تركت الأزمات الإقتصادية المتتالية التي تضرب الدول الأوروبية، آثاراً بالغة السوء، على الكفاءات العربية المهاجرة إليها، من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعة، والتي تجد نفسها حاليا، مُهملة وعاطلة عن العمل، تتقاذفها أزمة البطالة والركود الإقتصادي. تعيش هذه الكفاءات التي هاجرت بلدانها بسبب الحروب والظروف الإقتصادية الصعبة، أوضاعا نفسية صعبة للغاية، لفشلها في الحصول على عمل، وتركها على الهامش!


استوكهولم: تتزايد يوما بعد يوم أعداد الأكاديميين العرب المهاجرين العاطلين عن العمل في الدول الأوروبية، رغم الشهادات التي حصلوا عليها في بلدانهم. وأصبح منظر تقاطر المئات منهم على مكاتب وساطة العمل، منظرا مألوفا، في ظل تزايد أعداد العاطلين من السكان الأصليين.ويعاني الكثير من هؤلاء صدمة قوية عند معرفتهم أن الرغبة القوية في الهجرة والعمل في الخارج، لم تكن سوى حلم اصطدم بالواقع المّر، فيجدون أنفسهم مُجبرين على مزاولة أعمال خدمية لاتمت الى شهاداتهم ومهنهم بصلة.

مهاجرون أكفاء يروون قصصهم

جميل جمعة، طبيب عراقي ( 60 ) عاما، أخصائي في الامراض النسائية والتوليد والعقم الرجالي، عاطل عن العمل من عدة سنوات، يقول لـ quot; إيلافquot;: quot; قدمت 150 طلبا للحصول على عمل، لكن دون جدوى، وبدافع من اليأس تقدمت بطلب للتقاعد دون خدمة، وأتقاضى الآن في الشهر 3500 كرونة (مايعادل 540 دولارا ) شهريا، وهو مبلغ لايسد أبسط مستلزمات الحياة في السويد!

الدكتور جميل الذي مارس الطب 10 سنوات في هنغاريا، وسنتين في ليبيا، وسبع سنوات في العراق، لايستبعد أن يكون هناك quot; دوافع عنصرية quot;، إضافة الى quot; العمر quot; تمنعه من الحصول على عمل. ويقول: quot; أمضيت خمس سنوات في دراسة اللغة، لكن جرى تسجيلي كمتدرب في مشاريع لاعلاقة لها بمهنتيquot;.يعاني جمعة ضغوطات نفسية كبيرة، فالمهنة التي هي quot; أعز شيء عندي quot; لا أستطيع مزاولتها، إضافة الى ما تتركه البطالة من تأثيرات نفسية عميقة على صحة الإنسان.

المهندسة سلوى أفرام (34 ) عاما، جاءت الى السويد قبل 8 سنوات، لم تذق طعم العمل الذي كانت تطمح إليه، سوى لمدة سنة، لكن كمتدربة دون مقابل! تقول سلوى لـ quot; إيلافquot;: quot;سوق العمل هنا مختلفة كليا عن بلداننا، فالمعارف التي اكتسبتها طيلة سنوات دراستي، لايعترف بها أحد هنا، حتى أن العمارة التي درسناها هناك لا وجود لها هناquot;.

مازن الشمري، أستاذ جامعي عراقي يعيش مع عائلته في السويد منذ 10 سنوات، لم تكن كافية كي يحصل على وظيفة ثابتة. الشمري يقول: quot; لايكفي أن تذهب الى المدرسة وتتعلم اللغة، فهناك آلاف من أبناء البلد عاطلون ينتظرون مثلك الحصول على عمل، فهل أنا المفضل أم هم؟quot;.

لكن منهم من ارتقى !

لكن فريد باسيل الشاني، سويدي من أصل عراقي، تمكن بسبب quot;الهدف الواضح، والمثابرة، والإرادة quot;، كما يقول من الوصول الى العمل الذي كان يطمح اليه، لكن بالطبع بعد كدّ وتعب ودراسة لسنوات طويلة. فهو الآن في مركز مرموق يشغل حاليا منصب مدير دائرة العمل والشؤون الاجتماعية لمنطقة quot; أنكريد quot; التابعة لمدينة يوتوبوري جنوب السويد.

يعتقد الشاني أن السبب الذي يقف وراء تزايد أعداد العاطلين عن العمل في صفوف المهاجرين، هو المنافسة الحرة في سوق العمل. ويقول لـ quot; إيلاف quot;: quot; إن المهاجر الذي وإن امتلك في بلده شهادة جامعية، فإن ذلك ليس كافيا هنا، فعليه أن يكون أفضل من السويدي، وأن يجدد مؤهلاته العلمية بما يتناسب والمعايير المتبعة هنا، كي يستطيع الحصول على عملquot;.

وبحسب الشاني الذي يمتلك خبرة واسعة في مجال سوق العمل والشؤون الاجتماعية المتعلقة بالمهاجرين، فإن العامل الثاني الذي يقف مانعا في حصول الأكاديميين المهاجرين على عمل هو: quot; حداثة تجربة الشركات والدوائر السويدية في التعامل مع الخبرات الأجنبية المهاجرة، لهذا quot; ربما quot; يكون هناك بعض العوائق بسبب الحذر في تقييم المؤهلات الأجنبية، لذلك وحتى يتمكن المرء من الحصول على عمل، يتطلب صرف وقت وجهد غير عاديينquot;. ويوضح فريد الشاني أن هناك عوامل أخرى تلعب دورا هاما في الحصول على عمل منها، quot;مدى نجاح المهاجر في إعادة صياغة قيمه الإجتماعية والشخصية بما يتلاءم مع المجتمع الجديدquot;.

أرقام

في تشرين الأول ( أكتوبر ) 2011 ذكر مكتب العمل السويدي أن نسب البطالة في العاصمة ستوكهولم في صفوف المهاجرين زادت بنسبة 5 % مقارنة بالسنة التي قبلها، وارتفعت النسبة بين صفوف النساء 8,7% خلال عام واحد مقابل الرجال.

ووفق دراسة نشرتها لجنة التدقيق المالي المركزي Riksrevisionen في ستوكهولم، فإن معدلات البطالة ارتفعت بشكل ملحوظ بين المهاجرين الأكاديميين مقارنة بالسويديين من ذوي المؤهلات نفسها. واللافت في الدراسة أن هناك فرصا تكاد تكون معدومة، بالنسبة الى المهاجرين العرب لإجراء مقابلة مع أرباب العمل الذين يعتذرون منهم بسرعة لعدم قبولهم.

توجه نحو أيدٍ أوروبية ماهرة!

يعتقد الناشط في شؤون الهجرة والمهاجرين محمد عز الدين، أن الدول الأوروبية بدأت بالفعل في السنوات الأخيرة، تغيرا جذريا في سياسة الهجرة، معتمدة على استقطاب الأيدي العاملة الماهرة من بلدان أوروبا، ورفض مثيلاتهم من دول الشرق الأوسط، خصوصا بعد تدني مستوى التعليم في هذه الدول.

ويضيف قائلا لـ quot; إيلاف quot;: quot;عند توقيع الدول الأوروبية على اتفاقية جنيف 1954، لم تكن تضع في حساباتها تدفق لاجئين من بلدان الشرق الأوسط اليها، فهي أساسا وقعتها بهدف استقطاب الأيدي العاملة الماهرة من بلدان المعسكر الإشتراكي، في ظروف الصراع الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربيquot;. لكنه يشير الى أنه quot;اعتبارا من عقد السبعينات من القرن الماضي، بدأ تدفق اللاجئين من ايران ومن ثم في الثمانينات من العراق وفلسطين وبعد ذلك من الصومال ودول المغرب العربي، الأمر الذي أدى الى غرق هذه البلدان بموجات من المهاجرين لم تعد اقتصاديات هذه الدول تتحملهاquot;.

الربيع العربي والهجرة المعاكسة

إذا كان هذا واقع المئات من الأكاديميين العرب في الخارج، فإن تساؤلات كثيرة بدأت تُطرح في أوساطهم، حول التغير الذي تشهده بلدان الربيع العربي، ومدى قدرته على فسح المجال أمامهم بشكل جدي ودائم، كي يعودوا الى أوطانهم، ويحظوا بفرص متكافئة للعمل، تمكنهم من العيش بكرامة وأمان!

مارون عون وهو رجل أعمال سويدي من أصل لبناني يستشهد بتجربة إقليم كردستان العراق في الشمال، ويقول لـ quot;إيلافquot; : quot;عاد عدد لا بأس به من الأكاديميين العراقيين الى كردستان للعمل، بعد توفر الأمان وظروف العمل المناسبة الى حد ما هناكquot;. هذه العودة، يعتبرها عون quot; مؤشرا إلى رغبة واستعداد المهاجرين العرب حاملي الشهادات والخبرات بالعودة الى بلدانهم، والعمل فيها، في حال توفر الحد الأدنى من متطلبات العمل والعيش المقبولquot;. فهل سينتشل الربيع العربي الطاقات والعقول العربية المهاجرة من الهاوية التي وجدت نفسها فيه؟ أم ستظل هذه الكفاءات تعاني من قسوة الواقع المر الذي انتهت اليه؟