quot;تقطير ماء الوردquot;.. حرفة بل صناعة اشتهرت في الجزائر منذ القدم، مارستها أجيال من الآباء والأجداد، لها أسرار لا يدرك أبعادها سوى محترفوها الذين أضحى عددهم يتناقص من يوم لآخر، على نحو يهدّد بزوال حرفة أثبتت جدواها الاقتصادية على مدار قرون.

الجزائر: يقول عارفون لـquot;إيلافquot; أنّ حرفة تقطير ماء الورد ظهرت لأول مرة في الجزائر أواسط القرن السادس عشر على يد الولي الصالح quot;سيدي أحمد الكبيرquot; الذي أكسبها طابعا أندلسيا محضا من خلال اهتمامه بغرس الأشجار والورود وتشييد الحدائق.

وارتبط اسم الحرفة إياها منذ ذاك الزمان بمدينة البليدة المكنّاة بـquot;مدينة الورودquot; (50 كلم جنوبي غرب العاصمة)، وذاع صيت تقطير الورد خلال حقبة الوجود التركي بالجزائر، ليفرض عبقه الأخاذ على الأسواق المحلية، وساعد سهل متيجة المعروف بخصوبته آنذاك في ازدهار حرفة استهوت الجزائريين.

وتؤكد quot;خيرة قرجاجquot; (55 سنة) إحدى المختصات في هذه الحرفة والتي تمارسها بشغف منذ ربع قرن، إنّ فترة تقطير ماء الورد تبدأ عند منتصف شهر أبريل/ نيسان حتى النصف الأول من شهر مايو/آيار من كل عام، ويتم التحضير لها بدءا بالمواقد التي يتم عن طريقها التقطير، ويجري قبل ذلك التأكد من صلاحية الأواني النحاسية، لمباشرة عملية التقطير نفسها مع تفتح الأزهار وتستمر تلك العملية يوميا بحسب الكمية التي يتم جنيها من بساتين الورود، هذه الأخيرة تزدهي بمختلف الألوان والأشكال والروائح الزكية، من الياسمين بنوعيه الأبيض والأصفر، إلى جانب الريحان والفل والقرنفل والنرجس والنسرين والخزامة.

وتشرح خيرة التي تمارس حرفتها ببيتها الخاص، لـquot;إيلافquot; أنّ استخلاص ماء الورد يتم وفق الطريقة التقليدية المعروفة التي تعتمد أساسا على عملية تكثيف البخار، حيث يُوضع الورد في قدر نحاسي مملوء بالماء ومُحكم الغلق يخضع لدرجة حرارة، ثمّ يُصب بخار الماء المكثف في عبوات يُستخرج منه ماء الورد المعروف بكثافته.

كما تأخذ عملية استخراج بعض الزيوت العطرية والطبية واستخلاصها من أزهار النباتات عدة مراحل أهمها تقطيع النبات أو طحنه إلى أجزاء صغيرة حتى يتعرض أكبر جزء في خلاياه العطرية للتسخين إضافة إلى عدم استعمال الأواني الحديدية في تحضير الزيوت العطرية الغنية بالمواد الأكسوجينية و التي ينتج عنها مواد ضارة و التي تتسبب أيضا في تغير لون الزيت العطري و تستعمل عادة الأواني النحاسية المغطاة.

وتوضع هذه الأواني على النار- تضيف محدثتنا- لمدة أربعة ساعات حتى يتبخر الماء ويتكثف داخل الإناء النحاسي لينتج بذلك ماء الورد، ويُقدر سعر ماء الورد بأربعمائة دينار (بحدود ستة دولارات) عن اللتر الواحد، ويلقى المنتوج الذي يرافق العسل والقرفة بدون منازع، رواجا بين الزبائن تبعا لفوائده الجمّة، حيث يُستخدم في الغذاء من خلال إدخاله في سلطات الجزر، ويوظف ماء الورد أيضا في تحضير الحلوى المصنوعة باللوز والجوز ويعطي نكهة خاصة عطرة، كما يُنصح بماء الورد في العلاج لمرضى الجهاز العصبي والقلب والشرايين، مثلما هو مهدئ للأعصاب من الدرجة الأولى، ويمكن تحضير شراب منه في الحليب أو تناول الشاي الساخن المُعطر بماء الزهر.

بيد أنّ هذه المهنة على ما تنطوي عليه من مسار صناعي دقيق ومنهك، باتت تعاني في ظل عزوف الأجيال الجديدة عن ممارستها، وهو أمر يقلق صالح، عمار، ونذير وهم من الحرفيين القلائل الذين لا زالوا أوفياء لتقطير ماء الورد، بهذا الصدد، يشير صالح (58 عاما) بنبرة تشوبها حسرة:quot;في سبعينيات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، عاشت حرفتنا أزهى أيامها، كان المشتغلون في هذا الميدان كُثر، لكنّ الآن غالبية هؤلاء اعتزلوا المهنة لاعتبارات سوسيو-اقتصادية مُتداخلة، بينما الشباب بما فيهم البطالون لا يبدون أي حماسة لمزاولة حرفة تُكسب صاحبها الكثير، وهو واقع ينسحب على عديد الحرف الأخرىquot;على حد قوله.

ويلقي عمار (44 عاما) باللائمة على سلطات بلاده، لا سيما الأجهزة المكلفة بالسهر على ديمومة الحرف التقليدية، ويجزم عمار أنّ الجهات الوصية لا تبذل الكثير لتأمين حرفة تقطير الورد والحيلولة دون زوالها، ويعلق عمار:quot;الخطاب الرسمي في واد، والواقع مغاير رأساquot;، متسائلا:quot; لماذا لا يتم حث العاطلين على إنشاء مؤسسات مصغرة مختصة بتقطير ماء الورد؟، بينما لا يفهم نذير (52 عاما) لبلد يعاني من بقاء نسبة البطالة عالية في أوساط الشباب، أن لا يفكّر مسؤولوه في أنماط جديدة للتشغيل، تشكّل حرفة تقطير ماء الورد حلقة بارزة فيها.

ويلاحظ الخبير quot;إلياس عيساويquot; في تصريح لـquot;إيلافquot;، أنّ حرفة تقطير ماء الورد تواجه الآن خطر الاندثار بفعل تراجع غراسة الورود وزحف الاسمنت، فضلا عن قلة اهتمام الأجيال الصاعدة بهذه الحرفة التي أضحت مرتبطة بتواجد أصحابها الحاليين على قيد الحياة، ويشتكي مستهلكون التقتهم quot;إيلافquot; من مواجهتهم صعوبات كثيرة منذ ظرف ليس بالقصير، في الحصول على ماء الورد المقطّر طبيعيا، ويوضح سليم (39 عاما) بهذا الشأن:quot;منذ رحيل أحد كبار الحرفيين بمنطقتنا، صار أمر الحصول على ماء الورد صعبا للغايةquot;.

ولتلافي هاجس التراجعات الذي يربك راهن الحرفة، تبذل فعاليات محلية مساعي حثيثة لاستعادة اعتبار صناعة تقطير ماء الورد، لكنّ الأخيرة تبقى بانتظار من يأخذ بيدها، ولعلّ تصحيح الوجهة يكون أولا من خلال إدراج هذه المهنة ضمن التخصصات التي يتم تدريسها عبر مؤسسات التكوين المهني والتمهين في الجزائر.