قد لا يعرف كثر منطقة "أُمُّ الرَّصاصِ" (ميَفَّعَةٌ) القَديمَة (كاسترون ميفعة Kastron Mefa’a حسب التسمية اليونانية)، القرية الاردنية الواقعة على بعد 60 كم جنوب العاصمة عمان، رغم انها تمتلك قيمة آثارية استثنائية ان كان لجهة ما يتعلق بالفترة الرومانية والبيزنطية من تاريخ المنطقة، ام حتى لناحية الفترة الاسلامية لها.


برج الناسك (العمودي)، القرن الخامس الميلادي، أم الرصاص، الاردن، منظر عام.

بالنسبة اليّ انها الارض البكر التى احتوت على نماذج بدئية ورائدة غاية في الاهمية للعمارة الاسلامية. وعندما كنت منهمكاً وراء مسعاي في التقصي عن نماذج العمارة المدنية في العمارة الاسلامية اثناء تحضير كتابي الذي نشر لاحقا بنفس العنوان، كنت شديد التوق للذهاب الى هناك ليس فقط لرؤية بعض نماذج العمارة الاسلامية الفريدة عند "اِمَّ الوَليد" (..والتى تعتبر من ضمن منطقة "أُمُّ الرَّصاصِ" المتاخمة لها)؛ وأنما "لإستعادة" واستحضار <لحظة> ماضوية في ذلك المكان الاثير لديّ؛ لحظة هي من ضمن لحظات استثنائية عديدة، لطالما ساهمت في تشكيل منتج ابداعي متعدد الظواهر والاجناس بضمنها ظاهرة "العمارة الاسلامية": المعني شخصياً بها وساعياً الى قراءتها ودراستها والاطلاع عليها. اني اتحدث من (..وعن) موقع الحامية الرومانية، التي لا تزال اثارها، التى عبثت بها الازمان، شاخصة وأن بدت في خراب تام؛ هي التي شيدت وقتها لحماية الطريق الملكي الروماني الذي يوصل ما بين حواضر مجموعة "رابطة المدن العشر" <ديكابولس> Decapolis.


بانوراما لمشهد البادية عند أم الرصاص، الاردن

.. وحامية "أُمُّ الرَّصاصِ"، تُعدّ <آخر> حامية لتواجد روماني عسكري في اقصى الجنوب في منطقة الاردن، ويدخل من ضمن مهامها حماية الحدود الشرقية للامبراطورية الرومانية في جنوب شرق بلاد الشام عبر رابطة المدن تلك، التي استمرت قائمة مُنْذُ آواخر العصور الرومانية والبيزنطية ولحين الفتح الاسلامي لبلاد الشام.

وعندما نقول <آخر> حامية، فهذا يعني بالضرورة <بداية> أنشطة آخرى، متاخمة لها وخارجة، بالطبع، عن سطوة الحكم الروماني او البيزنطي. ومن يكون، يا ترى، "نشطاء" تلك الاحداث الآخرى غير "العرب" وقوافلهم التى تجوب، جيئةً وذهاباً، مسالك الصحراء المترامية الاطراف وممرات بواديها العديدة؟!


آثار بيزنطية: كنيسة القديس أسطفيان (718 م.)، أم الرصاص، الاردن، اللوحة الفسيفسائية.

لقد سعيت، متقصداً، ان يكون وجودي هناك، في مكان تلك الحامية، التي سبق وان زرتها مراراً (وكانت آخر زيارة لي، مرة آخرى، لها قبل فترة قصيرة)، بمثابة محاولة لاستعادة لحظة ماضوية، مستلة من سيرورة حدث تلاقي ثقافة اولئك الناس الجواليّن، مالئي الافق البعيد بحضورهم وبذائقتهم المميزة والاحرار عن سلطة الرومان والبيزنطيين وتلاقحها مع النشاط المادي المتمظهر في اثار رومانية وبيزنطية متجسدة في تنويع تصميمي وافر من الابنية والمنشاءات، بعضها ظاهر للعيان والبعض الآخر لا يزال مطموراً وغير مكتشف في مواقع مدننا العربية العديدة وفيما حولها.


المسجد الأموي (بداية القرن الثامن الميلادي)، أم الوليد، الاردن، تفصيل.

فالمكان المختار، الذي انا فيه، هو ذاته المكان القديم الذي ما انفك يحتفظ بتضاريسه الخاصة من وديان ومرتفعات ومروج مغطاة بعشب هنا وهناك. وقوافل الابل التى اراها من بعيد تارة، وتارة آخرى يتلاشى مظهرها الشبحي وراء الافق الفسيح الممتد امامي: هي هي نفسها "النسخة القديمة المكررة"، التى ما زالت تجوب هذة الصحاري والوديان. وناسها هم اسلاف اولئك الاشخاص "المولعين" بالهجرات (وفقا لقول مظفر النواب!)، والحاملين على "اكتافهم" تلك الذائقة الجمالية المتفردة. ومن جانب آخر فان حجارة بقايا الحامية الرومانية المنتشرة في ذات المكان الذي اقف عنده، تشي بـ "اطياف" وانفاس جنود رومانيين جُلبوا من روما البعيدة لحماية هذة الاصقاع النائية ومراقبة قوافل الجمال المنتشرة وناسها الجوّالين. وقد استطاعوا، هم مع مواطنيهم الاخرين ان يجترحوا لنا مآثر معمارية كثيرة، عكست بشكل وبآخر، اسلوب حياتهم الخاص وابانت قيم ذائقتهم الجمالية المميزة. كل هذة الاجواء جعلت من مسعى استعادة تلك اللحظة الماضوية امراً متاحاً وميسراً.

الحامية الرومانية (القرن الثالث الميلادي)، أم الرصاص، الاردن، منظر عام.

وواقفاً لوحدي في ذلك المكان المدهش ومحدقاً في الافق البعيد حيث تختفي قوافل ناس (اعتبر نفسي، وثيق الصلة بهم، ومنتمياً الى ثقافتهم)، ومحاطاً، في ذات الوقت، بآثار و"انفاس" جنود رومان وبيزنطيين كإشارة دالة على حضور ثقافتين وذائقتين مختلفتين يعج بهما المكان؛ فان الامساك بتلك اللحظة الماضوية، يعني في جملة ما يعنيه نوعاً من "استدعاء" واقعة الاحتكاك والاتصال اليومي مع الآخر، الذي دأب الاسلاف المواظبة عليها، مسكونين بنزعة شديدة ورغبة قوية للتثاقف (..وليس التماهي) مع هذا الآخر المختلف. وهو تثاقف أًعتبر دوما نفيساً ومؤثراً، ساهم بشكل وبآخر في تسريع ظهور حدث ابداعي جديد ومغاير (واعني به بزوغ العمارة الاسلامية)، أمثلتها التى بدأت تظهر جلياً في المشهد المعماري المحلي، مثريا البيئة المبنية بنماذج تصميمية لافتة أُعُتبرت دوما فخر المكان .. وزهوه!
د. خالد السلطاني-معمار وأكاديمي