"لو كان أنور الفطايري طائفيا لما قتلوه، ولو انه ارتضى أن يصير طائفيا لجعلوه زعيما واتبعوه وأضفوا عليه مستحرق القداسة واستعاروا له بعض أسماء الله الحسنى"
طلال سلمان

جاد نصرالله: أنور الفطايري. لست أدري لماذا استحضرتني صورة الرجل بقوة حين سماعي بحادثة اغتيال الكاتب سمير قصير. ربما لما رأيته في مصرع الاثنين من شبه قوي. شبه في الاسباب لا في النتيجة فحسب. اسباب نسجها الاثنان فكرا وكتابة وممارسة. فكانا طوال حياتهما القصيرة يعبّدان الطريق أمام نعش صقلاه بالكلمة والقول الجريء.
بدأ النشاط السياسي لأنور الفطايري، المولود سنة 1946، في الجامعة اللبنانية ولم يكن بعدُ قد اكمل التاسعة عشرة من عمره. حينها، أي في الستينات من القرن المنصرم كان تيار القومية العربية في فترة تألقه الذهبي. وكان أنور القادم من قريته في الشوف، مختزنا بالتمرد ضد نظام يضطره كما ابناء ريفه على بيع الارزاق طمعا بنوعية تعليم أفضل في المدارس الخاصة. انغمس ذاك الشاب المتحمس للسياسة والفكر السياسي على القراءة. فكان متابعا للمجلات المعنية بالشأن الفكري كمجلة "الوقت" و"الطريق" و"الاخبار". وأضاف عليهم انكبابه على قراءة أنطون سعادة وميشال عفلق، وعبدالله الدايم وساطع الحصري، وسواهم من المنظرين الايديولوجيين. إزاء ذلك، كان من الطبيعي ان اتت قراءته لكتابات كمال جنبلاط التي وقع عليها في آخر المطاف، قراءة واقعية وناضجة في فهم المعاني وغير متأثرة بهويته الدينية (الموحدين الدروز). نظرةٌ الى الاشتراكية متحررة من القيد المناطقي، علماً أن قصر المختارة يَقرُبُ بضع مئات من الامتار عن منزله الذي دأب على الممارسة الجنبلاطية التقليدية منذ أيام الشيخ بشير جنبلاط. رأى الفطايري في الحزب التقدمي الاشتراكي تلبية لطموحات كان بأمس الحاجة اليها كسائر أبناء جيله خصوصا بعد هزيمة 1967. فكان انتسابه الى الحزب بتاريخ 4/3/1968، النتيجة الطبيعية لإعتمال كل العوامل السالفة الذكر في شخصه. عبّر أنور عن اولى بدايات التزامه بالقضايا الوطنية والديمقراطية من خلال مصلحة الطلاب في الحزب. وفي وقت التنامي المتسارع لظاهرة المقاومة الفلسطينية، انشدّ الفطايري بشكل مواز للتعبير عن القضايا الوطنية الديمقراطية، المعنية بالشأن الطلابي على وجه التحديد. فكان حَرَمُ الجامعات ملعبه، وهوية التربية والتعليم هدفه.
يؤكد كل من عاصر انور الفطايري وعَرِفَهُ، كما تشير الكتابات الى ذلك، تَمَيُزَ مواقفه بالصلابة والجرأة. بالإضافة الى توفر صفاتٍ جعلته استثناءاً ضمن المجموعة. كان العنصر المؤثرعلى قراراتها ومحورالاستقطاب دون أن يسمح لعتمة دهاليزها أن تعمي بصيرته. وخلف كل هذه الصفات تكمن الحقيقة وراء صعوده السريع على سلم المناصب الحزبية واضطلاعه بالمهام القيادية، ثم بروز اسمه وتحوله رمزا على الساحة الطلابية. فهو قد شغل منصب رئيس الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية بين 1972 و1975، وبذلك اضطلع بزواريب الخارطة الطلابية وبالتعقيدات التي تحكم مختلف جوانبها. ...انصراف الى الحلقات الحزبية الضيقة حيث صناعة القرار زاوجه بالقيادة الجماهيرية ميدانيا. تناقض كبير بين منطقين مختلفين في العمل السياسي، قَدر هذا الشاب على الجمع بينهما حتى تاريخ استشهاده في التاسع من شباط من العام 1989. ربما لا تستدعي المناسبة اليوم اطالة في سرد ما زخرت به حياة أنور الفطايري بعقودها الاربعة، خصوصا ان نشاطه طال أكثر من ميدان. فمن مسيرة لا تنتهي عند حدود معارفه الكثيرة التي تعدت كونها علاقات سياسية لتصبح صداقات شخصية عبرت حصون الطوائف، الى نتاجه الادبي وسبره لاغوار الثقافة. نستخلص بعد الاحاطة بكل هذه العناصر أن انور الفطايري صحّ فيه "المثقف السياسي"، فهو الحزبي الممارس للسياسة والثقافة في اطار من العمل اليومي. تماما كالكاتب سمير قصير، وان كان يختلف عن الاول بعدم تكبله بالقيود التنظيمية لأي من الاحزاب. لقد تماهى الاثنان رغم بعد المسافة الزمنية بين استشهادهما، ورغم اختلاف الحقبة التاريخية. الأول من زمن الحرب، فيما الثاني من زمن السلم.
لماذا استحضر اغتيال الاول استشهاد الثاني؟ هي نفس الذهنية التي شهرت كاتم الصوت لتسكت صوت مهدي عامل وحسين مروة ونسيب المتني وكامل مروة وأخرون تُعَدُ لهم الرصاصات... نفس المنهجية في استهداف الطبقة المثقفة. فكيف اذا بالمثقف منخرطا بالسياسة ودافعا لعربتها. أن يكون السياسي مثقفا فذلك يفتح الباب أمام جلادين كُثر. حتى الصديق يصبح متهما في قضية اخلاق الممارسة السياسية.
ما أشبه اليوم بالبارحة. ليست مسألة الجريمة ببالغة التعقيد. دلالالتها بسيطة ان قورِبَ الامر من زاوية أوسع. هناك دائما من يضيق ذرعا بالعقول المجربة والواعية. بمن اختمرت فرديتهم حتى استقلوا فشكلوا حالة هددت الغيارة على السلطة واصحاب المكاسب السياسية الضيقة فأصبحوا حجر عثرة في طريق توسعهم. يعي القتلة جيدا هدفهم اذ يصطادون في حقل الثقافة. فهي ان رَكَّزَت دعائم السياسة عَمَّرت كثيرا في المجتمع، ومَتنَ بنيانها لعقود طويلة.
سمير قصير. ليست باهانة ان قلتُ أن أكثرية الشعب اللبناني ربما سمع باسمك للمرة الاولى حين الاعلان عن خبر اغتيالك! للأسف سينسونك سريعا. هو قدر أهل الفكر والثقافة في بلد يستهلك كلماته. قدرهم أن لا يكونوا الا رجال ظل، يستشهدون على أيدٍ لا ترتعش لملمس كتاب، وحواس تطرب لصوت الرصاص وتنتشي برائحة البارود ولون الدم...