إيلاف من لندن: في عام 1984، هز تفجير فندق "غراند" في برايتون بريطانيا بأكملها. كان التفجير محاولة لاغتيال رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر وأعضاء حزب المحافظين، نُفذت من قبل الجيش الجمهوري الأيرلندي خلال مؤتمر الحزب.
هذه المحاولة الفاشلة أسفرت عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة آخرين، لكنها لم تحقق هدفها الرئيسي. بعد عقود، يأتي الفيلم الوثائقي "تفجير برايتون: مؤامرة تصفية تاتشر" من إخراج غاي كينغ، ليعيد إحياء النقاش حول هذه الواقعة التي شكلت نقطة تحول في الصراع الأيرلندي البريطاني.
الفيلم لا يتناول فقط الجانب العملي من التفجير، بل يغوص في أعماق الصراع السياسي والاجتماعي الذي أدى إلى هذه الحادثة، ويضع على الطاولة أسئلة حول كيفية معالجة المجتمعات للعنف السياسي، وما إذا كانت السياسات الصارمة قد تساعد في إنهاء الصراع أو تؤججه.
باتريك ماغي: مقابلة مع الجاني
إحدى النقاط المحورية في الفيلم هي المقابلة التي أجريت مع باتريك ماغي، الشخص الذي زرع القنبلة في فندق غراند. رغم محاولات المخرج الحصول على تفاصيل جديدة حول كيفية تنفيذ التفجير، يرفض ماغي الإفصاح عن أي معلومات عملية. حين سئل عن كيفية اختيار المكان المثالي لزرع القنبلة أو كيفية ضمان عدم اكتشافها قبل انفجارها، اكتفى بالقول: "لن أتحدث على الإطلاق عن أي من التفاصيل العملية". هذه العبارة البسيطة تعكس رفض ماغي التام للتعمق في النقاش حول التنفيذ.
ورغم هذا الرفض، فإن الفيلم لا يضيع في تلك الأسئلة غير المجابة، بل يستغل الفرصة لاستكشاف القضايا الأوسع ذات الصلة بالصراعات غير المتكافئة.
ينظر الفيلم إلى كيفية تبرير الأطراف المتصارعة لاستخدام العنف، وكيف تصبح الشخصيات المحورية في مثل هذه الصراعات رموزًا للسياسات القمعية أو الثورية.
باتريك ماغي في البرلمان في لندن عام 2009 وبجانبه ابنة أحد ضحايا انفجار فندق غراند 1984
التاريخ الذي قاد إلى الانفجار
الفيلم يأخذنا في رحلة عبر الزمن، بدءًا من عام 1972 وصولًا إلى تفجير برايتون. لكنه لا يروي القصة كقطعة من التاريخ فحسب، بل يحلل السياقات السياسية والديناميكيات التي أدت إلى استخدام العنف كوسيلة للنضال. بعد يوم الأحد الدامي في أيرلندا الشمالية، كان ماغي واحدًا من العديد من القوميين الكاثوليك الذين اعتقلتهم القوات البريطانية. وقد تعرض، كما يروي في الفيلم، للتعذيب والضرب داخل ما عُرف بـ "الغرفة السوداء". يقول ماغي عن تلك الفترة: "كنا نعرف من هو عدونا، لأنهم كانوا يصوبون البنادق نحونا. وقد أرسلهم السياسيون ليصوبوا تلك البنادق نحونا".
انضم ماغي لاحقًا إلى الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، حيث تميز بقدرته على التخطيط وتنفيذ العمليات. بفضل عقليته التي تميل إلى حل الألغاز، وتركيزه على الاحترافية، صعد في الرتب ليصبح "مهندسًا"، أي صانع قنابل.
رؤية الدولة: القوة مقابل التفاوض
من الجانب الآخر، يتناول الفيلم وجهة نظر رئيس حزب المحافظين السابق جون غومر، الذي يقدم تحليله لكيفية تعامل الدولة مع العنف. غومر يوضح أن الدولة لا يمكنها التفاوض مع الجماعات التي تستخدم القتل لتحقيق أهدافها، معتبرًا أن أي محاولة للتفاوض ستكون عبثية، وكذلك أي محاولة للتساؤل عن شرعية استخدام الدولة للقمع.
يستعرض الفيلم العديد من السياسات التي اتبعتها مارغريت تاتشر خلال فترة حكمها، ويعرض التوترات التي تصاعدت بعد مقتل وزير شؤون أيرلندا الشمالية في حكومة الظل آيري نايف، والذي اغتاله الجيش الجمهوري الأيرلندي بسيارة مفخخة في عام 1979، مما دفع تاتشر إلى إعلان عزمها على "تدمير الشر" الذي يمثله الجيش الجمهوري الأيرلندي.
أحد المحطات الأساسية التي يتوقف عندها الفيلم هي إضراب الجوع الذي قاده بوبي ساندز وأعضاء آخرون من الجيش الجمهوري الأيرلندي في سجن ميز عام 1981. تاتشر رفضت بشكل قاطع الاعتراف بمطالبهم باعتبارهم سجناء سياسيين، مما أدى إلى وفاة ساندز وتسعة آخرين جوعًا. بالنسبة للجيش الجمهوري الأيرلندي، كانت تاتشر رمزًا للقمع، ويصفها داني موريسون، مدير الدعاية السابق في حزب الشين فين، بأنها "كانت تمثل الحرب بالنسبة لنا".
تاتشر وومضة ضعف بعد التفجير
واحدة من أكثر اللحظات التي استحوذت على انتباه المشاهدين في الفيلم هي مقابلة مارغريت تاتشر التي أُجريت معها بعد ساعات قليلة من التفجير. بدا عليها الارتباك والتوتر بشكل واضح، وكأنها للحظة نسيت أنها رئيسة الوزراء. "أنت تسمع عن هذه الفظائع، هذه القنابل. لكن لا تتوقع حدوثها لك"، قالت تاتشر. إلا أن هذا الارتباك لم يدم طويلًا. سرعان ما استعادت تاتشر قوتها المعتادة، وقالت بصوت حازم إن المؤتمر "سيستمر كالعادة".
في اليوم نفسه، صعدت تاتشر إلى المنصة وألقت خطابًا حماسيًا أكدت فيه أن "كل محاولات تدمير الديمقراطية عن طريق الإرهاب ستفشل". الفيلم يعرض سلسلة من المقاطع لتاتشر وهي تتحدث عن مبادئ مثل "الديمقراطية" و"العدالة" و"ازدراء العنف"، في حين أن منتقديها يعتبرون أن هذه المبادئ كانت تستخدمها بشكل انتقائي.
هل كان حزم تاتشر هو ما أوقف العنف؟
مع تقدم الفيلم، يتناول سؤالاً محوريًا: هل كان حزم تاتشر في مواجهة الجيش الجمهوري الأيرلندي هو السبب في تخليهم عن العنف لاحقًا؟ أم أن خروجها من السلطة في عام 1990 كان خطوة ضرورية لبدء عملية السلام في أيرلندا الشمالية؟ هذا السؤال يقود النقاش في الفيلم، لكنه ليس الوحيد الذي يُطرح.
تعاطف بين الجاني والضحية
واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا في الفيلم كانت مقابلة باتريك ماغي مع جو بيري، ابن أنتوني بيري، نائب رئيس حزب المحافظين الذي قُتل في التفجير. بعد إطلاق سراح ماغي في عام 1999 بموجب شروط اتفاق الجمعة العظيمة، طلبت بيري لقاءه. اللقاء كان مليئًا بالتعقيد، حيث واجه ماغي، الجاني، أحد أفراد أسرة ضحيته. بيري عبّرت عن تعاطفها، رغم حزنها العميق، في حين أعرب ماغي عن ندمه العميق على الأثر الذي تركته قناعاته السياسية على الأفراد الأبرياء.
دراسة في العنف والسياسة
في النهاية، يقدم "تفجير برايتون: مؤامرة تصفية تاتشر" دراسة متعمقة حول كيفية تفاعل العنف والسياسة في سياقات الصراع الطويلة الأمد. من خلال عرض حكايات الشخصيات المتورطة في الحدث، سواء كانوا منفذين أو ضحايا، يعرض الفيلم صورة شاملة للنضال من أجل العدالة والحرية، ويطرح أسئلة حول كيفية تجاوز هذه الجراح والبحث عن حلول مستدامة.
*أعدت إيلاف التقرير عن (هذا التقرير) المنشور في صحيفة "الغارديان" البريطانية.
التعليقات