الظاهرة الملفتة في المسرح البريطاني اليوم هي ميل الكثير من المخرجين المسرحيين إلى إعداد أو توليف الأعمال الروائية الكلاسيكية وتطويعها لخشبة المسرح، معللين ذلك بندرة النصوص المسرحية قياساً بالعدد الهائل لقاعات العرض، أو برغبة البعض في خوض روح المغامرة والتجريب لكسر السائد والإبحار في فضاءات أخرى. وهكذا فقد تم مسرحة أعمال أدبية عالمية لكتّاب شهيرين أمثال دوستويفسكي، تولستوي، ليرمانتوف، هيجو، موبسان، كافكا، لوب دي فيغا، فرجينيا وولف، جورج إليوت، وغيرهم. وقد عولجت ثيمات قصصية وروائية برؤى جديدة ومبتكرة.

الممثل والمخرج البريطاني هاري ميتشر هو أحد هؤلاء الحالمين والمغرمين بالتجريب. ففيما هو منهمك في قراءة رواية "بطل من زمننا" (Hero of our Time) التي أنجزها الشاعر الروسي ميخائيل ليرمانتوف قبل موته بعام واحد، عثر على تماهٍ بين شخصية بيتشورين بطل الرواية وشخصية النقيب فاسيلي سوليوني في مسرحية "الشقيقات الثلاث" لأنطون تشيخوف. واستنتج ميتشر (أنَّه من الممكن جداً أن يكون تشيخوف ذاته قد استلهمها من شخصية الشاعر نفسه).

لقد ابتكر ميتشر في إعداده وإخراجه لمسرحية "حلم ليرمانتوف الأخير" حواراً افتراضياً بين بطل الرواية بيتشورين والمؤلف، بهدف تسليط الضوء على سمات البطل البايروني، أو البطل المختلف عن البطل الرومانتيكي التقليدي. ربما يجد تأويله هذا تسويغاً منطقياً في حقيقة أن بطل رواية "بطل من زمننا" وكذلك "يوجين أونيغن" بطل رواية بوشكين، كلاهما يتسم بمواصفات البطل البايروني. فضلاً عن أنَّ ليرمانتوف نفسه كان من أشد المعجبين بالشاعر البريطاني اللورد بايرون، الذي يرد ذكره في الرواية مرات عديدة. كتب ليرمانتوف مرة: "إنني مثل بايرون، رحّالة مُطارد من العالم، غير أن أنفاسي روسية. لي عطاء فكري زهيد، وفي روحي، كما هو شأن المحيطات، تجثم الأحلام المهشمة".

ووفقاً لمبدأ البطل والبطل الضد، تم شطر الشخصية إلى قسمين: الأول، بيتشورين، الشخصية الرئيسية في الرواية، والآخر ليرمانتوف. هاتان الشخصيتان وهما تتناجيان بعضهما البعض، كانتا أشبه بموجتين تتوحدان تارة وتنفصلان تارة أخرى. يقول بيتشورين: "ثمة نوعان من الرجال في داخلي؛ أحدهما يحيا بإحساس كامل بهذا العالم"، فيكمل ليرمانتوف عبارته قائلاً: "والآخر يقاضيه على أفعاله". "الأول يتركك أنت والعالم إلى الأبد"، يضيف بيتشورين، فيلتفت ليرمانتوف نحونا متسائلاً: "والثاني... الثاني؟". وتبقى الجملة معلقة دون إجابة.

السؤال الذي ينبغي أن نطرحه هنا هو: هل بيتشورين يتماهى حقاً مع شخصية ليرمانتوف في الرواية؟

يقول ميتشر: (لقد شيّدت رؤيتي للشخصية وفق تصور أن الرواية هي عبارة عن سيرة ذاتية للشاعر، وأن بيتشورين هو بمثابة صورة للشاعر نفسه. ولكن حين اطلعت على مقدمة الطبعة الثانية للرواية التي كتبها ليرمانتوف رداً على منتقديه، تغيّرت وجهة نظري بشأن هذه الشخصية. وهنا لابد أن أجتزئ بعض ما كتبه ليرمانتوف في مقدمته تلك التي يقول فيها: "إن بيتشورين ليس صورة لشخص واحد، إنما هو صورة تضم رذائل جيلنا بأكمله وقد بلغت كمال التفتّح. ربما ستقولون إنه ما من رجل يبلغ هذا الحد من السوء، وأنا سوف أسألكم: تُرى، لماذا تصدّقون كل أشرار قصص المآسي والرومانس، ولا تصدقون أن شخصاً مثل بيتشورين يمكن أن يكون مستمداً من الواقع؟ وكيف تطيب لكم أخيلة أفظع وأرهب، ولا تلقى منكم صورة هذا الشخص، حتى لو كانت خيالاً، قبولاً ورضى؟").

يبدو أن هذا المقطع هو الذي أغرى هاري ميتشر وقاده إلى جعل شخصية المؤلف بؤرة تتجمع حولها الأحداث، أولاً، ومن ثم شطر الشخصية الرئيسية بيتشورين بينه وبين ضديده، بهدف إبراز تلك الثنائية.

في نصه الجديد الموسوم "حلم ليرمانتوف الأخير"، عكف ميتشر على التعمق في تأمل شخصية الشاعر ومصيره المأساوي المتمثل، كما هو معروف، في موته المبكر (قُتل ليرمانتوف في مبارزة وهو لم يبلغ بعد السابعة والعشرين من عمره، ميتة شبيهة بميتة الشاعر الروسي العظيم بوشكين). أما شطره للشخصية الرئيسية (بيتشورين) إلى شخصيتين، فقد أراد ميتشر من ذلك استكمال رسم ملامح النصف الآخر أو البطل الضد، إذا جاز التعبير، متمثلاً في شخصية الشاعر ليرمانتوف.

الجديد في ميتشر حقاً، هو أنه ابتكر حواراً بين شخصية بيتشورين وشخصية الشاعر. فقد أجرى عقداً افتراضياً بين الاثنين تارة من أجل مطابقة الوجهين، وفق مبدأ الإحساس بالإثم، والفصل بينهما تارة أخرى لإبراز الوجه الذي يعكس شجن البطل الرومانتيكي المتأمل في عبث الوجود وحتمية الموت.

إنَّ بيتشورين يمثل الوجه المعتم لصورة الشاعر، مجسَّداً بنرجسيته وتهتكه وعدميته ومزاجه السوداوي. أما الوجه المضيء فيتجسد في ثورة الشاعر وتمرده على طبقته، وفي شجاعته ودفاعه عن وطنه وجرأته في مواجهة القيصرية إبان قمع انتفاضة الديسمبريين، ودفاعه العذب عن مقتل الشاعر العظيم بوشكين.

بيتشورين شخصية مكتئبة ثنائية المنحى؛ فهو حساس وتهكمي على حد سواء، تسكنه الغطرسة والنرجسية واللامبالاة. رؤاه العدمية خلقت منه شخصاً يتسم بالنفور والعزلة والملل. سأمه وإحساسه الدائم بالخواء يرغمانه على تزجية الوقت عبر الترحال الدائم والانغماس في الملذات والمغامرات الرومانسية، تلك التي ستسفر في النهاية عن سقوطه الوشيك في حالة من الاكتئاب المدمّر والانسحاب تماماً من المجتمع، وهو ما سيفضي إلى موته المحتوم: "إني لا أنتظر من الحياة شيئاً بعد الآن، ولا أبكي الماضي. أريد أن أكون حراً وهادئاً. أريد أن أنسى، وأن أنام...". كم يُذكرّنا هذا المقطع بهواجس هاملت.

إذن، "الموت" كان هو أحد خيارات بيتشورين للخلاص من عبث الوجود. فرغم قتله لخصمه وغريمه غروشينسكي في مبارزة، إلا أنه كان قد كتب قبل أسابيع من تلك المبارزة يقول: "رصاصة في القلب، فإذا بي طريح على الأرض دون حركة ودمي يسيل قطرةً قطرة... كنت وحيداً على الرمال في قلب الصحراء، تطوقّني صخور مصفرّة القمم، تلهبها الشمس الساطعة وتلهبني في ذات الوقت، ولكنني كنت أرقد رقدة الموت!...".

تكهّن الشاعر بموته في مبارزة، الميتة التي تتماهى مع موت مواطنه بوشكين، يتحقق هنا، ولكن بشكل معاكس؛ فالذي يموت في المبارزة ليس بطله بيتشورين، إنما الضابط (گروشنسكي)، غريمه في حب عشيقته فيرا. أما الموت الحقيقي للشاعر فإنه يتحقق في مبارزة بينه وبين أحد زملائه الضباط بعد عام من كتابة الرواية.

حوار الاثنين، ليرمانتوف وبطله، أو مناجاتهما، يرسم أيضاً صورة لطبيعة المجتمع الروسي آنذاك بانغلاقه واستبداده وفساده. وهذا ما نتبينه في المقدمة التي كتبها ليرمانتوف للرواية: "إن بطل الرواية، أيها القراء الأعزاء، ليس صورة لرجل واحد، إنما صورة تضم رذائل جيلنا كله، وقد بلغت كمال التفتح".

اتبّع ميتشر في معالجته الإخراجية أسلوباً تغريبياً في عرض الأحداث، وذلك عبر إعادة تجسيد الأحداث، مرةً من وجهة نظر الشاعر، وأخرى من وجهة نظر بطله، يتخللهما بالطبع أصوات شخصيات أخرى تصل إلى أسماعنا من وراء الستارة، لا سيما أصوات النسوة اللواتي غرر بهن ذلك الفتى الوسيم وغادرهن دون كلمة. إلا أنَّ شراكة المؤلف لبطله في الإثم تتكرر في كلا الإعادتين، وهو ما يضع بيتشورين أمام خيار واحد هو أن يطلق رصاصة الرحمة على مؤلفه ويرديه قتيلاً. بعدها تسود لحظة صمت طويلة مفزعة، وتحل العتمة على خشبة المسرح باستثناء بقعة صغيرة من الضوء تنير جثة القتيل، ومقطع أخير من قصيدة "موت شاعر"، وهي القصيدة التي كتبها ليرمانتوف إثر سماعه خبر مقتل الشاعر بوشكين، يتسلل إلينا عبر تلك العتمة برفقة موسيقى شجية لتشايكوفسكي:

(..... أنتم يا نسل الزهو الخاوي،
خصوم الحرية والعبقرية والمجد،
يا من تختبئون بظلال ستار القانون،
الحقيقة والعدل بالنسبة لكم ينبغي أن تخرسا،
لكن هناك محكمة الرب،
أيها الأشرار،
ثمة محكمة رهيبة في انتظاركم،
حينئذ لن يجديكم نفعاً اللوذ بالوشايات،
حينها لن تستطيعوا أن تغسلوا بسمومكم القانية دماء الشاعر الزكية).


مسرحية "حلم ليرمانتوف الأخير" جرى عرضها على خشبة مسرح Pentameters التجريبي، وهو مسرح صغير يختبئ في الطابق العلوي لحانة قديمة الطراز في ضاحية Hampstead شمال غرب لندن. أما الجمهور فجلّهم من زبائن تلك الحانة، بما فيهم كاتب هذه السطور.

ليست هناك تقنيات صوتية أو بصرية مبهرة أو سينوغرافيا مبهرجة، إنما هناك رؤية مبتكرة معاصرة وأداء صادق، عفوي وعميق لأناس أحبوا مهنتهم. ثلاثة ممثلين فقط وقصائد وأصوات متعددة تأتينا من خلف ستائر المسرح قادمة من القرن التاسع عشر ومدن القفقاس، وحكاية موت الشاعر بأداءٍ فيه الكثير من الصدق والعفوية. الممثل ديفيد ميدلتون لعب دور بيتشورين، وهاري بيتشر دور ليرمانتوف، وجودي بيكر دور فيرا الفتاة التي أحبها الشاعر.