د . عبدالله بن عبدالمحسن الفرج
في أحد فصول الدراسة في جامعة برادفورد بالمملكة المتحدة تمحور النقاش ذات مرة حول الدور البارز لرئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في تطور الاقتصاد البريطاني. فهذه السيدة الحديدية التي، قالت ذات مرة كلمتها المشهورة المرأة لا تتراجع، قد قضت على جبروت النقابات وسطوتها وقامت بتخصيص الشركات التي يملكها القطاع الحكومي رغم كل الاحتجاجات التي جوبهت بها. وبفضل جهود هذه المرأة في إطلاق العنان للسوق وآلياتها في معالجة الأزمة الاقتصادية عادت بريطانيا بقدرة قادر إلى موقعها الريادي كقوة اقتصادية جبارة بعد أن كانت على وشك أن تقف متسولة على عتبات المؤسسات المالية الدولية طلباً للمعونة والقروض.
ورغم أن شخصية رئيسة الوزراء السابقة مثيرة للجدل في الشارع البريطاني المرهف الحس، فإن الأوساط الاقتصادية الأكاديمية في تلك الجزيرة الساحرة الخلابة تنظر إليها باحترام بالغ كما بدا لي. ولكن أن تصل الحماسة- المشهود لنا بها نحن العرب- ببروفيسور جامعة مانشستر، الذي قدم خصيصاً لإلقاء محاضرته عن quot;حوكمة الاقتصاد والإصلاحquot;، إلى درجة الولع بتاتشر وإصلاحاتها ورفعها فوق كل نقد وكما لو أنها قديسة لا تمس قد فاجأ حتى الطلبة المتحمسين أصلاً لاقتصاد السوق وإجماع واشنطن Washington Consensus.

حقاً لقد أحسنت رئيسة الوزراء السابقة بتخصيص العديد من شركات القطاع الحكومي الخاسرة. فالجسارة والجرأة وبعد النظر الذي تتمتع به هذه السيدة المتميزة كانت ضرورية دون شك لإنقاذ الاقتصاد البريطاني الواهن وتكنيسه من صدأ المعامل والمصانع التي عجزت عن مسايرة التطور التقني. ولكن السؤال ليس هنا. فبريطانيا ومانشستر هما مهد الرأسمالية التي كان شعارها السائد في يوم من الأيام دعه يمر دعه يسير Laissez faire. فما الذي حدا بهذا البلد في مرحلة معينة من مراحل تطوره إلى تأميم العديد من شركاته الخاصة؟

وحتى لا يشوش علينا الجانب الأيدلوجي- لان هناك من قد يربط توسع القطاع الحكومي في الاقتصاد البريطاني بحكومة العمال- نتساءل عن الدوافع التي حدت بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي رشحته مجلة التايم شخصية عام 2007، لتوسيع مشاركة القطاع الحكومي في إدارة الاقتصاد.

الحقيقة هناك مفهومان: المفهوم الأول يطلق عليه إخفاق السوق Market failure وهو يشير إلى تلك المرحلة التي تفشل فيها أدوات السوق منفردة في انتشال الاقتصاد من أزمته. بيد أن هناك أيضاَ مفهوم آخر يعرف باسم إخفاق الدولة في إدارة الاقتصاد State failure.

ومن الواضح أن عهد هارلد ويلسون، فرانكلين روزفلت أو فلاديمير بوتين إنما كان يعكس مرحلة عدم تمكن آليات السوق لوحدها في إدارة الاقتصاد الأمر الذي تطلب تدخل القطاع الحكومي لمعالجة الأمر. بينما عهد تاتشر صادف العكس تماماً. فإخفاق القطاع الحكومي البريطاني في إدارة الاقتصاد قبل مجيئها كان واضحا للعيان.

إذاً فالسوق ليس أيقونة مقدسة لا تمس- خصوصاً عندما لا تستطيع القيام بدورها. فلون القطة - سوداء أم بيضاء- ليس هو المهم فالأهم أن تصيد القطة الفئران كما قال الزعيم الصيني الراحل دينج.