د. هنري توفيق عزام

يتوقع أن تشهد اقتصاديات دول المنطقة المزيد من النمو والازدهار هذا العام. ولن ينحصر أثر هذا الازدهار الاقتصادي على دول مجلس التعاون الخليجي فقط بل سيتعداه ليشمل الدول العربية الأخرى غير المنتجة للنفط والتي ستستفيد من تدفقات رؤوس الأموال الخليجية اليها باحثة عن فرص استثمار واعدة، وزيادة في التحويلات المالية التي يرسلها العاملون في دول الخليج الى ذويهم في الدول المصدرة للعمالة، وازدهار السياحة العربية البينية اضافة الى نمو صادرات هذه الدول الى أسواق الخليج المتنامية.

ومن أهم العوامل الداعمة للنمو الاقتصادي هذا العام هو العوائد النفطية المرتفعة والسياسات المالية التوسعية التي تركز على تنفيذ مشاريع البنية التحتية العملاقة بالاضافة الى قطاع خاص أكثر ثقة بالمستقبل يعمل على تنفيذ استراتيجياته الطموحة في النمو والتوسع. أضف الى ذلك، أن المخاطر السياسية وعوامل عدم اليقين أخذت تقل حدتها خصوصاً وأن تداعيات الحرب على العراق بدأت تنحصر وتراجعت امكانية حدوث مواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية وايران بعد صدور تقرير وكالات الاستخبارات الأمريكية والذي يشير الى أن الأخيرة اوقفت برنامجها النووي العسكري في عام 2003.

وبعدما نما اجمالي الناتج المحلي لدول الخليج بالاسعار الثابتة بمعدل 5ر8% في العام ،2003 و9ر5% في العام ،2004 و8ر6% في العام ،2005 و6% في العام 2006 ونسبة تقدر ب 7ر6% لعام ،2007 فمن المتوقع أن يصل معدل النمو الاقتصادي هذه السنة الى 7%. ان هذا النمو في اقتصاديات دول المنطقة يأتي في الدرجة الأولى نتيجة للنمو الحاصل في قطاع النفط والغاز والبتروكيماويات وكذلك أيضاً في قطاعات العقارات والبناء والبنية التحتية والخدمات والنقل والمواصلات والاتصالات والصناعة والبنوك. ونتوقع أن تحقق قطر أفضل معدلات نمو اقتصادي بالأسعار الثابتة خلال العام 2008 بنسبة قد تصل الى 10% جراء الارتفاع المتوقع في معدل انتاج الغاز الطبيعي، وستليها دولة الامارات العربية المتحدة بمعدلات نمو قد تصل الى 9%، ثم البحرين 7%، وسلطنة عمان 6%، والكويت 5ر5%. وستحافظ كل من مصر والأردن على زخم النمو الاقتصادي الذي تحقق خلال السنوات القليلة الماضية بمعدلات قد تصل هذا العام الى 5ر7% و 6% على التوالي.

ارتفع متوسط سعر برميل خام نفط برنت من 35 دولاراً في العام 2004 الى 53 دولاراً في العام 2005 والى 65 دولاراً في العام ،2006 وما معدله 73 دولاراً في العام ،2007 أي بزيادة فاقت 20% العام الماضي. وبناءً عليه ارتفعت العوائد النفطية لدول مجلس التعاون الخليجي لتصل الى حوالي 500 مليار دولار في العام ،2007 مقارنة مع 400 مليار دولار و320 مليار دولار لعامي 2006 و 2005 على التوالي. ويقدر فائض الحساب الجاري لهذه الدول خلال العام 2007 ب250 مليار دولار، أي أعلى من ما هو عليه لكل من الصين واليابان، وهذا يضاف بدوره الى صافي الأصول الخارجية لدول الخليج والتي قدرت ب 6ر1 تريليون دولار في العام ،2007 ويتوقع لأسعار النفط العالمية أن يتم تداولها بمعدلات أقل بقليل مما كانت عليه في العام 2007 وذلك بسبب الانخفاض المتوقع في معدلات النمو الاقتصادي لكل من الولايات المتحدة وأوروبا وأيضاً نتيجة لتقلص العلاوة التي تضعها الأسواق لمقابلة مخاطر انخفاض مفاجئ في الانتاج بسبب العوامل السياسية، خاصة المواجهة بين ايران والولايات المتحدة والتي تراجعت امكانية حدوثها أخيراً.

ان التحديات الرئيسية على الساحة الداخلية لدول المنطقة تكمن في ارتفاع معدلات التضخم والاختناقات التي أصبحت أكثر وضوحاً في العديد من مرافق البنية التحتية. ولا بد من التعايش مع هذا الواقع والذي لا بد منه عندما يكون هناك فائض في الطلب بسبب معدلات النمو المرتفعة التي تشهدها دول المنطقة. وقدر معدل التضخم في العام 2007 ب 12% لكل من قطر والامارات و5،7% للأردن و5% لسلطنة عمان و4،5% للسعودية والكويت.

وهناك أسباب عدة لارتفاع معدلات التضخم أهمها الزيادة في أسعار المواد الغذائية وأسعار السلع ومواد البناء وهذا بدوره أدى الى ارتفاع معدلات الايجارات، أضف الى ذلك السياسات المالية التوسعية التي تضعها موضع التنفيذ حكومات دول المنطقة وارتفاع فائض السيولة المحلية ومعدلات نمو الكتلة النقدية. كما أن انخفاض سعر صرف الدولار، والذي ترتبط به عملات دول المنطقة، ساهم أيضاً في ارتفاع أسعار المواد والسلع والمنتجات المستوردة من أوروبا واليابان. وأدى تراجع نسبة الفائدة على الدولار الى انخفاض موازٍ في معدلات الفائدة المحلية، مما شجع على الاقتراض وساهم في رفع معدلات التضخم. كل هذا أدى الى تعرض العملات المحلية للمضاربة وزاد من التكهنات التي تتوقع ارتفاع سعر صرف العملات الخليجية مقابل الدولار.

غير أنه أصبح واضحاً ابان اختتام قمة دول مجلس التعاون الخليجي في الدوحة في ديسمبر/كانون الأول الماضي من أن ربط العملات الخليجية بالدولار الأمريكي سيبقى على حاله في المستقبل المنظور خصوصاً أن دورة انخفاض سعر صرف الدولار تبدو أنها شارفت على الانتهاء ولابد أن يتبعها فترة ثبات ثم دورة ارتفاع قد تتحقق بالفعل خلال العام ،2008 وفي حالة تم الاذعان للمضاربين وقامت السلطات النقدية برفع قيمة العملات المحلية فان ذلك سيشجع على المزيد من المضاربة مستقبلاً ويغذي التكهنات بأن أسعار الصرف مقابل الدولار سيتم خفضها عندما تعود العملة الامريكية للارتفاع. فالوقت اذاً ليس مناسباً لاعادة تقييم العملات المحلية ولا نتوقع أن يحصل أي تغيير في ربط أسعار صرف العملات الخليجية والدينار الأردني بالدولار خلال العام ،2008 ولتخفيف الضغوطات التضخمية لا بد من اتباع سياسة مالية متزنة وسحب فائض السيولة من السوق عن طريق اصدار سندات خزينة ذات آجال استحقاق متباينة.

ان عملية التصحيح التي شهدتها أسواق الأسهم الاقليمية خلال العام 2006 وصلت الى نهايتها في الربع الأول من العام 2007 وابتدأت منذ ذلك الحين دورة ارتفاع جديدة قائمة على قاعدة صلبة وجاء أفضل أداء العام الماضي للسوق العمانية حيث ارتفع المؤشر بنسبة 62% ثم سوق الأسهم الاماراتي 45% والسوق السعودي 41% والسوق القطري 36% والسوق الكويتي 24% والبحريني 23%. وارتفعت كذلك كل من أسواق الأسهم في مصر والأردن بنسبة 50% و36% على التوالي.

ان أسواق أسهم دول المنطقة مرشحة للمزيد من التحسن هذا العام حيث يتوقع أن ترتفع ربحية الشركات المدرجة بنسبة تتراوح بين 20% و30% وسيكون الارتفاع في هذه الأسواق أكثر استقراراً هذا العام مدعوماً بنتائج مالية جيدة لكبرى الشركات المدرجة، في حين أن الطلب على شركات المضاربة ذات القيمة الرأسمالية الصغرى قد يتراجع. وستشهد أسواق دول المنطقة دخول المزيد من المستثمرين المؤسساتيين سواء المحليين أو الأجانب الذين سيقودون عملية الاستثمار يتبعهم قطاع الأفراد وصغار المستثمرين الذين أخذوا يستعيدون ثقتهم في أسواق الأسهم المحلية. واستفادت أسواق الأسهم العربية من غياب الترابط بينها وبين الأسواق العالمية حيث أسهمت الأزمة في سوق الائتمان التي اجتاحت كلا من الولايات المتحدة وأوروبا في جعل أسواقنا المحلية هدفاً لتنويع المخاطر تسعى اليه مؤسسات الاستثمار الأجنبية وخصوصاً أن التقييمات للشركات المدرجة في هذه الأسواق ما زالت أقل من مثيلاتها في الأسواق الناشئة، اذ ان مكرر السعر الى الربحية (P/E) لأسواق دول المنطقة خلال ال 12 شهرأ الماضية ما زال أقل من 18 في المعدل مقارنة مع 30 في المعدل لأسواق أسهم كل من الهند والصين. ولكن لا بد للمستثمرين في أسواق الأسهم العربية أن يتوقعوا معدلات تذبذب تحاكي مثيلاتها في الأسواق الناشئة.

ومع أن مكرر السعر الى العائد لسوق الأسهم السعودية والذي هو في حدود ،22 أعلى منه في أسواق دول المنطقة الأخرى الا أن السوق السعودي يبقى الاختيار الأول للمستثمرين من المؤسسات حيث انه يوفر لهم امكانية توزيع المخاطر في محافظهم الاستثمارية عن طريق تنويع حيازاتهم من شركات مدرجة تعمل في مختلف القطاعات الاقتصادية كما أن السوق تتميز بحجم تداول يومي مرتفع يسهل عملية الدخول أو الخروج منه، أضف الى ذلك أن نسبة المستثمرين الأجانب في السوق السعودية ما زالت ضئيلة، فالانفتاح الكامل على الاستثمار العالمي لم يحدث بعد.

أما بالنسبة لكل من أسواق الامارات والكويت والأردن ومصر فهي مرشحة لتحقيق أداء جيداً هذا العام، اذ ان تقييمات اسهم الشركات المدرجة فيها تبدو مغرية (معدل السعر الى العائد أقل من 18)، ومتوقع لربحية هذه الشركات أن تسجل نمواً قوياً في العام ،2008 بيد أن أسواق الاسهم في كل من البحرين وسلطنة عمان وقطر فانها تفتقر الى العمق والتنويع المطلوبين واللذين يمكنانها من استقطاب استثمارات مؤسساتية كبيرة، ولكن هذا لا ينتقص من قيمة الاستثمار في القطاع المصرفي والصناعي في هذه الدول والمرشحة للنمو. ومع ادخال أسواق الأسهم الخليجية باستثناء السعودية في مؤشر حديث الاطلاق وهوMSCI Frontier Market Index فان هذا سيساعد في تعريف المستثمرين الأجانب بهذه الأسواق وسيسهم في استقطاب المزيد من الاستثمارات الى المنطقة.

ان أكبر التحديات التي تواكب الازدهار الاقتصادي في المنطقة هو التضخم والاختناقات في المرافق العامة، وقلة الأيدي العاملة الماهرة، لذلك نجد أن الشركات أخذت تعتمد بشكل متزايد على مصادر انتاج خارجية مكملة (outsourcing) وتركز على اقتصاديات الحجم والتخطيط الاستراتيجي وزيادة الانتاجية واستقطاب والحفاظ على المهارات وبناء علاقات مع مؤسسات مالية رائدة تعمل في المنطقة وهذه كلها هي مسائل حساسة وأساسية لشركات تريد ادارة أعمالها بنجاعة في سوق يشهد فورة اقتصادية غير مسبوقة.

ابتدأ العالم يتأقلم مع ظاهرة ارتفاع أسعار النفط ويتقبل فكرة بقاء هذه الأسعار قريبة من المعدلات الحالية دون العودة الى المستويات المتدنية السابقة. من هنا أصبح ينظر الى منطقة الشرق الأوسط على أنها سوق كبير ومتنام للعديد من السلع والخدمات كما أن أهميتها كمصدر نمو للاقتصاد العالمي لا تقل عن أهمية أسواق مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل، وستبقى كذلك لسنوات عديدة مقبلة.



الرئيس التنفيذي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا - دويتشه بنك