محمد العنقري من الرياض: دخل معدل التضخم بالمملكة العربية السعودية مرحلة مفصلية ترتبط بالخانة العشرية ليصل إلى 10,5 في المئة بنهاية شهر أبريل/نيسان 2008 ملامسًا مستواه قبل 27 عامًا وللأسباب حيث إرتفعت مداخيل المملكة من البترول، مما رفع الإنفاق الحكومي بغرض التنمية والتي سميت يومها بطفرة النشوء واليوم يتكرر الحدث نفسه مع ارتفاع العوائد البترولية وحاجة المملكة إلى التوسع بمشاريع البنى التحتية بهدف خلق تنمية مستدامة حتى ترتقي إلى مصافي الدول المتطورة. وإذا كان التضخم يقترن دائمًا بالنمو الاقتصادي ويعتبر أحد الآثار السلبية له، فإن خطط التنمية لا يمكن التخلي عنها أو تأجيلها من اجل خفض معدلاته، إلا أن السؤال الذي يؤرق الجميع هل التضخم لدينا ناتج عن النمو الاقتصادي فقط... أم هناك عوامل أخرى أدت دورًا مهمًا في وصوله لهذا المستوى؟!.


وإذا كانت مؤسسة النقد قد عللت أسباب التضخم وبينت العوامل التي دفعته لهذا المستوى في تقريرها الصادر قبل يومين معتبرة أن ارتفاع الإنفاق الحكومي والأهلي سببه داخلي وارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع مع انخفاض قيمة الدولار عالميًا سببه خارجي، فإنها لم تأتِ بجديد فهذه المعطيات معروفة لدى الجميع، على الرغم من أنها كانت وقبل سبعة أشهر تقول إن التضخم تحت السيطرة بل ذهب نائب المحافظ إلى ابعد من ذلك عندما قال إن دولاً عديدة تتمنى أن يكون لديها تنمية ومعدل تضخم منخفض حيث كان عند مستويات 4 في المئة، وفي السياق نفسه كان محافظ مؤسسة النقد يؤكد على أن التضخم سينخفض بالنصف الثاني من 2008 عاد ليقول قبل حوالى شهرين أن التضخم قد يبلغ 10 في المئة قريبًا، وهذا ما حصل مما يعني غياب التوقعات الصحيحة ويجعل المؤسسة تقف في وضع لا تحسد عليه بعد أن انكشف للجميع محدودية الدور الذي يمكن لها أن تمارسه للسيطرة على التضخم، فأهم أدواتها للسيطرة عليه وهي التحكم بأسعار الفائدة معطلة بحكم ربط الريال بالدولار الأميركي، مما يضعف من دور الأدوات الأخرى التي بعضها يتناقض مع خطط النمو من خلال رفع الاحتياطي الإلزامي للبنوك التجارية والذي اقترب من أعلى سقف مسموح به حيث وصل إلى 13 في المئة، بينما الحد المسموح به 15 في المئة، أي أن هذه الأداة أصبحت من دون فائدة، لأن النقد يرتفع بشكل كبير بسبب ارتفاع أسعار البترول التي وصلت إلى 135 دولارًا للبرميل، بينما لا تستطيع المؤسسة التوسع في استبدال الريال بالدولار أو العملات الأخرى بهدف تقليص حجم المعروض منه بالسوق، وبهذا أصبحت المؤسسة أمام خيار وحيد وهو تغيير سعر الصرف من خلال الاعتماد على سلة عملات أو فك الارتباط موقتًا بالدولار، وهذا سيكون له ثمن كبير بالوقت الحالي قد يقلص من الثروات المقيمة بالريال بأرقام قد تتعدى مئة مليار ريال سعودي فيكفي أن نرى موجودات المؤسسة التي وصلت إلى 1320 مليار ريال مستثمرة بالخارج.

وقد يؤثر تغيير سعر الصرف بشكل ملموس على حجم الاستثمار من الخارج خصوصًا تلك الأموال القادمة من منطقة اليورو وآسيا نظرًا لإرتفاع تكلفة الاستثمار عليها، ويتنافى مع حاجة المملكة لاستيراد التقنيات من تلك الدول بخلاف التخوف من تقلب أسعار العملة المحلية مستقبلاً، فلم يبقَ أمام مؤسسة النقد من منقذ سوق المال السعودي من خلال تكثيف حجم الطروحات وفتح قنوات استثمارية كالصكوك والسندات والصناديق العقارية وغيرها لتخفيف حجم السيولة وتوظيفها بالشكل الذي يعود على المملكة بالفائدة الاقتصادية ولكن مع تزايد نشاط تلك الشركات المدرجة سيزداد النقد مستقبلاً من خلال الأرباح الموزعة، وقد يفشل بعضها إذا تأثر بارتفاع التكاليف وانخفاض حجم المبيعات نظرًا لارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج وتكاليف إنشاء المشاريع .


بينما نجد أن السياسة المالية التي تشرف عليها وزارة المالية لا تقل حرجا اتجاه المساهمة الفعالة للسيطرة على التضخم فتقليص الاتفاق الحكومي له تبعات مستقبلية سلبية على خطط التنمية الخمسية التي تعدها وزارة الاقتصاد والتخطيط كما أن بيع الدين العام من خلال طرحه للبنوك والجمهور عمومًا قد يكون حلاً لتقليص حجم النقد لكن له تبعات على القدرة المستقبلية على تمويل مشاريع القطاع الخاص والتي تحاول الحكومة دعمها من اجل تقليص الاعتماد على البترول مستقبلاً كمصدر رئيس للميزانية العامة ويتعارض مع إعطاء القطاع الخاص دوره في فتح الفرص الوظيفية للشباب الذي تتزايد أعداد طالبي العمل بشكل كبير سنويًا بخلاف تركز المزيد من النقد بيد الحكومة وكيفية توجيهه لقنوات استثمار سيكون اغلبها خارجي وللبيروقراطية التي تعاملت معها الوزارة خلال العام الفائت دور في رفع تكاليف المشاريع فهناك لجنة مشكلة منذ عام مضى للنظر بارتفاع أسعار المواد على المقاولين ولم تصل إلى نتيجة حتى الآن وارتفعت الأسعار بشكل كبير خلال هذه المدة فقد كان سعر طن الحديد قرابة 2500 ريال واليوم وصل إلى 5500 ريال فكم ستزيد نسبة التعويض المقترحة وكم سنخسر بتعطل إنهاء المشاريع المتوقفة بسبب ارتفاع الأسعار فلو تم التعويض بشكل سريع في ذلك الوقت لتم توفير مليارات الريالات على خزينة الدولة من جهة والحصول على بنى تحتية بأقل التكاليف قياسا بأسعار اليوم.


إن الخوض بالأسباب التي تطرح كسبب للتضخم والحلول الممكنة لكبحه أصبحت معروفة، ولكن السبب الجوهري الذي شكل الأساس لوصوله لهذه المستويات يكمن في غياب العلاقة بين الاستثمار والادخار فتأخر فتح القنوات الاستثمارية وجه السيولة إلى سوق المال الذي لم يكن مهيئًا لاستيعاب حجم السيولة الضخم، فتشكلت فقاعة أعطت أول إرهاصات التضخم مع تأخر تنظيم السوق وطرح شركات لتمديد السيولة الهائلة التي تدفقت عليه بخلاف تأخر تنظيم المساهمات العقارية التي أدت إلى توجه المزيد من النقد إلى سوق المال وعدم تشجيع قيام وحدات إنتاج تكون مهيئة لتلبية الطلب على السلع والخدمات كان لها الدور المكمل في ارتفاع الأسعار نظرًا للاعتماد على الاستيراد، كما أن تأجيل العديد من المشاريع الحيوية بالبنى التحتية بقطاعات التعليم والصحة والخدمات ساهم بتراكم الطلب عليها ومحاولة استيعاب الفترة الزمنية التي تأخرت بها تلك المشاريع مما رفع من تكاليفها بشكل كبير حاليًا بعد ارتفاع أسعار المواد الاساسية لها وشحها بالسوق حاليًا.


إن التضخم بواقعه الحالي تنبع جذوره من عدم رفع وتنويع الطاقات الإنتاجية بالاقتصاد السعودي، ويندرج ذلك بشكل نسبي على اقتصاديات دول الخليج الأخرى مع فوارق بين إمكانيات المملكة من حيث المساحة والتعداد السكاني مما يعطي السعودية ميزة نسبية كبيرة لبناء اقتصاد متنوع، إن الحلول اليوم قد تبدو صعبة بشكل عام لتراجع التضخم فلا سبيل إلا بتشجيع الاستثمار بشكل كبير لرفع الإنتاج الداخلي والقبول بالتضخم مع سرعة انجاز المشاريع بتعويض المقاولين، كما أن رفع الرواتب قد يكون الآن الخيار الوحيد لتحسين قدرة الأسر السعودية على استيعاب ارتفاع الأسعار بشكل لا يقلص القدرة الشرائية مما قد يتسبب بركود اقتصادي، خصوصًا أن المملكة تحتل الآن المرتبة 17 عالميًا في مجال مبيعات التجزئة مما يعني نجاح اغلب المشاريع الإنتاجية نظرًا لقلة العرض قياسًا بالطلب، خصوصًا إذا تم دعم الأسر الكبيرة من خلال إعانات تصرف على عدد أفراد الأسرة لمساندتها بمواجهة ارتفاع الأسعار الكبير والمتسارع .

فمعدلات التضخم لا يمكن التكهن بمستوى توقفها عن الارتفاع حاليًا لأن الأسعار العالمية للسلع ترتفع والمؤثرات الداخلية من نقص بوحدات السكن والتي تأخر حلها كثيرًا وارتفاع أسعار الأراضي لا يبشر في الأفق القريب بتراجع التضخم وسياسة الاستثمار الزراعي الخارجي بالرغم من أهميتها وايجابيتها إلا أنها لن تظهر أثارها إلا بعد عامين على الأقل مع ضرورة رفع مستوى البرامج التوعوية بضرورة ترشيد الاستهلاك من الأسر والتحول إلى البدائل الأقل سعرا وسيظهر الأثر بشكل سريع على انخفاض الأسعار لان من شأنه أن يخفض الطلب قليلا على المدى القصير والمتوسط .


إن مشكلة التضخم ستبقى مؤرقة ما لم تكن هناك رؤية واضحة من الجهات المعنية عن التوقعات المستقبلية له وعدم إطلاق تصريحات كما في السابق ثبت أنها كانت لا تحاكي الواقع ولا تقترب منه بدليل التغير السريع بنسب التضخم ارتفاعًا خلال أشهر قليلة من تأكيدات بالسيطرة عليه خصوصا أن وكالة (فيتش) أظهرت بتقرير لها بالأمس احتمال مضاعفة أرقام التضخم بالمملكة والكويت خلال هذا العام فهل سنشهد بداية خطط جديدة تكون أكثر قراءة للمستقبل؟، فما زالت الفرصة موجودة لحل مشكلة التضخم خصوصا إذا ما تخلينا عن نصائح البنك الدولي وأخذنا زمام المبادرة من الداخل بالاعتماد على الكوادر الداخلية لأنها أكثر فهمًا لواقع الاقتصاد السعودي وطبيعة المتغيرات به ولنا بتجربة ماليزيا عندما حلت مشاكلها الاقتصادية بنفسها خير دليل .