إيلي الحاج من بيروت: يشهد القطاع العقاري في لبنان فورة متجددة، بفضل استقطابه المستثمرين الكبار، الذين قرروا تجاوز المطبات والأخطار السياسية، وتاليًا الأمنية المحتملة في هذه البلاد التي تنتظر تأليف حكومة جديدة منذ شهرين، من غير أن يظهر ما يبشّر بولادتها، بل على العكس، تنحو الأمور يوميًا نحو مزيد من التعقيد.

لكن أصحاب الأموال لا يبالون، ربما لكثرة ما مر بلبنان من حروب وويلات على مدى العقود الأربعة الماضية، مما رسّخ اقتناعًا في لاوعي المستثمرين أنه لا يمكن أن يحصل فيه أكثر مما حصل ماضيًا، وبالتالي فإن البناء في لبنان راسخ ومضمون، خصوصًا أنه لم يتأثر كغيره بالأزمة المالية العالمية بفعل التدابير المصرفية المشددة فيه.

وكانت إحصاءات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات أشارت في تموز (يوليو) الفائت إلى تحقيق معدلات نمو استثنائية في قيمة مبيعات العقارات وطلبات تراخيص الإنشاء في لبنان، بحيث تجاوزت نسبة 7.6 % و 12.6 % على التوالي في الأعوام الخمسة الماضية، في حين ازدادت طلبات الحصول على تراخيص بناء بنسبة 4.3 % سنويًا. ولحظ التقرير أن المستثمرين الإماراتيين تحديدًا، هم الأكثر نشاطًا في لبنان، إذ بلغت استثماراتهم فيه 1.115 مليار دولار، تمثل 41.9 % من الاستثمارات العربية الإجمالية خلال العام الفائت.

ومن أهم المشاريع الجديدة، المجمع الذي أطلق عليه اسم quot;بيت مسكquot; بكلفة 800 مليون دولار، على مساحة 655 ألف متر مربع، وهو أشبه بقرية نموذجية من 500 فيللا ضخمة بمواصفات نموذجية، بين منطقتي بعبدات- بكفيا في وسط المتن الشمالي ضمن منطقة حرجية عذراء وطبيعة خلابة، وقد انتهت أعمال شق الطريق وتعبيدها بمواصفات الطرق السريعة العالمية، بتفرع من أوتوستراد نهر الموت ndash; بعبدات.
وقال جورج أبو جودة، المسؤول في شركةquot; رينيسانس القابضةquot; مالكة مشروع quot;بيت مسكquot;، الذي تطوره شركة quot;إعمارquot; الإماراتية في لبنان، إن لبنان حقق نتائج إيجابية على مستوى قطاعات الإنشاء والعقارات خلال النصف الأول من 2009.
وفي العاصمة، أطلق مشروع quot;سما بيروتquot;، الذي سيكون البرج الأعلى في المدينة. ويشكل علامة فارقة في لبنان القرن الحادي والعشرين، بارتفاعه 50 طبقة، وهو استثمار لبناني بكامله، وينجز سنة 2014، يقع في منطقة السوديكو في قلب الأشرفية التي تشهد إقبالاً كبيرًا على بناء العقارات والسكن، وعلى مسافة دقائق قليلة من وسط بيروت، ويضم متاجر ومكاتب وشققًا سكنية.

لكن خبراء عقاريين يقولون إن سوق العقارات اللبناني لا يزال مصابًا بفقاعة الأسعار التي انتفخت بين مطلع 2007 وأواخر 2008 بنسب تجاوزت الـ 60 %، في حين لم تشهد الأشهر الستة الأولى من 2009 تغيرات أساسية في مستويات أسعار الأراضي والشقق السكنية، لا بل كانت الأسعار الفعلية أقرب إلى الثبات، وحركة العرض والطلب باتت خاضعة لمفاعيل عملية هضم الارتفاع.

وكان الإرتفاع الجنوني لأسعار الشقق في السنتين السابقتين قد أدى إلى حالة من الانتظار والركود، انعكست حركة سلبية في السوق، وما يشبه الفصام بين العرض والطلب. فالناس انتظروا هبوط الأسعار، وبالتالي لم تحصل عمليات بيع، بينما تشبّث تجار البناء والمطورون العقاريون برفضهم البيع بأسعار مخفوضة منتظرين منذ 10 أشهر زيادة عودة قوية لحركة البيع، غير أنهم سيضطرون إلى الانتظار حتى نهاية السنة الجارية، لتكون الأسعار الحالية في حينه، أقرب الى المنطق. وبالتالي، فإن قدرة التجار والمطورين على الصمود، أو عنادهم وتمنعهم عن البيع بسعر منخفض، قابلها عناد وإحجام عن الشراء احتجاجاً على الإرتفاع غير الطبيعي للأسعار، ويقول بعض العاملين في سوق العقارات إن أسعار العقارات غير المبنية- أي الأراضي- ترتفع من دون عمليات بيع فعلية، وهذا الارتفاع مبني على طلب وهمي، تخلقه الأسئلة عن قطعة الأرض هذه أو تلك.

ويلاحظ أن ارتفاع الأسعار في ضواحي بيروت يكاد يوازي المستويات في مدينة بيروت. أما الأسباب فهي بنيوية، الضاحية الجنوبية مثلاً، تحولت مجمعاً أسمنتياً متراصفاً، والمساحات القابلة فيها للبناء قليلة جداً، لكن الفارق أنها المكان الأكثر شعبية،
حيث السكان الفقراء ومن هم دون الدخل المتوسط، وفيها تزايد سكاني ملحوظ، مما يخلق طلباً متزايداً على الوحدات السكنية ويدفع الأسعار إلى مستويات مرتفعة.

وقد امتدت ضواحي بيروت شمالاً إلى نهر الكلب وأدونيس، مروراً بتلال النقاش وعوكر ومحيطها شمالاً، وجنوبًا حتى الجية والدامور وخلدة ودير قوبل وبشامون وعرمون، وشرقًا حتى عاليه وشملان وعيتات. ويجمع الخبراء على أن المنحى التصاعدي للأسعار لن يتوقف لأسباب بنيوية استراتيجية، لكن وتيرة هذا الإرتفاع ستكون أقل بكثير مما كانت قبل سنة ونصف سنة، وإن الأسعار في مدينة بيروت هي الأكثر تماسكًا، تليها ضواحي بيروت.

وواضح أن الأراضي المتاحة للبيع في المدينة ضئيلة جداً، يقول رئيس فرع المهندسين المعماريين في نقابة المهندسين في بيروت توفيق سنان إنها لا تتجاوز 200 قطعة جاهزة للبيع والشراء والتطوير. وهذا يعني أن بيروت كتلة أسمنتية هائلة، وهذا سبب كاف لزيادة الأسعار. ويلاحظ في قراءة سوسيولوجية ndash; ديموغرافية سهولة لدى أبناء بعض الطوائف في البقاء في لبنان، على نقيض أبناء طوائف أخرى ينحون إلى الهجرة الموقتة أو الدائمة. وفي حال إنشاء 1500 وحدة سكنية على العقارات الـ 200 فإنها لن تكفي للطلب المتنامي على الشقق والمقدر بالآلاف. ويشير إلى أن 90 % من المشترين في السنوات الثلاث الأخيرة هم لبنانيون، إذ إن الخليجيين والأجانب لا تتعدى نسبتهم ٤٠ %، وبالتالي فإن شراء الشقق الكبرى يقتصر على أثرياء لبنان، وعددهم محدود. هذا يعني أن القدرة على شراء شقة في بيروت باتت حكراً على شريحة معينة من اللبنانيين، إذ يستحيل فيها شراء شقة سكنية جديدة بمساحة 150 متراً مربعاً بأقل من 300 ألف دولار. وإذا كانت مطلة تطل من بعيد على البحر، فإن سعرها يتضاعف.