم اللامادية، قبل تقييم الجهود المبذولة من أجل تذليل الصعوبات التي طرحتها مسألة فهم العناصر المحدّدة للانتساب تونسيا، والتدقيق في مدلولها طبقا لما اقتضته الحياة من ترتيبات في التعامل مع المواضعات السلوكية والأخلاقية والتعبديّة والطقسية، قصد الحصول على صورة دقيقة عن تصرّفات التونسيين وردود أفعالهم، وتفسير ذلك بطريقة تنأى عن جميع التصوّرات الانطباعية أو الحسّية. وهو ما انجلت عنه حقيقة اكتناف البلاد، مع قلة نجابة سكانها في تجاوز مستويات التعيين التقليدية وفي مقدمتها رابطة العروبة وإعلاء مكانة الصدور عن الإسلام، تلك الأسس التي ضمنتها لزمن طويل الروابط القبلية الدموية ووسعت في نطاقها آصرة الأخوة في الله والتقرب إليه عبر الاستغاثة بالصلاح والاحتماء بأربابه، حتى وإن عكست أراء الحشايشي في جملتها -وعلى دقتها التي لا تمارى- حقيقة وقوفه مع اجترار السائد والتزامه بحدوده، والتهيب من الجديد أو الخروج عن العُرف والتهاون بالعادة، فضلا عن القبول باستعلاء سكان عاصمة البلاد أو حاضرتها عمّن سواهم من أهل "الآفاق" بإحالة باديتهم الوضيعة ومفاوزهم الخالية من كل عمران على الدرك الأسفل من التراتب الاجتماعي.

وبالتوازي مع هذه الصورة فإن التدقيق في مدلول تمثّلنا لتجانسنا الاجتماعي والاعتراف بانتسابنا إلى وطن مشترك يمتلك إرثا غنائيا وموسيقيا، لا يمكن ألاّ يردنا إلى أثر بليغ في عادات التونسيين وتقاليدهم وآدابهم في الفن والغناء، مر على خطه قرن من الزمان، أهداه محمد الصادق الرزقي للمكتبة التونسية، بعد أن تخيّر له عنوان: "الأغاني التونسية".

ولئن بدا لنا من الصعب تحديد مقومات الممارسة الموسيقية تونسيا وعودة القرائن الدالة على إرهاصاتها الأولى إلى آلاف السنين، فإن ما تناقلته الأجيال عبر التواتر الشفوي من ميراث، هو ما شكّل مخزونا وصل إلينا في أشكال تعبير موسيقية يحسُن اختزالها في ضروب أساسية ثلاثة هي: الموسيقى الشعبية، وموسيقى "المالوف"، والموسيقى الطُرقية، بحيث تضمّنت فريدة الصادق الرزقي لمحة تاريخية جامعة حول علاقة العرب بالـمَغْنَى، قبل التفرّغ للوقوف عند مكوّنات الموسيقى المتقنة الموسومة بـ "المالوف"، فمضمون الاحتفالات الدنيوية والدينية والقائمين عليها، فضلا عن تعريفات موجزة بالطرق الصوفية المنتشرة بالقطر التونسي، وتوضيحات دقيقة ومفيدة بخصوص طقوس احتفالها. لتُختم تلك العروض بملاحظات حول عدة ظواهر ناسلة عن الـمَغْنَى التونسي تأتي في مقدمتها الموشحات الموضوعة في الطبوع والإيقاعات التونسية، وملحون أزجال الهامشيين أيضا.

وإذا ما رمنا ربط هذه العروض التراثية التي بتّت منذ قرن أو يزيد في عادات التونسيين وتقاليدهم وفي أشكال احتفالهم وإنشادهم وطبوع موسيقاهم وأوزانهم، فإن ما اقترحه علينا محــمد عماد الزرقاء في هذا المؤلَف يشكل في عمقه - وفيما نجزم- عودا مبهجا على بدء، وتواصلا منتجا لعزيز الدلالة مع هذا الرصيد المؤسس للمعرفة الموسيقية، مراكمة وانقلابا على سائد المضامين أيضا.
فلئن تدفقت مياه الكَلَامِ على السجيّة، كلمات ومواويل وقصائد وطبوع وموازين وإيقاعات وأشغال مُتْقَنَة لمن وسمهم المؤلِف بـ "الصْنَايّعِيَّة"، أو "الغَنَّايَا"، أو "لـإِدْبَا"، فتلونت أصوات القوّالين توافقا مع محليّ اللهجات وما راكمته من ترسّبات سابقة وتأثيرات متداخلة، وتدفقت النغمات بنصوصها وأصواتها وطُبوعها، عاكسة تعدّد الأذواق، شأن اختلاف مُحكم الأطعمة ولذيذ الأطباق، فإن تتواشج أصوات جمّاع التونسيين في تعدّد أنماطها من "حيطي" و"مثلوثي" و"عبيدي" و"ركروكي" و"قبلاوي" و"شهيدي" و"طرخاني" و"جندوبي" و"طوّاحي"، وغيرها، يبرهن على تعدّد النماذج الحيّة للقول المـُغَنَى، كما على قدرة لغة التخاطب على التبليغ ورصّ الصفوف وإنتاج الدلالة وبناء الحضارة والسمو بثقافة الشعوب. مما يدعو إلى مزيد استجلاء خفايا تلك اللغة وأشكال ردّها إلى الطبوع الموسيقية وجمالياتها، اقتفاء لما يكمن في مخزوننا التراثي من خيال وصور سردية، وحماية له من حريق النسيان والفناء الذي يترصّد ما بقي من العارفين بأفانينه، إذ كلما غيّب الموت أحدهم أتلفت ألسنة لهيب النسيان جناح من مكتبة جماعية تُحيل على صميم ما وسمه صالح القرمادي بـ "لحمة [التونسيين] الحيّة". لذلك اعتبر المؤلِف أن ترابط الأجيال ناظم لسلسلة العادات وحافظ لشجرتها اليافعة بأوراقها الخضراء، أما ما سوى ذلك فتبلّد للذوق يُعدم تناقل المعارف بالتعويل على التذكّر والذاكرة، وإحياء السماع كابر عن كابر، مع شحذ مَلَكَةِ الفضول وسرعة الخاطرة، ردا لتشرذم الخلائق وذهاب ريحهم وتفرّق خطابهم على أكثر من دلالة أو معنى.

يستجلب محمد عماد الزرقاء لتوضيح مقاصده عينات طريفة مما احتفظت به ذاكرته تثبيتا لموروث الأجداد الثقافي اللامادي، محدّدا مطلبه في مراكمة مكاسب المعرفة، "عالمة" كانت أو "شعبية"، وذلك بغرض القطع مع دواعي التحجّر وضيق الأفق، أو الاستئناس بمنطوق إيديولوجيات حسيّة مقفلة ولّى فصلها بعد انقضاء سياقات توازن الرعب وصراع المعسكرات، فتحوّلت إلى ما يشبه "النوستالجيا" المدعومة بمضحك الأحابيل ومفرغ الأصداف منذ ما يزيد عن الربع قرن، مع التسليم بجملة من الترّهات الكاذبة وانعدام الحيرة الخلاقة والتساؤل الفكري المجدّد لصياغة الواقع وإدراك التحوّلات المذهلة التي تعصف، الآن وهنا، بالعالم، لكأن الجميع متهيّبا من منازلة الرداءة ودحرها، متمسّكا بالهروب إلى الأمام، غير مُعترِف بكارثية الواقع المقطوع عن الانخراط في التحصيل أو المسك بناصية المعرفة. فمنطق الانتهازية واحتلال المواقع الأمامية دون التوفّر على أي مَلَكَةٍ حقيقية، هو ما يُوشك على تحويل الأجيال الصاعدة إلى حثالة من العاجزين عن رسم أفق جديد في انتظار السقوط مُكرَهين في هيمنة الدخيل المستنبت في غير تربته، مع تعاظم الدونية المزدوَجة إزاء الغرب كما إزاء الشرق.
اختار مؤلِف "الدرجة الصفر من الموسيقى" أن يؤسس لخطابه الذي شدّه إلى ذاكرة حيّة وقادة، ربطه بميراث مشترك بين الانتساب العائلي والصدور عن القيروان مدينة الانتماء ومسقط الرأس. فقد اتصل اهتمامه بعالم الموسيقى وتذوّق أفانينها بحبّه لوالده الشيخ حمودة الزرقاء الذي ورث بدوره صناعة الموسيقى عن والده، فأبدع في نظم وتقديم وتنفيذ نوبات المالوف وأظهر تمكّن غير عادي من طبوعها البديعة. على أن يتسع أفقه عبر الاحتكاك بشيخ الفنانين التونسيين أحمد الوافي، كما التنقل باستمرار بين مختلف جهات البلاد قصد البحث عن تصحيح أزجالها من رصيد المالوف والتعرّف على تلويناتها ومفاتيحها اللحنية. ولم يكن للشيخ حمودة أن يَهِبَ وحده حياته الطويلة لإتقان ضروب الفنون الموسيقية عزفا وإنشادا، فقد حرص مؤلِف هذا الكتاب على استجلاب حكايات وشهادات متنوعة اتصلت بزمرة ممن تقاطعت جوانب من مساراتهم مع عالمه العائلي الوديع، واستعذبوا أنغامه، ليدسّ في ثنايا عروضه ذكريات لعلامات وضاءة في ضربها، مستحضرا مواقف بديعة دلت على مضاء نظر وقدرة على صياغة المسافة الضرورية، بل وتحليل الوقائع بمبضع جراح ماهر، بحيث تبيّنت لنا مواطن تلاقح المعارف وتمازجها الذي ينمّ عن علوّ الكعب ورقة الأحاسيس وفيض الخواطر. فقد دلف إلى صحن بيت آل الزرقاء "علي البراق" و"عبد المجيد بن سعد"، وغيرهم من شيوخ الطرق المحسوبين على فرق "العوامرية"، والعلوية، فضلا عن حذّاق الموسيقى النحاسية، والعارفين بموسيقى "البنقا"، وأشغال "المزاودية" و"عروبياتهم" الفاتنة التي استحضر المؤلِف بعضها تلميحا مثل أشغال "علي السيقاني" و"محمد علي العيدي".

بينت لنا مصاحبة المؤلف في استجلاب تلك الحكايات أو المآثر أن الهدف الأساسي من ذلك هو توضيح الغامض وتصويب المعتلّ من الآراء حول المقامات والاوزان، بردّها إلى مبادئها الاثنية وسياقاتها المحليّة التونسية، واتصالها بتلاقح الوسطين الريفي والحضري منذ ثلاثينات القرن الماضي، على شاكلة الرابطة المخصوصة التي شدّت مقامي "العروضاوي" و"العزيبي" في الكتابة اللحنية لما وُسم منذ تلك الحقبة الزمنية بـ"التونسة" في صياغة مشروع الدولة الوطنية التونسية، وكذلك الشأن بالنسبة لشرح الأشكال المعقّدة لخفض الاوزان البدوية قصد مواءمتها مع الذائقة الحضرية في علاقة طبوعها ومقاماتها بـإيقاع "المدوّر حوزي".
غير أن ما يتعين الاحتفاظ به من مختلف ما حرص المؤلِف على استعراضه، هو تشديده على فكرتين محوريتين تحيلان على التمسّك بالأصول المتوسطية للموسيقات المحلّية التونسية بمختلف مركّباتها، وهي أصول تم غبطها والتعتيم عليها بالتعويل على الـمُـخرجات الكارثية لمؤتمر القاهرة المنعقد سنة 1932، تلك التي اعتبر محمد عماد الزرقاء - وهو على تمام صواب- أنها قد مثّلت تعدّ صارخ على الهوية الموسيقية التونسية وابتسار لتنوّعها وضرب للكثير من مكونات ميراثها القديم.

اتساع المعنى وضيق العبارة
بتّت بقية عروض هذا الكتاب في علاقة التراث الموسيقي التونسي بامتداداته المتوسطية، والغربية، والمشرقية، والمغربية، كما وضّحت لنا اتصال تلك الظاهرة بمختلف مؤسسات تدبير الاجتماع البشري على غرار البيت، والشارع، والمدرسة، والدولة، وعلاقته بأشكال الاتصال أو بالوسائط السمعية والمرئية والافتراضية، متوقّفة عند علاقة النظام الاقتصادي الرأسمالي بتبضيع الموسيقى وإخضاعها لإكراهات التداول والتسويق، في ظل منظومة شبكية كونية اتسمت بهيمنة الشركات العابرة للأوطان، تأرجحت محصلتها بين وعود موهومة بتوسيع قاعدة النماء ومطبّات تحيل على كارثية منجزها الذي يوشك على ضرب سلامة الحياة وتواصلها. وهو ما اتضحت لنا نتائجه من خلال حفر المؤلِف في العلاقات المربكة التي ربطت الظاهرة الموسيقية في الفضاءات الحضرية المستقرة، بالخوف، والجنون، والعنف، والجريمة، والاقصاء، والتديّن، وصراع القوميات، واندلاع الثورات، وتفشي الأوبئة.
فقد اعتبر محمد عماد الزرقاء أن الظاهرة الموسيقية تضعنا وجه لوجه إزاء ما نعته "جمال حمدان" بـ "عبقرية المكان"، فالجغرافيا في تصوّره تصنع الموسيقى، بل وتشكل مجالات نفوذها. فقد وهبت إمبراطورية النمسا رصيدا عريضا للموسيقى الكلاسيكية مهّد لنمو الصناعات الموسيقية وأنماط الموسيقى السنفونية والأوبيرالية. وعاينت بلاد اليونان ومملكة مقدونيا نفس التطوّرات التي ثبت تأثيرها لاحقا في تنامي الظاهرة الموسيقية مصريا. كما نبّه المؤلف إلى مغبّة تجاهل دور موصل العراق وحلب الشام في تطوّر نفس تلك الظواهر الموسيقية التي تأسست على ميراث الحضارة السومارية الأولى القريبة من بلاد الفرس. لذلك أثّر قدوم الموسيقى من الشرق في أزجال وموشحات بلاد المغارب، فتداخلت ضمنها أرصدة موسيقية شتى، انفتحت على الموسيقى الزنوجية والموسيقى الجنوب أوروبية، لينتج عن ذلك اللقاء ثقافة جديدة تحمل سُلَّمًا موسيقيا مختلفا، تفاعلت ضمنه "الأغنية" في شكلها المتوسطي الأول مع الإنشاد الشرقي الموصلي الزجلي التوشيحي، واعتُبر الموشح في شكله الغنائي الأول نمطا موسيقيا وُلد في جغرافية العراق، ليندرج ضمن نمط موسيقي آخر أنتجته جغرافية المتوسط. بحيث بدا للمؤلِف أن منطقة طرابلس الليبية قد شكّلت مصدرا للكثير من الأشكال الموسيقية التونسية الغامضة والخفيّة، تلك التي انتقلت بداية من القرن السابع عشر عبر الطريقة السلامية، وهي طريقة حملت مخزون موسيقات شرق افريقيا والمتوسط وجنوب أوروبا، وانتجت خصوصية نعثر عليها في عناصرها الإيقاعية وأشكال إنشادها الجماعية أو الفردية التي تقاطعت بشكل مربك مع أشغال المنشد "التروبادوري".

كما وفدت على التونسيين أوائل القرن العشرين من بلاد اللبيين أشكال مكمّلة أبرزها الـمِزْوِد الوافد من واحات فزان تزامنا مع هجرات اليهود الطرابلسيين. واستقبلت البلاد موسيقات دينية أخرى ذات أصول إفريقية مثل أشغال "البنقة" أو "الصطنبالي"، بدا للمؤلف تقاربها مع موسيقات أوروبية وأمريكية مُحدثة أبرزها "البلوز" و"الجاز".

ولا غرو بعد هذا أن نحسب لمحمد عماد الزرقاء تمسّكه بالانتماء إلى الذائقة الفنية التونسية، تلك التي قدّر بعد عرض الكثير من الأمثلة الدالة عن تشبّث كبار الفنانين والموسيقيين بخصوصيات تراثهم، أن اعلاءها والدفاع عن خصوصياتها أصل كل التزام حقيقي، في تساميه على ما عاينته فضاءاتنا المدرسية والجامعية ولا تزال من غربة وقلة ذوق، غالبا ما تمّ ردّهما إلى مضامين إيديولوجية لا تمت لموروثنا الفني التونسي المتوسطي، ولا لمقاييس الكتابة الموسيقية الرفيعة بأدنى صلة. كما عاب على المؤسسات والقنوات السمعية والبصرية منطقها الربحي الذي يوشك على قتل الأنماط الأساسية للأشغال التونسية، مُبيّنا كبير عناية الدول المتقدّمة بتلك المسائل، توثيقا وتدريسا، وقدرتها على ربط القديم بالـمُحدث، مع حفظ ميراثها الموسيقي وتطوير أساليب أدائه لكي تتوافق مع الذائقة الجمعية ويُقبل عليه الكافة.

بقي أن نعرف أن تأويل مؤلف هذا الكتاب لعلاقة الموسيقى بالحياة الدينية وبالأبعاد الوجدانية قد استند إلى سيرورة مرت ضمنها الفنون من المعبد إلى البلاط، ومن الكاهن إلى الملك، ومن الدين إلى السياسة. فقد اثبت التاريخ أن الموسيقى فعل جمالي صوتي له جذوره الدينية، سواء تعلق الأمر بشيخ الجوق غربا أو شيخ المرتلين والمنشدين شرقا، في مسرحتهما لقوالة النصوص، وذلك مدلول الترتيل في نظره على الحقيقة.

وهو أيضا ما تأسست عليه لاحقا النصوص الدرامية المتمركزة حول الانسان بوصفه كائنا تراجيديا منتجا للحضارات، تخضع تصرفاته للحب والتمرّد والعشق والخيانة والاحساس بالذنب، والتشوّف إلى الخلاص أيضا.
والمربك بهذا الصدد حقا أن اشتغال المؤلِف على اضطرام المشاعر التي يُحدثها السّماع، هو ما دفعه في غواية دالة إلى استجلاب ذكريات شخصية بليغة أوقفتنا على رهافة حسّ صديقه الوديع الساذج "رمضان بن زيتون" الذي فتنته الموسيقات الحضرية شعبية كانت أو عالمة دون سواها، فانخراط في تذوّقها على بساطة إدراكه بشكل غامر تستحيل مقاومته، مستحضرا بهذا الصدد ما سمعه عن والده الشيخ حمودة الزرقاء بخصوص دخول جمل ناعورة مقهى "الصفصاف" بالمرسى في حالة وجد خالص، حال استماعه إلى طبع "النوى" في "نوبة الجمل".
ولا يختلف وضع الذوات العنيفة من أهل الجريمة أو من هامشي الارباض بالحواضر، عمّا أقررناه، فقد روي لنا محمد عماد الزرقاء بعفو خاطر مشوب بتدبير بليغ، حكايات منقولة عن أبيه تكشف في عمقها عن جسامة إحساس أولئك المفقّرين بآلام الاقصاء والرفض، وتقلّبهم في لحظات السماع بين شفافيّة متجلّية وتشنجن جنوني قَلِقٍ.

لا ينتابنا الشكّ في أنه حالما يتوفر الواحد منّا على حفنة من خالص الفضول المكلّل بعشق حقيقي للحياة، وعلى ذاكرة متوهّجة تسندها ذائقة فنية مُبدعة، فإن الأفكار تصّاعد من شغاف الأفئدة ملامسة الشفاه منّا، فتضمحل الفوارق بين مسطور ومنطوق، لتَرسُم الأقلام أفكارا على مسطّح الأوراق أو تُمْلَى محكّمة في شكل خواطر ومقابسات، يشغل ضمنها عميق الدلالة دوره الأزلي في جلب خالص المتعة. يكفي أن نمد الطفل القابع داخلنا بقلم وورقة حتى يرسم عوالمه الساحرة، يلوّنها بألوان أبطال أجمل الأساطير وحكايات من أقدموا في شَمَمٍ على تبديل الخلق وتعديل عقارب ساعات الكون.
*أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس