عبد الجليل السيد: لقد أصبح وضع موازنة سنوية أمراً ضروري جداً، ولا يمكن الاستغناء عنه، لذا دأبت بلدان العالم على اختلافها ومنذ نشوء الدولة الحديثة على صياغة وثيقة سنوية تتضمن مجموعتين من الأرقام، التي تشير إلى ماهو متوقع من نفقات ضرورية لتسيير سؤؤن الدولة خلال العام المقبل، موزعة على أبواب مختلفة للإنفاق، والتي هي في الأساس تقع في صلب مهام و واجبات الحكومة، كخدمات تحقيق الأمن والدفاع عن البلاد، أو مجموعة المصاريف التي تضمن استمرار الأجهزة الإدارية في تنفيذ واجباتها، أو تلك المتعلقة باستمرار تشغيل قطاعات البنية التحتية الممثلة للمرتكزات الأساسية التي تعتمد عليها النشاطات الاقتصادية الحاضرة والمستقبلية كافة.

أما المجموعة الثانية فهي تؤشر لما هو متوقع من موارد يمكن الحصول عليها لتغطية تلك النفقات. وقد اختلفت هنا البلدان بعضها عن البعض في صياغة الموازنات ككل أو في باب الواردات، حيث إن البلدان ذات التخطيط المركزي الشامل، أي دول المعسكر الاشتراكي سابقاً، حيث كانت الحكومة تمتلك قانونياً كل الموارد والأصول، وهي المسؤولة في النهاية عن النفقات كافة.

لكن فشل هذا النوع من البناء الاقتصادي والسياسي أدى إلى تحوله في نهاية القرن الماضي إلى اقتصاد السوق الذي أثبت جدارته بالقياس كما نعلم، من حيث ما يمتلكه من مرونات وكفاءة، سواء في تعبئة الموارد أو في توزيع الإنفاق.

وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكن اعتبار أن كل البلدان في وقتنا الحاضر أنها تتبع سياسة السوق الرأسمالية والانفتاح الاقتصادي، إذ إن الكثير من الدول النامية كانت قد تأثرت بالنموذج الاشتراكي، ويلا زال البعض منها يسير في سياسته الاقتصادية على منوال الملكية العامة لوسائل الإنتاج أو على الأقل سيادة القطاع العام، الأمر الذي يحتم وجود اختلافات بنيوية عميقة أثناء وضع الموازنات السنوية متأتية من طبيعة الملكية ونظام التوزيع وإدارة حركة الموارد والأصول.

وقد برزت في خضم التطور السياسي للعالم مجموعة من الدول النامية الغنية بالموارد الطبيعية، حيث اتصفت معظم هذه البلدان بمجموعة من الخصائص التي رافقت نموها الاقتصادي والاجتماعي: كارتفاع قيمة عملتها المحلية وضعف إنتاجيتها قياساً للمعدلات العالمية وعدم تنوع قاعدتها الاقتصادية، الأمر الذي نتج منه تفشي مستويات من الفقر والتخلف، على الرغم من وفرة الموارد كما أسلفنا.

ويعد العراق واحداً من هذه البلدان، حيث وكما هو معروف، يمتلك الكثير من الموارد الغزيرة، سواء كانت منها الطبيعية أو البشرية، ولكن جل تاريخه كان ولا يزال يعاني التخلف والفوضى الاقتصادية والمعاناة. ودون الخوض بالتفاصيل التي لحقت بالتغيير السياسي الذي حدث في العراق، نقول إن الحكومات التي جاءت بعد 2004 عبر صناديق الاقتراع، ووجود مجلس نيابي منتخب على أساس دستوري دائم صوّتت له الغالبية من العراقيين، وضع الأساس وللمرة الأولى للشرعية السياسية، وأصبحت لدينا توجهات واضحة، حيث أكد الدستور العراقي على الانفتاح الاقتصادي واتباع سياسة السوق الحرة والانفتاح التجاري على العالم ودعم دور القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية وتشجيع الاستثمار. أي باختصار، التخلص من النظام الشمولي للحكم و سيادة القطاع العام.

عندما وضعت الموازنة للعام 2009 في نهاية العام 2008، مارس مجلس النواب دوره في إجراء تغييرات كبيرة على بنودها و قلص حجمها، حتى أعيدت إلى مجلس الوزراء ثلاث مرات، قبل إقرارها بشكلها النهائي. وعلى الرغم من القلق الذي ساور الحكومة والمهتمين بالوضع الاقتصادي العراقي آنذاك، إلا أن شعوراً بالارتياح كان قد حل بعد إقرارها المتأخر. وهذا أمر طبيعي لأنه ما بعد إقرارها، أصبح لدى الحكومة العراقية الأموال التي تحتاجها لتسيير أمور البلاد كما أسلفنا.

لكن ما يستحق الملاحظة هنا هو طريقة وضع الموازنة الجديدة المقترحة للعام 2010، التي جاءت بإجمالي قدره 66.7 مليار دولار، منها 48.8 مليار للموازنة التشغيلية، و17.9 مليار خصص كموازنة استثمارية. وقد جاء بالتوضيحات المرافقة للإعلان عنها، بأنها كانت بعجز يقدر بحدود 15 مليار دولار، أي ما يشكل حوالي 22% من الموازنة الإجمالية. وإن هذا العجز حسب التصريح سيغطى عن طريق حوالات الخزينة والقروض الخارجية، إضافة إلى اتباع سياسات ضغط الإنفاق. وقد ورد بأن الإيرادات المتوقعة سوف لا تزيد على 52 مليار دولار، تساهم الواردات النفطية منها بـ 85% بواقع تصدير 2.1 مليون برميل في اليوم. وعلى أساس تقدير معدل سعر متوقع لسنة 2010 بـ 60 دولار للبرميل.

الملاحظة الأولى التي يمكن إيرادها حول هذه الموازنة هي تحديد سعر البرميل المتوقع للسنة المقبلة، كمعدل بـ 60 دولار فقط. وأرى أن هذا تقدير متدن جداً، ولا ينسجم مع واقع أسعار البترول الحالية في السوق الدولية للنفط. حيث تجاوز خام برنت، والخام العراقي يقع ضمن هذه التسعيرة، تجاوز الـ77 دولاراً الأسبوع الماضي. وعند تصفح ما تنشره بعض الوكالات الدولية التي تعنى بأسعار الطاقة، نجد أنها تكاد تشكل إجماعاً على أن أسعار البترول سوف تظل محنفضة بهذا الاتجاه، الذي سمي بالارتفاع الزاحف التدريجي والمتأتي أصلاً من عاملين مهمين: أولهما التعافي التدريجي للاقتصاد العالمي ما بعد الأزمة المالية العالمية، الذي يظهر بالارتفاع التدريجي للطلب الكلي على المحروقات، ويبرز أكثر عند دول مثل الصين والهند ومجموعة نسور آسيا. ويترجم على أنه العودة إلى القوة التصديرية، بعد انحسار الأزمة وحاجتهم المتزايدة إلى مادة النفط. هذا إضافة إلى الأسباب التقليدية العامة المتمثلة في زيادة سكان العالم وارتفاع المستوى المعاشي لدى بعض البلدان النامية، الذي يؤدي إلى ارتفاع نسب استهلاك الطاقة للفرد، الذي ينعكس على زيادة في الطلب عليه. كل هذه الاسباب وغيرها تشكل ضغوطاً قوية باتجاه رفع سعر منتجة البترول. هذا أولاً.

و ثانيا فان معدل تصدير النفط العراقي في بداية السنة الماضية ما كان يتعدى 1.5 مليون برميل في اليوم و نظرا للجهود التي بذلت رغم قصورها من اجل اعادة اعمار القاعدة المادية للصناعة النفطية في العراق و التي كانت قد تعرضت الى التدمير المتكرر جراء الحروب الثلاث ، ثم التخريب المتعمد ما بعد 2003 و انتشار عصابات تدمير الانابيب و المنشات النفطية و سرقة و تهريب النفط. اي ان ما تحقق من حماية للصناعة النفطية و اصلاح ما تضرر عززمن اهمية شركة النفط الوطنية و وزارة النفط و اتاح لهما رفع مستوى الانتاج و التصدير بشكل تدريجي و لو بشكل بطيء. حيث وصل معدل التصدير الى 2.15 مليون برميل باليوم .
و طبقا لما تقدم فان حجم الموارد المتوقعة سيكون اكثر بكثير من ال 44 مليار دولار التي وضعت كموارد متوقعة من تصدير النفط لسنة 2010 . و لهذا نقترح على الحكومة العراقية و مجلس النواب رفع متوقع الواردات.
و الملاحظة الثانية هي تخص التناسب ما بين ما خصص كنفقات تشغيلية اي الانفاق الحكومي على الاجور و المرتبات و تكاليف التقاعد و البطاقة التموينية و برامج الحماية الاجتماعية و النفقات التي تخص تغيل النية التحتية.، و تلك الالتي خصصت كموازنة استثمارية و التي لا تتعدى 18 مليار دولار و الت تمثل بحدود اقل من 27% و على الرغم من ان هذا الرقم يشكل زيادة عن تخصيصات العام الماضي للموازنة الاستثمارية الا انه لا زال قاصرا عن الايفاء بمتطلبات اعادة اعمار البنية التحتية التي لا زالت مخربة و لا زال المجتمع ينوء من نقص الخدمات الاساسية و فوضى بنية الاقتصاد الفيزياوية. و اعتقد ان ما تحقق في هذا الاطار و منذو العام 2004 اي هجيء حكومات عراقية للسلطة و تصميمها لموازنات سنوية لم يحقق سوى بعض عمليات الترقيع و الاصلاح الجزئي و لم يرى المواطن العراقي تجسيدا واقعيا على الارض لما سمي ببرنامج اعادة الاعمار. لان المبالغ المخصصة قليلة و هي تدار بطريقة سيئة تسودها الفوضى و الفساد. الامر يتطلب اولا ان تزاد مناسيب الموازنة الاستثمارية باكثر من ذلك بكثير ، وان تعذر ذلك مثلا لضيق الامكانات و ضعف الموارد ازاء الحاجة الكبيرة و العاجلة للاستثمار في اعادة البناء . اقترح اللجوء الى حلول غير تقليدية في دعم قضية اعادة بناء البنى التحتية او الدخول في مشاريع كبرى كالاسكان الشعبي او المشاريع الستراتيجية في الزراعة و الصناعات التحويلية و غيرها.
قد يستوجب الامر تصميم موازنات استثنائية تخصص للمشاريع الحيوية الكبرى كالعودة الى مقترح ال 70 مليار دولار ، على ان تكون التكاليف على شكل قروض مباشرة مع الشركات المنفذة و ان تدفع باقساط طويلة الامد دون فوائد.
و الملاحظة الثالثة هي بخصوص النفقات الحكومية . هنا لا يمكن ان نعقد مقارنة ما بين نفقات حكومة البعث السابقة و ما يعتريها من مركزية شديدة و اوجه التبذير و الاستحواذ و السرقة و غياب الشفافية. و لكن نحن هنا الان نتحدث عن وضع جديد تعلن فيه الايرادات و مصادرها و اوجه الانفاق و الانجاز للموازنات ، على الرغم من النقص في غياب الحسابات الختامية .
ان التوسع الاداري الذي رافق عملية التحول في ادارة مفاصل الدولة من اجهزة تنفيذية و تشريعية و قضائية ، اضاف اعباء جديدة من الانفاق : مثلا المجلس النيابي ب 270 عضوا ينفق على كل واحد منهم بحدود 100 الف دولار سنويا و تكاليف حماية بحوالي 120 الف اضافة الى المصاريف المكتبية و شؤون السفر التي قد تكلف ال 10 الاف دولار لتصبح التكلفة بحدود 230 الف هذا اذا لم نضع بالحسب نفقات اخرى .
و لو رجعنا الى تضخم السلطة التنفيذية الهائل و الذي لا يتناسب مع بلدا كالعراق اصبحت هناك اكثر من 30 وزارة و عدد لا يحصى من الهيئات الحكومية بمستوى وزارة او الهيئات المستقلة و كل واحد من هؤلاء وكما نعلم له وكلاء و مستشارين و هناك مفتش عام ...الخ و قد اعطيت امتيازات كبيرة تتعدى ما ذكرناه من امتبازات لاعضاء مجلس النواب .
اضيفت حكومة و برلمان لاقليم كردستان العراق . و اضيف لكل محافظة من محافظات العراق المتبقية مجلس حكومة محلية و عندك الحساب .
فاذا استوعبنا ان البلاد الان بامس الحاجة الى الاستثمار في مشاريع اصلاح ما دمرته الحروب و سنوات الفوضى و العنف ، و الى اعادة تجديد كل مفاصل البنى التحتية لجعلها قاعدة انطلاق لتنمية اقتصادية لاحقة.
و من هنا فان ضغط النفقات الحكومية عبر برنامج جديد يعمد الى تقليص التضخم الاداري و اتباع سياسات ترشيد الانفاق و مكافحة الوان الهدر للموارد و تفعيل الاجهزة الادارية و سن قانون متكامل يتضمن ادوات عصرية فاعلة من اجل مكافحة كل مضاهر التسيب و الفساد.
ولا بد لنا في هذا السياق من استعراض نبذة مختصرة حول الايرادات الحكومية. انها تعتبر اهم بنود الموازنة السنوية في الدول الديمقراطية. تعتمد موازنات هذه الحكومات على دعامتين رئيسيتين : هما الضرائب و الرسوم . خذ بريطانيا مثلا ، فان مواردها في موازنة العام 2005 لم تتضمن اي موارد من سلع او خدمات قامت بانتاجها الدولة.
اما العراق ، فان الحكومة لا زالت تمتلك كافة النشاطات الاقتصادية للقطاع العام و الذي يقدر بحوالي 70% من الناتج الهحلي الاجمالي . لكن هذا القطاع الظخم لم يساهم بشيء يذكر في تحقيق موارد للحكومة . بل على العكس
خصصت موازنة 2009 على سبيل المثال مبلغ 4 مليار دولار لدعم هذا القطاع رغم فشله.
و ارى و باختصار شديد ، ان تنويع الايرادات من غير النفط تظل هي مهمة التحدي التي تواجه الدولة اليوم . وان ذلك لا يتحقق الا باعادة هيكلة القطاع العام ، محاولة تفعيله و توجيه نشاطه نحو الكفاءة ، ثم تاهيل البعض منه و التخلص من ما هو غير مجدي ، اي التخصيص .
الدولة العراقية الان بحاجة الى سن نظام ضريبي محكم يراعي سهولة الجباية و يتجنب الفساد و التهرب . ضريبة الدخل و الضريبة التي تفرض على الثروات و ضريبة العقار و ضريبة الارث و الضرائب غير المباشرة التي تفرض على السلع الاستهلاكية المعمرة و الكمالية و الضرائب على الاستهلاك الضار و غيرها . حيث ان الضرائب و اذا ما احكمت ادارتها تؤدي الى توفر مزايا اجتماعية كبرى. فهي اضاقة الى مساهمتها في دعم خزينة الدولة ، فهي تعتبر وسيلة لاعادة توزيع الخل و تخفيف التباين الاجتماعي ، و تكون ذات اثر رادع في المخالفات القانونية او ردع الاستهلاك الضار بصحة المجتمع.
و اخيرا فان الحديث يجب ان ينصب على تفعيل الاقتصاد بشكل متدرج بتشغيل عوامل الانتاج المعطلة ، كالموارد الغير مستغلة و العمل و راس المال عبر خطط تركز في مراحلها الاولى على الاستثمار العميق في قطاع النفط و الغاز ، ثم تحويلهما الى صناعة وطنية تقترب من مصالح المجتمع. و تكون اداة بالفعل للنهوض ببقي القطاعات الاقتصادية رقيا و تنوعا.


د. عبد الجليل السيد
اكاديمي و باحث في العلوم الاقتصادية
مقيم في المملكة المتحدة
Tel:02087800912
Email:
[email protected]