الضاحية قبلة وسائل الاعلام _تصوير عصام سحمراني

عصام سحمراني : عند الثانية عشر ظهراً وفي أحد شوارع حارة حريك المتداخلة في الضاحية الجنوبية تشتدّ وطأة الحرّ بشكل مبالغ به. فالدمار يحيل كلّ شيء حارّاً؛ ماديّاً ونفسياً على حدّ سواء.تتّحد الأشعّة الأيلولية مع الحجارة والمعادن المتعدّدة الأغراض التي ارتمت أرضاً ونشرت غبارها الكثيف عند كلّ مرور لجرّافة، سيّارة، أو درّاجة ناريّة، أو لدى هبوب نسمة يتيمة تعيد بعضاً من حياة إلى المكان.

الداخل إلى المكان للمرّة الأولى يشعر فوراً بالتغيّرات العديدة الطارئة عليه من خلال الدمار لا غير دون أن يقارن برؤية سابقة له. أمّا من يعرف المكان بأحيائه وزواريبه وأبنيته ومؤسساته ومحاله التجارية ونواديه الرياضية ومقرات جمعياته ومدارسه فالإحساس مختلف لديه باختلاف نظرته المفاجئة إليه.

النظرة الممتدّة في كثير من الأحيان فوق الدمار إلى طوابق عليا لم تعد موجودة. إلى أماكن حميمية لطالما مورست فيها الشؤون والشجون الحياتية اليومية ولطالما ضجّت بالحياة التي تتناقض بشكل صارخ مع ما أحيلت إليه من أكوام من الركام تنتشر عند أعتاب الفراغات السماوية التي كانت قبل الثاني عشر من تمّوز فقط أبنية.

قد يستعيد من يألف المكان أموراً أليفة إليه كتلك الزاوية يتجمّع حولها الأصحاب ليراقبوا quot;الأزياء الموسميةquot; تطلّ عليهم مع فلول الفتيات المتسوقات مساءً quot;عندما يأتي المساءquot;. يشدّون أبصارهم، يضحكون، يتغامزون، ويتحسّرون معظم الأحيان ثمّ يعودون إلى الزاوية بانتظار الأفواج القادمة.

قد يشعر من يألف المكان بالظلّ الذي ترميه عليه الأبنية الفراغية مجدّداً فتمنحه الإحتماء من الأشعّة الحارة وهي تتموّج بين ذرّات الغبار وتصطدم بحائطه الفراغي الذي كان بناءً يوماً ما.المكتبات، مقاهي الإنترنت، محلات العصير، المطاعم، الأراكيل، النواصي، الزوايا، الهاتف العمومي، إشارات السير، الأرصفة، الطرقات.. وغيرها الكثير من التفاصيل الصغيرة الحميمية بفقدانها لدى أبناء الضاحية. كلّ ما هنالك قد تلاشى وتغيّرت وظيفة ما بقي نحو أمور أخرى مختلفة عن واقعه الذي ما زال يحيا في الذاكرة وحدها.

عند الثانية عشر ظهراً تشتدّ وطأة الضجيج في الضاحية الجنوبية. نداءات لباعة على بضائعهم، أصوات جرّافات وعمّال ومتطوعين، أصوات تدمير مقصود من هنا أو غير مقصود من هناك، أبواق لسيارات تقبع في عجقات سير لا تنتهي إلاّ مع وصولها إلى الخطّ البحريّ، ضجيج صامت يخترق فراغات الفضاء المفتوحة على ذكرى مبان زائلة.

هنا كنّا نأكل، هنا كنّا نشرب، هنا كنّا نحبّ، هنا كنّا نستحمّ، هنا كنّا نسهر، هنا كنّا نمضي أوقات فراغنا، هنا كنّا نقرأ، هنا كنّا ندرس، هنا كنّا نلعب، هنا كنّا نشاهد التلفاز، هنا كنّا نتسوّق ونساوم في السعر ونشتري ونبيع ونخلع تعب حياتنا اليوميّ في ركن ناعس نسمّيه منزلاً.. نسمّيه قصراً. وهنا وقف حسين وفاطمة الطفلان أمام مدخل بناية كان لهما فيها بيت وركن للعب قبل أيّ شيء آخر والأكل والدرس... هنا تتجسّد لهما ذاكرة ربّما تكون أقوى من ذاكرة كلّ الكبار باعتنائها الدائم بأمور صغيرة جدّاً يهتمان بها دون أن يلاحظها أيّ من الكبار أو يهتمّ بها. هنا كانت حياتهما.


تمسك الفتاة يد أخيها بينما الشنط المدرسية الفارغة على ظهريهما لا تعيقهما عكس الحقيقة الممتلئة بالكتب والدفاتر السميكة والثقيلة عليهما مع بداية الموسم الدراسي. يقف الطفلان في مدخل بنايتهما ويتقدمان نحو الكاميرا في مشاهد مستعادة واحداً بعد الآخر إرضاءً للمصوّر والمخرجة أو المنتجة مهما كانت. يقفان في منتصف الطريق ويدلاّن إلى ركنهما الذي ما زال مكانه. يرتبكان ولا يعرفان جيّداً لماذا لا يستطيعان الإنسلال إلى داخل البناية وتسلّق سلالمها الكثيرة وصولاً إلى جنّة ألعابهما وأغراضهما الشخصيّة. كلّ ما يعرفانه هو الخوف من انفجار الصاروخ الذي حفر عند مدخل البناية حفرة كبيرة وعميقة. لا يحتاج الأمر إلى كثير من المونتاج والإعادات والتمثيل ليكتمل الشريط فهو الواقع بعينه. الواقع الذي يمثّله طفلان ما زال أملهما معلّقاً بالعمق المركون في مدخل البناية واللافتة التحذيرية المرتبكة بدورها فوقه: خطر.. عدم الإقتراب.. إحتمال وجود قنبلة.يكفيهما النظر إلى الكاميرا لا غير ليحيلا كلّ ما سواهما إلى زيف وخيال. يكفيهما النظر إلى الكاميرا ولو دخلت في تسجيلها الصوتي شتيمة الجار المجنون والمنقوصة الملافظ؛ quot;إسائيل عملي هيك.. إختا إسائيلquot;. يكفيهما أن تنظر الكاميرا إليهما.

[email protected]