الدوحة: تشهد منطقة اليورو هذه الأيام جولات مكوكية بين قادة و زعماء دولها في محاولة لنزع فتيل أزمة الديون التي تكاد تعصف بالمستقبل الاقتصادي لدول المنطقة، خاصة ما تسمى اختصارا بدول (PIIGS)، وهو اختصار يشير إلى الحروف الأولى لكل من البرتغال وأيرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا على التوالي، والتي ارتفعت مستويات الديون السيادية فيها إلى نقطة حرجة.
ولم تعد الدول سالفة الذكر الأكثر تأثرا بأزمة منطقة اليورو، والديون السياسية التي يئن اقتصادها تحت وطأتها، بل طال التأثر بدرجة ما الدول الأكثر متانة في المنطقة، ومنها ألمانيا وفرنسا، اللتان تسعيان حاليا إلى تدارك الأوضاع بدول (PIIGS) بقدر المستطاع خوفا من استفحال حالة الركود الاقتصادي بالمنطقة، والانخفاضات الكبيرة المتوقعة في معدلات الطلب الاستهلاكي مع تعقد الأزمة، وارتفاع معدلات البطالة، وهو ما يلقي بالتبعية على اقتصادياتهما.
وقد بدا هذا الاتجاه واضحا في تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في مباحثاتها الأخيرة مع رئيس الوزراء اليوناني أنطونيوس ساماراس، حيث سعت إلى طمأنته بأنها تؤيد مساعيه، ودفاعها هي عن بقاء اليونان في منطقة اليورو، وقالت quot;منذ بداية الأزمة قلت بوضوح إن اليونان جزء من منطقة اليورو، وأريدها أن تبقى فيهاquot;، مؤكدة أنها quot;ستبذل ما بوسعها لكي تقدم ألمانيا أكبر مساعدة ممكنة لكي تفي اليونان بالتزاماتهاquot;.
وخلال المباحثات، طلب رئيس الوزراء اليوناني من ميركل مهلة إضافية من سنتين، حتى عام 2016 quot;لتصحيح مالية بلادهquot;، قائلا quot;نحن لا نطلب المزيد من المال وإنما مهلة اضافيةquot;.
وتتسق تصريحات ميركل، مع تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند مع رئيس الوزراء اليوناني التي أكد فيها quot;أن اليونان في منطقة اليورو، ويجب أن تبقىquot;، معتبرا أن التشكيك بشأن بقاء هذه الدولة ضمن منطقة اليورو quot;غير مطروحquot;، وهي التصريحات التي تبين رغبة ألمانيا وفرنسا في الدفع بأزمة منطقة اليورو إلى الأمام، وأن التأكيد على مساعدة اليونان، الدولة التي تواجه مخاطر أصعب في المنطقة، يؤكد الحرص على مسألة المساعدات التي ستقدمانها إلى دول المنطقة، سواء من خلالهما بصورة مباشرة، أو من خلال البنك المركزي الأوروبي، وصندوق الإنقاذ بالمنطقة.
وتهدف الجولات والمحادثات المكثفة، سواء على مستوى الزعماء أو القادة أو الاقتصاديين، إلى إطلاق جهود لنزع فتيل أزمة ديون القارة الأوروبية، والنظر في إجراءات مساندة اليونان، وبحث أزمة الديون السيادية، ومنع إسبانيا وإيطاليا من التعرض لرفض أسواق الدين السيادية إقراضهما.
وفي مستهل هذه الزيارات والجولات، تأتي زيارة رئيس مجموعة وزراء مالية منطقة اليورو quot;جان كلود يونكرquot; لبحث طلب رئيس الوزراء اليوناني أنطونيوس ساماراس لتمديد برنامج quot;التعديل الماليquot; (تعديل هيكل النفقات أو الإيرادات بهدف خفض الميزانية العامة للدولة بالنسبة للإنتاج المحلي الإجمالي)، للبلاد لمدة عامين، ولقاء الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند مع كل من رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي الاثنين المقبل، ورئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي في مدريد يوم الخميس المقبل، والذي يليه لقاء المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع راخوي في السادس من سبتمبر الجاري.
وتدعو إسبانيا إلى دعم غير محدود من جانب البنك المركزي الأوروبي مطلع الأسبوع الجاري بعد أن ارتفع العائد على سنداتها العشرية الأسبوع الماضي للمرة الأولى خلال الشهر الجاري، في الوقت الذي أشارت فيه المستشارة الألمانية إلى دعم مشروط لخطة البنك المركزي الأوروبي للمساعدة في خفض تكاليف اقتراض الدول الأكثر مديونية.
وطرحت إسبانيا سندات بقمية 62 مليار يورو منذ بداية العام الجاري، أي ما يعادل 72.2% من القيمة الإجمالية المقرر طرحها خلال عام 2012 التي تبلغ 85.9 مليار يورو. وينتظر الزعماء الأوروبيون حكم المحكمة الدستورية الاتحادية بألمانيا الشهر المقبل بشأن صندوق إنقاذ اليورو، علما بأنه لن يتم تفعيل صندوق الإنقاذ الدائم لمنطقة اليورو البالغ قيمته 500 مليار يورو (617.7 مليار دولار) قبل أن تصدر المحكمة حكمها، إذ ستمكن موافقة المحكمة الحكومة الألمانية من التصديق على معاهدة آلية الاستقرار الأوروبي.
وقبيل صدور حكم الدستورية الاتحادية في ألمانيا سيعاود مفتشو الترويكا المؤلفة من البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي زيارة اليونان مطلع سبتمبر المقبل لتقييم التقدم الذي تم إحرازه للنظر في مسألة ما إذا كانت اليونان ستستمر في الحصول على أموال صندوق الإنقاذ، حيث يسعى رئيس وزرائها إلى التوصل لاتفاق بشأن خفض الميزانية بمقدار 5ر11 مليار يورو لعامي 2013 و2014.
ويرى محللون أن اليونان بحاجة إلى خفض في الميزانية، من خلال ضغط النفقات، يصل إلى 14 مليار يورو خلال العامين القادمين للوفاء بمستهدفاتها لعجز الميزانية نظرا للانتكاسات في برنامج الخصخصة المزمع وتدني حصيلة الضرائب. وقد أوصى تقرير صدر عن أحد مراكز التخطيط والبحوث الاقتصادية الأوروبية مؤخرا الحكومة اليونانية لخفض الميزانية بخفض المعاشات بقيمة إجمالية مقدرة عند 5.1 مليار يورو، وتنفيذ ما وصفها بـquot; إصلاحات صارمةquot;، وخفض حجم القطاع العام المتضخم، وإصلاح نظام تحصيل الضرائب، وبيع أصول للدولة، وفتح مهن معينة أمام المنافسة إذا كانت أثينا تريد الحصول على دعم صندوق الإنقاذ.
وفي تصريح سابق، حذر رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي من quot;المستقبل الغامضquot; الذي ينتظر منطقة quot;اليوروquot;، معتبرا أن المنطقة الاقتصادية قد quot; تتعرض لانهيار نفسي محتملquot; إذا لم يتم التصدي بحزم لأزمة الديون السيادية التي تعصف بها.
وقال مونتي quot;إن أزمة الديون السيادية قد تتحول إلى قنبلة موقوتة في أوروباquot;، مضيفا quot;إن التوترات التي شهدتها منطقة اليورو في السنوات الماضية تحمل في طياتها ملامح انهيار نفسي لمنطقة اليورو، وأنه إذا تحولت العملة الأوروبية الموحدة إلى عامل انقسام فإن أسس المشروع الأوروبي ستكون مهددة بالانهيارquot;.
فيما رحب مونتي باقتراحات البنك المركزي الأوروبي الأخيرة بشراء البنك كميات كبيرة من السندات السيادية للدول المتعثرة اقتصاديا، بهدف مساعدتها على الخروج من أزمة الديون السياسية التي لم تعد حكرا على اليونان، بل امتدت إلى دول محورية في منطقة اليورو مثل إسبانيا وايطاليا.
وتكمن خطورة أزمة الديون السيادية بمنطقة اليورو في تأثيراتها الكبيرة ليس على دول المنطقة فحسب، بل على الاقتصاد العالمي بأسره، فعدم القدرة على السداد، وصعوبة الحصول على قروض، إضافة إلى انخفاض عائدات القطاعات الإنتاجية للشركات الكبرى بسبب أزمة الركود، وانتشار البطالة، خاصة في الدول التي تضربها أزمة الديون السيادية بشدة، ومنها دول مجموعة (PIIGS) بصفة خاصة، قد يؤدي إلى عواقب وخيمة ليس على الاقتصاد الأوروبي فقط، بل على الاقتصاد العالمي.
وبالنظر إلى نتائج أعمال النصف الأول من العام الجاري لعدد من الشركات الصناعية الكبرى، فإن انخفاضا في صافي العائدات لحق بشركة quot;رينوquot; لصناعة السيارات والذي تراجع من 1.25 مليار يورو العام الماضي، إلى 786 مليون يورو، نتيجة تراجع طلب السيارات في أوروبا.
كما تقلصت أرباح quot;لافارجquot; الفرنسية، ثاني أكبر شركة لصناعة الإسمنت في العالم، من حيث العائدات، بنحو 72% إلى 100 مليون يورو، بعد شطبها لديون على أصول يونانية ولاستحقاقات تتعلق بخفض التكاليف، وكذلك الأداء الضعيف لمبيعات quot;سيمينزquot; أكبر شركة هندسية في أوروبا، وquot;باسفquot;، أكبر شركة لصناعة الأسمدة في العالم، وتراجع الأسهم في quot;سان جوبانquot; الفرنسية الرائدة المتخصصة في صناعة الزجاج بنسبة 12 بالمائة، بعد انخفاض صافي عائداتها للنصف الأول بنحو 34% إلى 506 ملايين يورو، مع توقع انخفاض الأرباح التشغيلية بنسبة أكبر.
وتعاني معظم الشركات الأوروبية الكبيرة من إحجام المستهلك الأوروبي عن الإنفاق، ما يعني أن على هذه الشركات حتى تكون قادرة على الصمود في وجه هذه التحديات، ضرورة خفض التكاليف، والبحث عن أسواق جديدة خارج أوروبا، وعدم الاعتماد على السوق المحلية المتعثرة، والتركيز على الأسواق الناشئة مثل روسيا والبرازيل.
وبالنظر إلى ديون دول مجموعة (PIIGS)، نجد أن ديون إيطاليا بلغت نحو 2 تريليون يورو بنسبة فائدة تصل إلى 6.3%، ما يعني أنها بحاجة إلى أكثر من 200 مليار يورو لخدمة الدين سنويا، ما يضع الاقتصاد الإيطالي في وضع بالغ الصعوبة، في الحصول على المساعدات من الأسواق المالية العالمية.
وفي إسبانيا، فإن بيانات البنك المركزي أظهرت أن الديون الإسبانية تصل إلى 840 مليار يورو، وأن القروض المتعثرة في البنوك الإسبانية ارتفعت إلى أعلى مستوى على الإطلاق من 8.4% إلى 9.42% من إجمالي القروض في يونيو الماضي، كما أصبحت البطالة تمثل تهديدا كبيرا في سوق العمل بعد أن قاربت النسبة 25 بالمائة من السكان.
ويؤكد رئيس البنك المركزي الأوروبي quot;ماريو دراجيquot; أن البنك لن يشترك في أي جهود ما لم تتجه في البداية أي حكومة بحاجة للمساعدة إلى صندوق الإنقاذ والموافقة على شروط صارمة في المقابل، حيث سيتعين على الدول التي تحصل على مساعدة أن تنتهج سياسات قوية بشأن الموازنة، واعتماد إصلاحات هيكلية للنمو والتوظيف ومعالجة الاختلالات الهيكلية، حتى يمكن تحقيق الحماية للعملة الأوروبية الموحدة.
واتساقا مع تأكيدات quot;دراجيquot;، فإن رئيس البنك المركزي الألماني (بوندسبنك) quot;ينس فايدمانquot; حذر من أن خطة المركزي الأوروبي لشراء سندات حكومية من دول تعاني من مشكلات في منطقة اليورو تهدد بأن تتحول إلى quot;إدمانquot;، علما بأن المركزي الاوروبي كشف عن تحديد تفاصيل خطة لشراء السندات بعد اجتماع مجلس محافظي البنك في السادس من الشهر المقبل.
وخلال الأشهر الماضية، اضطر المركزي الأوروبي إلى الاضطلاع بدور أكبر في مواجهة أزمة منطقة اليورو، بينما تجري حكومات المنطقة مفاوضات بشأن العقبات القانونية والسياسية من أجل تنسيق تحرك طويل الأجل لمواجهة الأزمة لكن (بوندسبنك) يرغب في أن يكون تحرك المركزي الأوروبي محدودا.
ومن المعروف أن أزمة الديون السيادية الأوروبية بدأت في نهاية 2009، عندما تم اكتشاف أن المخاطر المصاحبة للدين السيادي اليوناني هي أسوأ بكثير مما كان يعتقد، وهو ما أدى إلى إثارة الشكوك حول مدى قدرة عدد من أعضاء منطقة اليورو على إعادة سداد ديونها، وهو ما ساعد على زيادة تكلفة الاقتراض.
وحتى اللحظة، فإن الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي قاما بعمليات إنقاذ، من خلال توفير الأموال لعدد من دول مجموعة ( PIIGS)، خاصة اليونان وأيرلندا، ولكن هذا لا يعني انتفاء مخاطر إعادة هيكلة ديون هذه الدول في المستقبل.
وأمام أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، التي تزداد يوما بعد يوم، تطرح مسألة quot;التعديل الماليquot;، وفق ما يره اقتصاديون، نفسها كأحد الحلول الناجعة لتدارك هذه الكارثة، بما يضمن ضمان استدامة الدين العام، مع ضمان استمرار مساعدة الدول الأوروبية القوية لتدارك الأزمة، والعمل على زيادة الضرائب على الشركات والأشخاص، وخفض الإنفاق العام وذلك في إطار خطة للتقشف، رغم أن هذا سيكون له آثار انكماشية على مستويات الطلب الكلي.
ووفقا لأحدث البيانات المتاحة عن معدلات العائد على السندات الأوروبية استحقاق عشر سنوات، فإن هذه المعدلات وصلت إلى 11.86% لسندات الدين اليوناني، و9.15% لسندات الدين الإيرلندي، و7.41% لسندات الدين البرتغالي، و5.46 بالمائة لسندات الدين الإسباني، و4.73 بالمائة لسندات الدين الإيطالي، مقارنة بـ3.24% للسندات الألمانية.