إيلاف من لندن: وجهت شركة DeepSeek، وهي شركة صينية ناشئة، ضربة قوية لمحاولات الولايات المتحدة كبح الابتكار التكنولوجي في الصين، حيث أثبتت قدرتها على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة رغم القيود الأميركية على تصدير الرقائق والمعدات المتطورة. هذا الإنجاز ألقى بظلاله على شركات عملاقة مثل Nvidia وSiemens Energy، وأثار تساؤلات حول مدى أهمية امتلاك أشباه الموصلات المتطورة في تدريب النماذج الذكية.

ليانغ وينفينغ: رجل الظل الذي يقود الثورة
يقف وراء هذه القفزة التقنية ليانغ وينفينغ، المؤسس البالغ من العمر 40 عامًا لشركة DeepSeek، والذي يُعرف بقدرته الفائقة على الابتكار ورؤيته الطموحة للذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، يبقى شخصًا غامضًا في المشهد العام. ووفقًا لمصادر محلية، فقد فضل ليانغ قضاء عطلة رأس السنة القمرية مختفيًا في مسقط رأسه، بعيدًا عن الأضواء التي تسلطت عليه بعد الإنجازات الأخيرة لشركته.

ورغم تعرضه للسخرية عبر منصات التواصل الاجتماعي الصينية بسبب مظهره النحيف، يصفه زملاؤه السابقون بأنه شخص مهووس بتطوير الذكاء العام الاصطناعي (AGI)، الذي يسعى لجعله قادرًا على التفكير والتحليل مثل البشر. من خلال رؤيته، يسعى ليانغ إلى إعادة تعريف العلاقة بين التقدم التكنولوجي في الصين والغرب.


رحلة من التفوق الأكاديمي إلى ريادة التكنولوجيا
وُلد ليانغ في عام 1985 لعائلة من المعلمين في قرية فقيرة بالقرب من مدينة تشانجيانغ، وكان طالبًا استثنائيًا منذ صغره. ووفقًا لمعلم سابق، أتقن ليانغ مفاهيم رياضية متقدمة على مستوى الجامعة خلال دراسته الإعدادية. في عام 2002، حصل على شهادة في المعلومات الإلكترونية من جامعة تشجيانغ، إحدى أرقى الجامعات الصينية. ثم واصل دراساته العليا هناك، حيث أشرف عليه أحد كبار الباحثين في الرؤية الآلية، مما ساهم في تشكيل اهتمامه بعالم الذكاء الاصطناعي.

في ذلك الوقت، كانت هانغتشو تزدهر كمركز تكنولوجي بفضل شركات مثل علي بابا، ما أتاح لليانغ فرصة للعمل مع مجموعة من العقول الشابة في مشاريع الاستثمار الكمي، التي تعتمد على تحليل البيانات بدلاً من الأساسيات التقليدية للشركات. في عام 2013، أطلق مع ثلاثة من زملائه مجموعة استثمارية تحمل اسم Yakebi، قبل أن يشارك في عام 2015 بتأسيس High-Flyer، وهو صندوق تحوط كمي نما بسرعة ليصبح أحد أكبر الصناديق في الصين.

بداية DeepSeek: الذكاء الاصطناعي يتحدى الأسواق
في عام 2019، قرر ليانغ نقل خبراته من الاستثمار إلى الذكاء الاصطناعي، حيث استثمر 200 مليون يوان لإنشاء وحدة متخصصة داخل High-Flyer لتطوير منصة تعلم عميق، أُطلق عليها اسم Fire-Flyer 1. وبعد عامين، ضخ الصندوق مليار يوان إضافية لإنشاء النسخة الثانية، التي تضمنت 10,000 وحدة معالجة رسومات A100 من شركة Nvidia، مما جعل الشركة واحدة من القلائل في الصين التي تمتلك مثل هذه الترسانة من العتاد التقني، إلى جانب عمالقة مثل علي بابا.

في عام 2023، انفصلت DeepSeek عن High-Flyer، لتصبح كيانًا مستقلًا يسعى إلى تحقيق الريادة في صناعة الذكاء الاصطناعي الصينية.

كسر احتكار السوق وإشعال حرب الأسعار
في مايو 2023، أحدثت DeepSeek ضجة كبيرة بإطلاق روبوت محادثة منخفض التكلفة يعتمد على نموذج V2، مما تسبب في حرب أسعار بين الشركات الصينية الكبرى مثل علي بابا، بايدو، بايت دانس، وتينسنت، التي اضطرت إلى خفض أسعار خدماتها.

ورغم أن البعض اعتبر هذه الخطوة وسيلة لجذب المستخدمين، أصر ليانغ على أن انخفاض التكلفة كان نتيجة ابتكارات تقنية، حيث طورت شركته هياكل نموذجية جديدة جعلتها أقل اعتمادًا على الموارد الحاسوبية الضخمة، في وقت كانت فيه الشركات الصينية الأخرى مقيدة بالقيود الأميركية التي حدّت من قدرتها على الوصول إلى أحدث الرقائق.

نموذج R1: المفاجأة التي أذهلت الغرب
إصدار نموذج R1 كان بمثابة زلزال في صناعة الذكاء الاصطناعي. بفضل تكلفة تدريب لم تتجاوز 6 ملايين دولار، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بالنماذج المنافسة مثل ChatGPT من OpenAI، تمكن DeepSeek من لفت انتباه العالم. حتى سام ألتمان، رئيس OpenAI، وصف R1 بأنه "مثير للإعجاب"، لكنه أكد أن شركته تعمل على تطوير نماذج أكثر تقدمًا.

رغم الإشادة، لم يسلم DeepSeek من الشكوك، إذ تساءل بعض الخبراء عما إذا كانت الشركة قد قللت من أهمية عدد الرقائق المتطورة التي استخدمتها. كما أثارت OpenAI اتهامات بأن DeepSeek اعتمد على "تقطير" نماذجها من خلال تحليل مخرجات الذكاء الاصطناعي الأميركي، مما قد يشكل انتهاكًا لشروط الخدمة الخاصة بها.


التحدي الأكبر: كسر هيمنة النموذجين الأميركي والصيني
النجاح الذي حققته DeepSeek لا يشكل تحديًا للولايات المتحدة فقط، بل يمثل تحديًا أيضًا للنموذج الصيني التقليدي في الابتكار. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الحكومية الصينية سارعت للترويج للشركة كرمز للتفوق الوطني، إلا أن ليانغ لم يعتمد على الدعم الحكومي أو رأس المال الاستثماري الذي تسيطر عليه الدولة، مما يجعله نموذجًا فريدًا في قطاع التكنولوجيا الصيني.

التقى ليانغ في 20 كانون الثاني (يناير) برئيس الوزراء لي تشيانغ، في إشارة إلى اعتراف الحكومة بدوره المتنامي، لكنه لا يزال بعيدًا عن الشبكة التقليدية للنفوذ الحكومي. يرى ليانغ أن الصين كانت في وضع "التابع" للتكنولوجيا الغربية خلال العقود الثلاثة الماضية، وأن الفجوة بين الابتكار الأصيل في أميركا والتقليد في الصين لا تزال قائمة.

وبينما تعتمد شركات التكنولوجيا الغربية على التعاون المتبادل، يرى ليانغ أن الصين فشلت في تحقيق هذا المستوى من التعاون، رغم استثماراتها الضخمة. وبذلك، لا يشكل نجاح DeepSeek تهديدًا للغرب فحسب، بل قد يكون دعوة للاستيقاظ لقادة بكين أيضًا.



* أعدت إيلاف التقرير عن "إيكونوميست": المصدر