رامي الأمين: وقف صديقي العائد من كندا في زيارة سريعة إلى لبنان، مشدوهاً متسع العينين فيما يحدق بتمثال بشارة الخوري الذي أعيد الى مكانه سالماً بعد كل تلك السنين. كان يقف في الجهة المقابلة للشارع فيما السيارات التي تمر مسرعة من أمامه لم تتمكن من جعله يحيد بنظره عن التمثال او يرف له جفنا.
الرئيس بشارة الخوري بهندامه quot;الرئاسيquot; ، صلباً وجامداً يقف هناك ، متطلّعاً صوب الأشرفية. هكذا ، عاد النصاب الى البلد . أعيد للمسيحيين اعتبارهم ، وصار لهم تمثالاً أسوة بتمثال quot;رياض الصلحquot; في وسط البلد. صديقي السائح، المتسمّر في وجه التمثال، كان يفكّر في معنى وجود quot;رجالات الإستقلالquot; في ساحات بيروت، والدور الذي تلعبه هذه التماثيل نفسها في quot;هزّquot; الإستقلال والإستقرار كلما حدث إنقسام سياسي ما ، أو طرأ تغيّر في quot;الأجواءquot; الإقليمية.
فالبلد على إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، انقسم إلى قسمين : قسم في quot;رياض الصلحquot;، وقسم آخر في ساحة الشهداء. الآن، ومع عودة quot;بشارة الخوريquot;، صار بالإمكان التوزّع على ثلاث ساحات ، حسبما يتطلب المزاج السياسي والطوائفي للبلد. صار بالإمكان الدعوة الى مظاهرة في ساحة quot;بشارة الخوريquot;، أسوة بالمظاهرات التي كانت تعمّ ساحتيّ quot;رياض الصلحquot; و quot;الشهداءquot;.
صار بالإمكان اعتماد quot; الستة وستة مكررquot; من الآن فصاعداً في التعاطي مع التماثيل. لم يحتج صديقي الذي وقف في مواجهة التمثال للكثير من التأمل ليعرف حقيقة أن البلد عاد الى طوائفه سالماً. إنه الوقت القليل الذي يحتاجه المرء ليعرف ما هو لبنان وعلى أي شاكلة سيكون في المستقبل . إنه وقت تحديد الهويات وتركيز الإنتماءات الى الطوائف، التي تجعل من لبنان احجية مستحيلة التجميع.
لا يمكن ببساطة الوصول إلى صورة واحدة عن البلد أو حتى خريطة موحّدة يتفق عليها اللبنانيون ولا حتى عدوا واحدا أو استقلالا مشتركا. كأنما البحث عن لبنان يشترط البدء من الأمكنة التي تكرّس النزوع الى تصنيف الناس بحسب إنتمائهم الى ساحات أو تماثيل، لا الى وطن واحد موحّد، كما ينادي خطباء الساحتين.
صديقي العشريني، العائد من غربة في كندا، والذي كان يتفرج على تمثال بشارة الخوري لأول مرة بعد تثبيته في مكانه من جديد، لم يكن ينتمي الى أي من الساحتين، ولا يهمه او يعنيه أي من تماثيل الإستقلال تلك ، وقد بدا ينوء تحت ثقل التفكير في عمل شيطاني، وهو الإقدام على إسقاط تماثيل بيروت كلها، بما تمثـّله من حواجز وانقسامات، كما حدث مع تماثيل صدام حسين التي كانت تملأ شوارع بغداد، مع أخذه بالإعتبار براءة رجالات الإستقلال مما يفعله اللبنانيون بالقرب من تماثيلهم.
الآن، بعد عودة بشارة الخوري، صار على من جرى النظر اليهم بوصفهم quot; أقلية quot; أن يثبتوا أنهم يمتلكون شارعاً لا بأس به. وانهم، كما الأفرقاء الآخرين، يملكون ساحتهم وتمثالهم. بشارة الخوري عاد الى ساحته زعيماً مسيحياً بإمتياز، وليس رئيساً سابقاً للجمهورية اللبنانية، او رمزاً من رموز الإستقلال.
صديقي الكندي، المتأمل في التمثال، كمن يمعن النظر في لوحة فنية، بدا وكأنه ينظر الى تمثال طاغية، وليس الى تمثال رجل استقلال عظيم. تماثيل بشارة الخوري ورياض الصلح وساحة الشهداء لم يعودوا رموزاً موحدة لكل اللبنانيين، بل صاروا، على ما يبدو، رموزاً لإنقسامهم السياسي والطائفي ، وإن كان الرجلين ، الصلح وخوري، لم يفترقا عندما كانا شريكين في صناعة الإستقلال عن الفرنسيين.
كنا نغادر شارع بشارة الخوري أنا وصديقي، عندما سمعته يتمتم بعبارات غير مفهومة، ثم عاد، بعد عدة أمتار والتفت مجدداً الى التمثال، وغرق في الضحك.