على خلفية الخسائر التي تكبدها اقتصادها جرّاء اتفاق الشراكة المبرم مع الاتحاد الأوروبي في سبتمبر/أيلول 2005، تعطي الجزائر انطباعا قويا على لسان مسؤوليها، أنّها تراجعت عن رهان الانضمام بشكل متسرع إلى المنظمة العالمية للتجارة، بداعي حماية مصالحها وعدم السقوط في فخاخ الماضي.

الجزائر: خلافا لمواظبة مسؤولين حكوميين على التأكيد منذ العام 2003، بأنّ الجزائر ستنضم في آجال قريبة إلى منظمة التجارة العالمية لإنهاء شد وجذب استمر منذ حزيران/يونيو 1987، يكشف وزير التجارة الجزائري quot;الهاشمي جعبوبquot;، في تصريحات صحفية، أنّ بلاده لم تقرر الإجابة على 96 سؤالا تقدّم بها كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، تخص مسعى انضمام الجزائر إلى المنظمة المذكورة، ويلفت المسؤول الأول عن قطاع التجارة في الجزائر، أنّ حكومة بلاده لم تقرر بعد إعطاء الأجوبة النهائية لكون بعض الأسئلة تتطلب دراسة وتفحصquot;.

بهذا الصدد، يرى جعبوب:quot;الأمر معقد والقضية تتعلق بسيادة دولة، ثمّ أنّ معظم المطالب تضر باقتصادنا الوطنيquot;، مشيرا إلى أنّ لائحة الأسئلة الـ96 تتضمن خمسة عشر سؤالا تقتضي quot;دراسة معمقةquot; نظرا لآثارها على الاقتصاد الجزائريquot;، ويعدّد الوزير الجزائري محاذير عديدة تنطوي عليها المسألة على غرار تسعيرة الغاز بالسوق المحلية و الخارجية، ناهيك عن السماح بدخول المركبات القديمة للسوق المحلية وإلغاء الرسم الداخلي للاستهلاك على بعض المواد الكمالية وغيرها، و كذا تمكين الأجانب من ممارسة النشاط التجاري بسجلات أجنبية.

يحدث هذا في وقت تتخذ فيه الجزائر اتجاه اقتصاديا معاكسا، من خلال اتجاهها إلى تحرير أسواقها أكثر فأكثر، وإقرار التجارة الحرة واعتمادها على تدابير تصحيحية لتأمين آلتها الإنتاجية وتكريس حماية منظومتها الاقتصادية، وهو ما يعني أنّ الجولة القادمة للمفاوضات بين الجزائر وعرابي المنظمة العالمية للتجارة، لن يحمل شيئا ذا بال، ويؤشر على بقاء المسألة عالقة إلى إشعار آخر.

وتبعا لما تقدّم، بات واضحا أنّ الجزائر لن ترضخ لضغوطات القوى الكبرى في المنظمة العالمية للتجارة، فبعد إصرار الجزائر لسنوات عديدة بمبدأ تعجيل الانضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة، ها هي الآن تتراجع عبر تأكيد حكومتها أنّها ستأخذ كل وقتها للانضمام، احترازا مما يسعى الكبار فرضه.

هذا المعنى أبرزه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، بوضوح قبل أسبوع، حينما شجب في كلمته برسم قمة مجموعة الـ15 المُقامة بطهران، فرض شروط تعجيزية على البلدان النامية المترشحة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، بما ينجم عن ذلك من انكماش تلك الدول، ولم يستسغ بوتفليقة انحرافات ما سماه quot;نظام دولي آيل إلى الاضطراب وإلى الأزمات المتواترة وموجه حصرا نحو استئثار أقلية بتجميع واحتكار المنافع على حساب مصالح الأغلبيةquot;.

وفي سياق انتقاده غير المباشر لقواعد اللعبة التي يديرها متنفذون داخل المنظمة العالمية للتجارة، رأى بوتفليقة أنّ القرن الحادي والعشرين لا يمكنه أن يبقى محكوما بمؤسسات ومصادر قرار تعكس موازين لا تمت بصلة للواقع الحالي، بما يفرض تغييرا في العلاقات الاقتصادية الدولية متعددة الأطراف، ملفتا إلى أنّ دول الجنوب تساهم اليوم بقسط معتبر في التجارة العالمية، وزادت بشكل محسوس من حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

وسبق للجزائر أن شاركت في ثمانية عشر جولة تفاوض منذ بدء مسعاها للانضمام، ردّت خلالها على 1500 سؤال وطلب قدمتها الدول الأعضاء، وأنهت الجزائر مفاوضات ثنائية مع خمس دول أعضاء فقط وهي البرازيل والأوروغواي وكوبا وفنزويلا وسويسرا على أن تواصلها مع تسع دول أخرى هي كندا وماليزيا وتركيا وكوريا الجنوبية والإكوادور والنرويج واستراليا واليابان، علما أنّ الجزائر حدّدت في آخر جولة من المفاوضات مع المنظمة العالمية للتجارة، شروطا لدخول الممولين الأجانب 87 قطاعا فرعيا للخدمات، من بين 161 قطاعا فرعيا.

وأوعز مسؤول أوروبي قبل فترة، أنّ القوى العظمى لن تسمح بانضمام الجزائر إلى الأخيرة، ما لم (يذعن) الطرف الجزائري إلى الضغوط التي يفرضها الأعضاء سيما المجموعة الأوروبية بشأن تحرير قطاع الخدمات وإقرار تسعيرة مغايرة للمواد الطاقوية، من خلال إيجاد حلول لعبور سائر المنتجات على الأسواق الأوروبية، وكذا مشكلة الازدواج الضريبي والوحدة السعرية الموظفة في تسويق المحروقات برفع سعر الغاز في الجزائر، وهو تصور شدّد عليه quot;بيتر مندلسونquot; المحافظ الأوروبي للتجارة، عندما أعلن أنّ ''الطريق لا يزال طويلا أمام الجزائر لبلوغ هذا الهدف''، وتلميحه القوي إلى أنّ انخراط الجزائر في منظمة التجارة قد يتأجل إلى ما بعد العام الحالي، إذا لم تجد الجزائر حلولا وناجعة وشافية لشركائها الجدد، وتأتي هذه التصريحات في سياق مضاد لجزم السلطات الجزائرية أنّ الانضمام في منعرجه الأخير وبات بين قوسين أو أدنى، بعدما هيأت مناخها التجاري عبر كثير من الاصلاحات المتعلقة بالمنظومة الجمركية والقانونية، من حيث إقدامها على إلغاء وتحديث وتعديل جوانب متعددة في منظومتها التسييرية على درب تكييفها مع مقومات الانخراط في منظمة التجارة العالمية، وأبدى جعبوب التزام الجزائر بضمان التنافسية وإقرار تسعيرة موحدة للطاقة بالنسبة للسوق المحلية والخارجية، مفنّدا ما تردد عن دعم بلاده لمؤسساتها الانتاجية عن طريق تحديد سعر للطاقة يقل كثيرا عن سعر الطاقة المصدرة، كما أوضح أنّ الجزائر لا تعتمد سعرين مختلفين للطاقة على المستويين الداخلي والخارجي.

وقبيل استئناف المفاوضات أوائل الصيف المقبل، أسرّت مصادر على صلة بالملف لـquot;إيلافquot; إنّ مساعي الجزائر للانضمام لمنظمة التجارة العالمية قد تستمر في الاصطدام بإرادات أعضاء نافذين لا يشاطرون المنظور الجزائري لإيجاد مخرج لمعضلة الطاقة والخدمات التي تركت مسار الانضمام معلّقا منذ سنة 1998، ولعلّ الموقف المعبّر عنه من طرف المحافظ الأوروبي للتجارة quot;بيتر مندلسونquot; عن كون القضايا المتصلة بقطاعي الطاقة والخدمات، quot;لا يمكن تنحيتهما جانبا أو التعامل معهما باستخفافquot;، إنّما يعكس عدم استساغة الأوروبيين لتعاطي الجزائريين مع النقطتين الآنفتي الذكر، ومحاولتهم التقليل من حدتهما عن طريق تبني الخطاب ذاته الذي تسقطه المجموعة الأوروبية.

ورغم الحسم في نقاط متعلقة بحرية تنقل لحوم الغنم والحليب، بالإضافة إلى أنشطة الاتصالات الموجهة للمؤسسات، بيد أنّ التحفظات لا تزال أيضا مستمرة بشأن ملف استيراد السيارات القديمة، ومشاكل أخرى تمسّ الحقوق الجمركية على الحليب، وهذا الشق أبرزه وزير تجارة زيلندا الجديدة، هون فيل جوف، عندما كشف مؤخرا إنّ المفاوضات تبقى عالقة بسبب سؤال حول تخفيض التعريفة الجمركية المفروضة على المواد الأولية لإنتاج الحليب ومشتقاته، علما إنّ هذه المنتجات أهم ما تستورده الجزائر.

ويقول العارفون بالشأن الاقتصادي الجزائري، إنّ السلطات هناك رغم أنّها ''تضع الانضمام أولى أولوياتها في المرحلة القادمة لتطوير اقتصادها''، إلاّ أنّها تعارض تقديم مزيدا من التنازلات، إذ ليست مستعدة ndash;على الأقل في الوقت الراهن- للتخلي عن التسعير المزدوج للطاقة في الأسواق المحلية والدولية، كما لا تريد إقرار نمط آخر لمنظومة الخدمات، تبعا للمصاعب التي تواجهها البلاد جراء تحديث وتحرير الخدمات، في وقت تتعالى الأصوات المنتقدة لما يشهده القطاع المذكور، بحكم ما ينتابه من تقدم بطيئ، واستمرار ما يلف المصارف المحلية ومحدوية استثماراتها وعوائدها برغم كل الخطابات التي تحدثت عن إصلاحات متسارعة وفعالة منذ إنشاء الدولة الجزائرية لوزارة مكلفة بالإصلاح المالي العام 1999.

وكانت الجزائر كشفت قبل فترة، أنّها قطعت نحو 95 في المائة من أشواط انضمامها إلى المنظمة العالمية للتجارة، وصرّح كبير المفاوضين الجزائريين quot;شريف زعافquot; تتويج انضمامها إلى المنظمة المذكورة قبل نهاية العام الجاري، بيد أنّ الرهان لم يتحقق وقد يتأجل لسنتين إضافيتين، رغم تقديمها عرضا جديدا للتعريفات الجمركية للمنظمة العالمية للتجارة، ما سيسمح لها باستكمال مفاوضاتها مع ست دول عضوة في المنظمة التي لا تزال تبدي بعض التحفظات التي لا تزال تبدي بعض التحفظات إزاء إنضمام الجزائر إلى حظيرتها بسبب وضع الجزائر كبلد نفطي.