هنا موت ..وهناك موت
شباب مصر ورحلة البحث عن وطن بديل


أحمد عبدالمنعم : خليط من مشاعر السخط الممزوجة بالحنق تنتابه كلما شاهد على شاشة التلفاز سيل الأغنيات الوطنية التي اعتاد سماعها منذ الصغر. الآن اختلفت هذه المشاعر . خلال طفولته وعندما كان يستمع اليها في المناسبات الوطنية وقبل كل مباراة هامة للمنتخب المصري كانت الحماسة تسيطر على حواسه كاملة . لم يمل يوما من سماع وتكرار تلك الاغنيات اما الان فهو يتهرب منها . تحول المشاعر هذا لم يأيحل عليه بشكل مفاجئ بل بدأ باللامبالاه وصولاً الى أعلى مراحل الحنق والغضب.

نفذت مشاعر الحب والانتماء بعدما لاقاه من ظلم مقصود او غير مقصود ، تخرج من الجامعة وفشل في العثور على عمل .تقدم بأكثر من طلب للحصول علي وظيفة وذهبت الوظيفة الى من يحملون كارت الوساطة.تقدم لخطبة الفتاة التي يهواها، فربط والدها الموافقة بالوظيفة.حاول الحصول على شقة في مساكن الشباب التابعة للمحافظة فوجد اسمه في قائمة انتظار لا تنتهي.عمل في مهن دونية لا تتناسب مع مؤهله الدراسي فطاردته مشاعرالشفقة من المحيطين.,واخيراً فكر وقرر.الحل هو البحث عن وطن بديل فلا فائدة من الانتماء لوطن لفظ أبناءه وفشل في توفير الحل الادنى من الحياة quot;البشرية quot; . الحل في الهجرة الى وطن يحترم الانسان ويوفر احتياجاته الاساسية . ولما لا ؟! آلاف الشبان بل الملايين فعلوا الشيء نفسه وهجروا وطنهم متجهين الى الغرب الذي بات قبلة للشباب المصري فأصدقائه الذين رفضوا الانتظار واختاروا الهجرة فور تخرجهم هم الان افضل حالا واوفر حظا . .السنون اثبتت انهم كانوا على حق وكان هوالمخطئ.

ولكن لا بأس مازالت الفرصة سانحة لتعويض ما فات .عليه ان يعد حقائبه ويودع الاصدقاء استعداداً للرحيل ..ولكن كيف؟!.ففرصة السفر لم تعد بالسهولة التي كانت عليه فيما مضى ، فالحصول على تأشيرة لدخول احدى الدول الاوروبية بات ضرباً من المستحيل والحصول على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة هو المستحيل بعينه. اذن ليس عليه سوى اللجوء الى الأبواب الخلفية والتعامل مع سماسرة السفر الذين يوفرون التأشيرة مقابل مبالغ طائلة. لعل سماسرة السفر ليس بالتعبير الأدق لوصفهم، فهم سماسرة الموت كما أطلقت عليهم الصحف المصرية خلال الآونة الاخيرة بعد ان قدموا عشرات من الشباب طعاماً للأسماك المتوحشة على متن سفن متهالكة كدسوها بمئات الحالمين بوطن بديل غير عابئين بالغرق المحتوم الذي ينتظرهم .كان يدرك هذه الحقيقة ولكن ما باليد حيلة ! ليس امامه سوى المخاطرة حتى وان دفع حياته ثمناً للفشل ..هنا موت وهناك موت الفارق الوحيد بينهما ان الاول موت بلا دفن او جنازة والثاني موت سيضمن له جنازة لائقة.

أصر على المضي قدماً في الطريق الذي اختاره رغم ما قرأه في الصحف صباح ذلك اليوم عن غرق سفينة تحمل عشرات الشباب المصري اثناء هجرتهم غير الشرعية الى ايطاليا واليونان ومصرع 30 شاباً واصابة العشرات.اصراره ليس عنادا فهو واع تماما للمخاطر لكن الناجيين من الكارثة انفسهم مننوا انفسهم بنجاح اخرين في العبور والنجاح بالوصول الى وجهتهم الامر الذي دفعهم للاستدانة مقابل مغامرة السفر والكوراث هذه .

وتابعوا بأننا نقوم بأخفاء أية وثائق تثبت شخصيتنا وتتقدم الي مفوضية الامم المتحدة في البلاد التي نصل اليها كلاجئين لاستخراج جوزات سفر جديدة وهو ما شجعنا علي السفر
واختتموا حديثهم قائلين:نجونا من الموت بأعجوبة ولو عاد بنا الزمان لفعلنا الشئ نفسه..فلا معني للحياة في بلد لا نجد فيها فرصة عمل ولا نملك قوت يومنا..فهنا موت وهناك موت.
تصريحات المسئولين هي الاخري تشجع علي الهجرة خاصة بعد ان قدرت وزارة الخارجية المصرية اعداد المصريين المقيمين في الخارج بـــ quot;11 مليونquot;شخص منهم خمسة ملايين يقيمون بطرق غير شرعية.

الآن عليه تجاهل ما يقرأه من نصائح يطلقها البعض بضرورة تعمير الصحراء واستصلاح الاراضي الزراعية باعتبارها الحل الامثل للقضاء على البطالة، وعليه تجاهل المؤتمرات والندوات التي تعقد بهدف الحد من اندفاع الشباب نحو الهجرة بدعوى الحفاظ عليهم والاستفادة من الطاقات البشرية.

عليه ايضاً توفير المبلغ الذي يطلبه سماسرة السفر والذي يزيد او يقل وفقاً للدولة التي اختار السفر اليها، ولكنه في جميع الاحوال لن يقل عن 20 ألف جنيه و 4 الاف دولار.عليه اقناع اسرته بالامر في البداية لمساعدته على توفيرالمبلغ..وقد نجح بعد عناء شديد.اقتنع الاب ببيع نصيبه من ميراث والده في المنزل الذي يقيمون فيه على امل استرداد المبلغ بعد سفر الابن ونجاحه في العمل.

تم الامر بسرعة لم يكن يتوقعها وذهب بالمبلغ المطلوب لأحد السماسرة ووعده بالحصول على التأشيرة خلال ايام.تركه وهو في قمة السعادة التي لم تدم طويلا وفي اليوم التالي وجد في الصحف صورة لذلك السمسار وأسفلها خبراً يحمل عنوان(القاء القبض على أحد سماسرة الموت).الآن عليه أن يعود الى نقطة الصفر بل تحت الصفر بمراحل ، وعليه أن ينسى المبلغ الذي دفعه وأن يستعد مع اسرته للطرد من المنزل الذي يعيشون فيه وأن يلعن حظه العاثر الذي أوقعه في هذا المأزق.ندب الحظ لا يكفي في بعض المصائب فهو أمام خيارين لا ثالث لهما. اما الانتحار والتخلص من حياته وإما الدخول الى مستشفي الأمراض العقلية وهو أقرب الى الخيار الثاني. فخارج أسوار المستشفى موت وداخلها أيضا موت..لا فرق فجميعنا موتى!

[email protected]