كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة

في نهاية عام 1838، كتب الموسيقار الألماني فيلكس مندلسون إلى صديقه عازف الكمان فرديناند ديفيد يخبره عن كونشيرتو الكمان الذي كان ينوي تأليفه قائلاً: "هناك لحن لكونشيرتو كمان على سلم E صغير يتبلور في رأسي، بدايته تشغلني كثيراً"، وهي البداية التي أصبَحت فيما بعد واحدة من أشهر مقاطع الموسيقى العالمية، ولحن لأغنية لبنانية رحبانية. بعدها استمَرّت مراسلات الصديقين لسَنوات، استغرقها مندلسون ليُنهي الكونشيرتو، ويَرى النور على يد صديقه ديفيد في ربيع عام 1845 بمدينة لايبزيغ.

وبالإضافة إلى نسيجه اللحني الذي يَسحَر السامعين إلى يومنا هذا، يُعَد الكونشيرتو كذلك نموذجاً على طبيعة العلاقة بين مؤلفي الموسيقى وعازفيها، فمُراسلات مندلسون مع ديفيد تعتبر مثالاً للحِرص والتفاني لأجل الفن والاحترام المتبادل بين الموسيقيين، حيث سَعى مندلسون لإعادة مكانة العازف المُنفرد داخل عَمَلِه، عِبر مَنحِه مساحة عزف ضِمن فضاء الكادِنزا. كل هذه العناصر ساهَمت، الى جانب روعة اللحن، في تبَوّء العمل لمكانته البارزة ضِمن روائع الموسيقى العالمية.

جَديدة وحَداثية
يُعد الكونشيرتو أحد الأعمال البارزة في تأريخ الموسيقى الكلاسيكية عُموماً، وتأريخ كونشيرتات الكمان تحديداً. فبالرَغم من أن الكونشيرتو يتخذ شكلاً تقليدياً في بناءه الموسيقي، إذ يَبدأ بحَركة سَريعة ثم بَطيئة ثم سَريعة، إلا أن العَديد مِن مُكوّناته كانت جَديدة وحَداثية نسبة لعَصره، كما أن الكثير مِن صوره اللحنية كانت خلاقة ومُتمَيّزة، وكان لها بالغ الأثر على المُحيط الموسيقي المُعاصِر لها. فعَلى سَبيل المِثال، خالف مندلسون التقليد الكلاسيكي الذي كان مُتبّعاً قبله بدخول الأوركسترا لعَزف اللحن الأساسي الأول في بداية المقطوعة، وفاجَأ المستمعين بإستهلال الكمان المُنفرد للحن كاملاً، وكان بيتهوفن قد سبقه في ذلك، لكن مع البيانو. كما جاءت حَركات الكونشرتو مُترابطة في بنائها الهارموني، بحَيث يُمكن للعازفين أن يُواصلوا العَزف مُباشرة بَين الحَركات دون توَقف، وقد استخدم الهوائيات للقيام بذلك. فقد وظَف الباسون للربط بين الحركة الأولى والثانية. في حين استخدم البوق للتمهيد للحركة الثالثة، قبل أن يُسمح للكمان المُنفرد بالغناء والرقص على أنغام أوتاره في طريقه إلى النهاية الرائعة، الى جانب التفاعل مع الأوركسترا طوال الوقت.

اقتباس رحباني
الحركة الأولى سريعة مكتوبة بصيغة السوناتا من ثلاثة أقسام، تبدأ بهَدهَدة سريعة وخفيفة للوتريات يخترقها دخول الكمان المُنفرد لعزف اللحن الأساسي الأول، الذي عرفه الكثيرون مِنّا وعَلِق في ذاكرتهم، حتى أولئك الذين لم يَستمعوا إلى الكونشيرتو من قبل، من خلال أغنية "لينا ويا لينا" التي اقتبَس الرحابِنة العُظَماء موسيقاها من هذا اللحن، ووضعوا له كلمات غنتها المُطربة هُدى حَدّاد أخت السَيّدة فيروز. نعود إلى اللحن الذي تتسَلّمه الأوركسترا مِن الكمان المنفرد لتُعيد عَزفه بشكل مهيب يُمَهِّد لدخول اللحن الأساسي الثاني، وهنا يُفاجئُنا مندلسون ثانية بقيام الكلارنيت والفلوت بتقديم اللحن مع مُرافقة خفيفة للكمان، ثم تسليمه إيّاه ليَذهَب به الى مَدَيات نغمية ساحِرة، مع مٌرافقة خفيفة للأوركسترا. يَلي ذلك لحن "كادينزا" يعزفه الكمان مُنفرداً، كان ظهوره غريباً وحَداثياً وسط الحركة بدل نهايتها كما جَرَت العادة سابقاً، الذي يواصل الكمان عزفه حتى مع عودة الأوركسترا لعَزف اللحن الأساسي، حيث يرافقها صُعوداً ثم يتوقف فتتبعه الأوركسترا، ثم يَبدء الكمان بالعزف مباشرة مِن جديد مُمَهِّداً لعزف اللحن الثاني ثم الأول، ليأخذانا شيئاً فشيئاً الى نهاية الحركة.

على غير ما جَرَت العادة، يقودنا الباسون المُنفرد الى الحركة الثانية البطيئة، وهي أيضاً بصيغة السوناتا، ويَبدأها الكمان بلحن هاديء بَطيء تُرافقة الأوركسترا يُمثل لحنها الأساسي الأول يليه لحن ثاني، ليعود بَعده اللحن الأول، تتخللهما ألحان إستلهم مندلسون روحها مِن مقطوعات له تُدعى "أغاني بلا كلمات". قبل نهاية الحركة تعزف الأوركسترا اللحن بِبُطأ، ثم يُعيده الكمان مُنفرداً ثم الإثنان سَويّةً، في حوار نغَمي يُنهي الحركة بشَكل رقيق وأنيق.

إنتقالية سَلِسة
بَين الحَرَكتين الثانية والثالثة يُمتِعنا مندلسون بِوَصلة إنتقالية سَلِسة متوسطة السُرعة، يَعزفها الكمان مَع عائلته مِن الوتريات، تُمَهِّد لأداء إستعراضي سَريع، تعطي الأبواق إشارته الأولى. ثم يبدأ الكمان بعَزف ألحان سَريعة نشِطة مُتكامِلة تمثل لحن الحركة الأساسي، وتُشارِكه الوتريات بعَزف ألحان تُذَكِّرنا بكادينزا الحَركة الأولى، بَعدَها تنتقِل الموسيقى بسَلاسة إلى لحن إنتقالي ثم كادينزا قصيرة أخرى، لتعود بنا الهوائيات بَعدها الى عَزف اللحن الرئيسي، فيُقاطعها الكمان بتَدَفق شَلّال ألحان مِن يَنابيع أوتاره، ليَنتهي الكونشيرتو بلحن سَريع يَشترك فيه الجَميع بخِفة وحَيَوية تُمَيّز طابع هذه الحَرَكة، والذي يَسمح للعازف المنفرد بتقديم أداء استعراضي رائع.

بالرَغم من عَديد الأفكار الموسيقية الخَلّاقة والأجواء الحَداثية المُتمَيّزة التي أدخَلَها مندلسون بأستاذية وذَوق الى موسيقى عَصرِه، إلا أنه إعتُبِر مُتراجِعاً عَن ما وُصِف حينها بالتغيّرات الحَداثية التي شَهدَتها موسيقى القرن التاسع عَشَر، خصوصاً على يَد فاغنر وبعض مَن ساروا على دَربه مِن الموسيقيين، الذين إعتُبِر مندلسون مِن المُتأخّرين عَنهم، لكن إعادة تقييم أعماله في مطلع القرن العشرين، ومِنها هذا العمل تحديداً، كشَفَت عَن قدراته الإبداعية الفَذّة، وعَن كونه بِجدارة أحَد أعظم موسيقيي الحُقبة الرومانتيكية بتأريخ الموسيقى العالمية. فقد كتب عازِف الكمان الأسطورة جوزيف يواخيم مَرّة قائلاً: "لدى الألمان 4 كونشيرتات للكمان. أعظَمَها وأكثرها مَهابة هو لبتهوفن، ثم كونشيرتو برامز الذي يُنافسه الى حَد ما، أما أغناها وأكثرها سِحراً فهو الذي ألفه ماكس بروخ، لكن يَبقى لُب وجَوهَر القلب هو كونشيرتو مندلسون".