رغم كل التحديات والقيود، لا يزال عصر الذكاء الاصطناعي في بدايته. يعتمد مستقبل هذه التكنولوجيا على قدرة الشركات والدول على الابتكار والتكيف مع المتغيرات. وبصورة عاجلة، يحتاج الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى إحداث اختراقات، لن تأتي فقط من تحسين الأجهزة والرقائق، بل من خلق بيئة تدعم الأفكار والمواهب.


إيلاف من لندن: بعد مرور عامين على الثورة التي أحدثها ChatGPT في العالم، يقف الذكاء الاصطناعي التوليدي أمام تحديات هائلة. تكاليف بناء وتشغيل النماذج الضخمة تتزايد بشكل كبير، مما يثير تساؤلات حول جدوى هذه التكنولوجيا على المدى الطويل. ومع ذلك، يسابق الباحثون والمبتكرون الزمن لتجاوز هذه العوائق، وسط منافسة محتدمة بين الشركات الكبرى والدول، مما سيحدد مستقبل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العالمية.
تنشر "إيكونوميست" البريطانية تقريراً مفصلاً يتمحور حول مستقبل هذه التكنولوجيا، والاختراقات العاجلة التي تحتاج اليها لتتجاوز العقبات.

أزمة الطاقة والتكاليف
الذكاء الاصطناعي التوليدي يعتمد على كميات هائلة من الطاقة لتشغيل نماذجه الكبيرة. فعلى سبيل المثال، الطاقة التي استهلكها تدريب نموذج GPT-4 من OpenAI كافية لتزويد 50 منزلاً أميركياً بالطاقة لمدة 100 عام. ومع تزايد حجم النماذج اللغوية، ترتفع التكاليف بوتيرة سريعة. تقديرات تشير إلى أن تدريب أكبر النماذج قد يكلف حوالي 100 مليون دولار حاليًا، بينما قد يصل الجيل القادم إلى تكاليف تصل إلى مليار دولار، والجيل الذي يليه قد يتطلب 10 مليارات دولار. ولا تتوقف التكاليف هنا، فحتى استخدام هذه النماذج للإجابة على استفسارات بسيطة يأتي بتكاليف حسابية مرتفعة، حيث يمكن أن تتراوح تكلفة الاستدلال بين 2400 دولار إلى 223,000 دولار لتلخيص التقارير المالية لـ 58,000 شركة عالمية.

الرهانات الكبيرة
هذه التكاليف الضخمة تشكل مصدر قلق كبير للمستثمرين الذين وضعوا رهاناتهم الكبيرة على الذكاء الاصطناعي. خلال العامين الماضيين، ارتفعت القيمة السوقية لشركة إنفيديا، التي تصمم الرقائق الأكثر استخدامًا في نماذج الذكاء الاصطناعي، بمقدار 2.5 تريليون دولار. كذلك، ضخ أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية حوالى 95 مليار دولار في شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة منذ بداية عام 2023. وتفيد التقارير أن شركة OpenAI، صانعة ChatGPT، تسعى للحصول على تقييم بقيمة 150 مليار دولار، مما يجعلها واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا الخاصة في العالم.

الابتكار يولد من القيود
رغم هذه التحديات، لا داعي للذعر. فالكثير من التقنيات الأخرى واجهت حدودًا مشابهة وازدهرت بفضل الإبداع البشري. يمكن مقارنة التحديات التي يواجهها الذكاء الاصطناعي اليوم بتلك التي واجهتها صناعة الفضاء أو النفط في السبعينيات، عندما قادت الابتكارات إلى حلول جديدة غير متوقعة. بنفس الطريقة، أدت القيود الحالية في الذكاء الاصطناعي إلى موجة جديدة من الابتكارات التي تركز على تحسين كفاءة استخدام الرقائق والموارد الحسابية.

رقائق متخصصة لتقليل التكاليف
من بين الحلول التي بدأت بالظهور هي تطوير رقائق مخصصة للتعامل مع العمليات الخاصة بنماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة. هذا التخصص في تصنيع الرقائق يتيح كفاءة أكبر مقارنة بالمعالجات ذات الأغراض العامة مثل تلك التي تصممها إنفيديا.
شركات كبرى مثل ألفابت، أمازون، أبل، ميتا، ومايكروسوفت بدأت بتطوير رقائقها الخاصة. وخلال النصف الأول من هذا العام، تدفقت استثمارات هائلة في شركات ناشئة متخصصة في تطوير رقائق الذكاء الاصطناعي، لتتجاوز حجم الاستثمارات في هذا القطاع خلال السنوات الثلاث الماضية مجتمعة.

الذكاء الاصطناعي المتخصص
إضافة إلى الابتكارات في الرقائق، يجرى العمل على تحسين نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها. فالنماذج العملاقة التي تعتمد على القوة الغاشمة للحوسبة بدأت تفسح المجال لأنظمة أصغر وأكثر تخصصًا. على سبيل المثال، تم تصميم نموذج OpenAI الجديد، o1، ليكون أفضل في التفكير، لكنه ليس مخصصًا لتوليد النصوص كما كان الحال مع سابقاته. يعمل المطورون الآن على تقليل حجم العمليات الحسابية المطلوبة، مما يتيح استخدام الرقائق بكفاءة أعلى. وتظهر نتائج ملموسة، حيث تمكن الباحثون من تقليل وقت المعالجة بشكل كبير باستخدام مزيج من النماذج، كل منها مناسب لحل نوع مختلف من المشاكل.

التنافس يزداد شراسة
قد يبدو أن الشركات التكنولوجية الرائدة اليوم تمتلك ميزة واضحة في سوق الذكاء الاصطناعي، لكن الواقع يشير إلى أن هذا الافتراض قد يتغير بسرعة. على الرغم من أن إنفيديا تسيطر اليوم على أربعة أخماس سوق رقائق الذكاء الاصطناعي، فإن الشركات الأخرى الأكثر تخصصًا قد تتمكن من الاستحواذ على جزء من حصتها. فعلى سبيل المثال، معالجات الذكاء الاصطناعي الخاصة بـ"غوغل" أصبحت بالفعل ثالث أكثر المعالجات استخدامًا في مراكز البيانات العالمية.

المستقبل المجهول
رغم أن OpenAI كانت الرائدة في تطوير النماذج اللغوية الكبيرة، إلا أن القيود المفروضة على الموارد بدأت تتيح الفرصة لشركات أخرى مثل أنثروبيك وغوغل وميتا للحاق بالركب. ومع استمرار الاتجاه نحو النماذج الأصغر والأكثر تخصصًا، قد يصبح مستقبل الذكاء الاصطناعي مليئًا بالكثير من اللاعبين المتنوعين بدلًا من الاعتماد على عدد قليل من الشركات الرائدة فقط.

اختبار صعب للمستثمرين
يبدو أن رحلة المستثمرين في الذكاء الاصطناعي ستكون مليئة بالتحديات. فالرهانات التي وُضعت على الشركات الرائدة اليوم قد تصبح أقل يقينًا. إنفيديا، التي كانت حتى الآن تحتكر سوق الرقائق، قد تخسر أمام الشركات المتخصصة. كما أن شركة OpenAI، التي كانت في طليعة التكنولوجيا، قد تجد نفسها مهددة من قبل منافسين جدد أكثر كفاءة. المنافسة بين الشركات الكبرى على جذب المواهب والابتكارات أصبحت شديدة، لكن لم يتضح بعد من سيكون الفائز في هذه المنافسة.

الحكومات وتغيير السياسات
على الحكومات أيضًا أن تعيد النظر في سياساتها. فرغم حبها للسياسات الصناعية التقليدية التي تركز على الدعم المالي، إلا أن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي يعتمد بالدرجة الأولى على المواهب والبراعة بقدر ما يعتمد على الموارد. البلدان التي لا تستثمر في تطوير القدرات البشرية ستجد نفسها متأخرة في هذا السباق. وفي المقابل، فإن الولايات المتحدة تمتلك موارد كبيرة من الرقائق والموهبة، وهو ما يعطيها تفوقًا واضحًا.

التحدي الصيني
من ناحية أخرى، فإن محاولات الولايات المتحدة لكبح جماح الصين في مجال الذكاء الاصطناعي تأتي بنتائج غير متوقعة. بينما تسعى أميركا لتقييد وصول الصين إلى الرقائق المتقدمة، فإن الصين بدأت تطور نظامًا بحثيًا يركز على الالتفاف حول هذه القيود. ما زال من غير المؤكد من سيخرج منتصرًا في هذه المواجهة، لكن الأكيد أن القيود والضغوط تسرع وتيرة الابتكار في كلا الجانبين.

* أعدت إيلاف التقرير عن "إيكونوميست". لتصفح المادة الأصل (هنا)