رجل أمام محل صرافة
Getty Images

مرة أخرى يعكس مشروع الموازنة في مصر رؤية تعتمد على الاستدانة لسداد قروض سابقة وفوائدها، وسد عجز الموازنة، وتستند على تعظيم الموارد من خلال فرض مزيد من الضرائب، وهو يظهر كذلك ما قد يعانيه الاقتصاد المصري جراء عدة عوامل تتعلق بجدوى بالسياسيات المالية المتبعة مؤخرا وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا وخروج بعض الاستثمارات من السوق المصري.

وقدر مشروع الموازنة للعام المالي المقبل 2022/2023 إجمالي الإنفاق العام (الاستخدامات) عند 3.066 تريليون جنيه، أي ما يعادل نحو 166 مليار دولار، بزيادة نسبتها 19.7 في المئة عن العام المالي الفائت، كما قدر زيادة الإيرادات إلى 1.518 تريليون جنيه (نحو 82 مليار دولار) بنسبة زيادة تصل إلى 11.2 في المئة.

ووفقا لبيان مشروع الموازنة الذي ألقاه وزير المالية المصري محمد معيط أمام البرلمان، بلغ العجز بين حجم الإيرادات وحجم المصروفات (لا تحتسب ضمنها أقساط الديون) نحو 30.18 مليار دولار، وهو ما يشكل 6.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (الدولار يساوي 18.49 جنيها يوم 10 مايو/ آيار الماضي).

وبحسب هذه الأرقام، تمثل أقساط الديون وفوائدها نحو 90 مليار دولار بنسبة 54 في المئة من إجمالي الإنفاق العام، مقابل نحو 63 مليار دولار العام المالي الماضي، فيما تتوقع الحكومة حصيلة ضريبية أكبر هذا العام تصل إلى تريلون و168 مليار جنيه أي 63.16 مليار دولار، ارتفاعا من 53.16 مليار دولار.

ووفقًا لوزارة المالية، تعود الطفرة في مخصصات سداد القروض إلى استحقاق سندات محلية يتوقع سداد آخر أقساطها في العام الجديد، وإن كانت تعتبر أن الحصيلة الضريبية ستزدهر بسبب "إصلاح المنظومة الضريبية وتوسيع القاعدة الضريبية".

أما الفوائد، فيعود ارتفاعها في الأساس إلى توقع الحكومة استمرار سياسة رفع سعر الفائدة من قبل البنك المركزي في العام الجديد، ما يرفع تكلفة الدين المحلي من ناحية، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض الخارجي، بسبب تراجع سعر صرف الجنيه من ناحية أخرى.

وتتوقع الحكومة المصرية نموا بواقع 5.5 في المئة على الرغم من أن الموازنة مقدرة على سعر 80 دولارا لبرميل النفط، على أن تكون نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 84 في المئة مقابل 85 في المئة خلال العام المالي الحالي.

عجز الموازنة

تتوزع الاحتياجات التمويلية في مشروع الموازنة بين العجز الكلي الذي يبلغ نحو 30.18 مليار دولار، وسداد القروض المحلية وسداد القروض الأجنبية، بنحو 48 مليار دولار قيمة القروض المحلية مقارنة بنحو 26 مليارا العام المالي الجاري.

وتخطط وزارة المالية للاعتماد على مصادر تمويلية متنوعة داخلية وخارجية ذكرتها كالآتي: إصدار سندات وأذون خزانة محلية بقيمة 74 مليار دولار تقريبًا مقابل 53.5 مليارا العام المالي الجاري، والحصول على تمويل خارجي بقيمة 8 مليار دولار وإصدار سندات دولية بقيمة 4.9 مليار دولار.

وتقول وزيرة التخطيط هالة السعيد في بيانها عن الموازنة الجديدة إن خطة العام المالي القادم تقوم على ثلاثة محاور، وهي "تحسين جودة حياة المواطن، تفعيل البرنامج الوطني للإصلاح الهيكلي، دعم التنافسية الدولية للاقتصاد".

مزيد من الضرائب؟

لكن رئيس المركز المصري للدراسات الاقتصادية، الدكتور رشاد عبده، ينصح بفرض المزيد من الضرائب على الشرائح الأكثر دخلًا لتعويض هذا الفارق، قائلًا: "لا يعقل أن تكون أعلى نسبة لضريبة الدخل للأغنياء لا تتجاوز 25 في المئة، بينما تزيد عن أضعاف ذلك في بلاد أخرى".

ويضيف عبده لبي بي سي: "تعويض هذا الفارق بالاستدانة فقط كما جرت العادة بما يزيد من العبء في ميزانيات السنين المقبلة، ولا ينهي الأزمة".

ولا يختلف مشروع الموازنة العامة الجديد كثيرًا في سياساته عن ميزانيات السنين الأخيرة، غير أنه يأتي في وقت استثنائي، فلا حديث يعلو في مصر الآن على حديث الاقتصاد.

وتأثرت الأسواق المصرية كما العالم بأسره بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، فأسعار السلع الأساسية لا تتوقف عن الارتفاع، والتضخم بلغ مستويات عالية، ولا يتوقع أن يتوقف قريبًا عن الزيادة، مع تراجع مستمر في سعر صرف العملة المحلية.

وبلغ معدل التضخم السنوي في مصر 14.9 في المئة في أبريل/نيسان الماضي، مقابل 4.4 في المئة خلال نفس الشهر العام الماضي، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي، وتراجعت قيمة العملة المحلية بنحو 15 في المئة بعد رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي ومن المتوقع أن تتراجع أكثر قريبًا بعد إعادة رفع الفائدة على الدولار.

وزادت بنود الأجور ودعم الفقراء في موازنة العام المقبل لتجابه هذا كما تقول الحكومة، لكن مقدار الزيادة لا يوفي الارتفاع الفعلي في الأسعار ونسبة التضخم.

وتضمن مشروع الموازنة العامة انخفاضًا بنسبة تتجاوز 8 في المئة في مخصصات دعم السلع التموينية، فقد خصصت الحكومة 4.68 مليار دولار لدعم السلع التموينية، مقابل 5.3 مليار دولار، تمثل الإنفاق الفعلي المتوقع على دعم السلع التموينية بنهاية العام المالي الحالي في 30 يونيو/ حزيران القادم.

فيما ارتفعت مجددا مخصصات دعم السلع البترولية في العام الجديد، لتتجاوز 1.5 مليار دولار مقابل نحو مليار واحد تقريبًا العام الحالي.

ويقول الباحث في الاقتصاد السياسي، وائل جمال، إنه يجب النظر إلى القيم الحقيقية للإنفاق مقارنة بالأسعار والتضخم لتقييم هذا الإنفاق.

ويضيف جمال لبي بي سي: "علينا أيضًا النظر إلى الوزن النسبي للإنفاق في هذه البنود لتخفيف العبء على الفئات التي تعاني الأوضاع الاقتصادية الصعبة بالنظر إلى إجمالي الإنفاق العام، حينها سنعرف إذا ما كانت هذه الفئات تمثل أولوية للحكومة".

ويبلغ الفقراء في مصر نحو ثلث عدد سكان البلاد، بحسب إحصاءات رسمية.

"استدانة وغياب رؤية"

وفي أعقاب إلقاء وزيري المالية والتخطيط بيانيهما عن الموازنة أمام مجلس النواب، انتقد عدد من النواب أداء الحكومة ومشروعها للعام القادم باعتباره يعتمد على الاستدانة، لسداد أقساط القروض وسد الفجوة التمويلية مع الاستمرار في مشروعات لا تدر على الدولة أية أرباح".

وقال محمد بدراوي، عضو لجنة الخطة والموازنة بالمجلس، في تصريح صحفي إن الحكومة "ليس لديها تصور لوقف الاقتراض، أو قصره على سد قيمة العجز وزيادة الموارد".

وقال النائب المعارض ضياء الدين داوود مشروع الموازنة، خلال كلمته في المجلس: "هناك أزمة طاحنة في البلد، وعلى المجلس أن يتحمل مسؤوليته"، لافتا إلى أنه من المتوقع أن ارتفاع الفائدة الأمريكية بنحو 3% مما قد يحمل الموازنة الجديدة عجزا إضافيا 300 مليار جنيه (16 مليار دولار تقريبًا).

وتساءل داوود: "ما الخطة لمواجهة ذلك؟ ويعلق داوود بأنه رغم الأزمة لم نر التقشف بعد في تصرفات الحكومة".

ويعكس مشروع الموازنة ارتفاعا واضحا في الاحتياجات التمويلية للعام المالي الجديد بنسبة 30 في المئة مقارنة بالاحتياجات التمويلية العام المالي الجاري.

ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا تراجعت معدلات السياحة التي تعتمد عليها البلاد في دخلها القومي، مع تراجع قيمة الجنيه المصري، وزادت أسعار السلع، خاصة القمح الذي تُستورد أغلب احتياجات البلاد منه.

غير أن الحكومة المصرية أكدت أنها ماضية في مشروعاتها القومية الكبرى ولا تنوي تعديل أولويات الإنفاق.

وبرر وزير النقل المصري، كامل الوزير ذلك في تصريحات صحفية، قائلًا: "إن مشروعات البينة الأساسية في مجال الطرق مثلًا ضرورية من أجل التنمية والخروج من هذا المأزق الاقتصادي الذي تعاني منه مصر منذ سنوات بعيدة".

وأضاف الوزير أن ما يمكن فقط تأجيله هو المشروعات التي تقترح حديثًا ولم يتم البدء فيها فعليًا وتحتاج إلى موارد بالعملة الأجنبية.

وتوسعت مصر خلال السنوات الأخيرة في مشروعات كبرى مثل سبع مدن سكنية ضخمة بما فيها العاصمة الإدارية الجديدة، وشبكة واسعة للنقل تشمل قطارات متطورة وكباري وأنفاق وتوسعة ممر قناة السويس الملاحي.

وستنتظر الموازنة الجديدة اعتماد مجلس النواب المصري، قبل أن يبدأ العمل بها مع بداية العام المالي المقبل في يوليو/ تموز.

وتأتي تلك الموازنة في وقت يتخوف فيه كثيرون من صعوبات اقتصادية أكبر في الأيام المقبلة، بسبب استمرار الاعتماد على الاستدانة وتزايد الفاتورة الاستيرادية، وتراجع موارد النقد الأجنبي.