عصام سحمراني: اللون الأخضر كان طاغياً في المكان بمعاونة بعض الألوان العسكرية الأخرى من الكاكي إلى البنّي إلى الأسود والكحلي. العسكر أو الجيش فكرة قبل أن تكون واقعاً ماضياً أو مستقبلاً لطالما انزعج الشبّان اللبنانيون منها ولاحقتهم كوابيسها على هيئة اقتناص سنة كاملة من عمر كلّ منهم. تلك أجواء معظم من أدّى خدمته العسكرية وأكثر من معظم من تهرّب منها عبر طريقة من الطرق قانونية كانت أم غير قانونية على حدّ سواء.

ذلك ما هو عاديّ لكنّ قاسم الذي أتمّ خدمته منذ سنتين لم يكن مقتنعاً تماماً بذلك حين قام بهمّة ونشاط كبيرين بالإلتحاق بإحدى ثكنات الجيش للتطوّع بصفة مجنّد ممدّدة خدمته لمدّة سنة.

الخطوة التي قامت بها المؤسسة العسكرية بعد استصدار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بما يتضمنه من نشر للجيش في الجنوب كانت quot;سدرة منتهىquot; قاسم الذي سعى منذ انتهاء خدمته للإلتحاق مجدّداً وفشل في كلّ مرّة.

قاسم ليس عاطلاً عن العمل ولو أنّه غير راض عن عمله الحالي أو عن أيّ من الأعمال السابقة له حيث عمل في محلّ للحلويات وفي إحدى مصالح البناء وفي الحدادة حتّى استقرّ مع والده في أحد المحال التي استأجراها وافتتحا فيها فرن المناقيش الصغير.quot;شرف.. تضحية.. وفاءquot; يقابل شعار الجيش المكتوب بالخطّ العريض عند مدخل الثكنة قاسم حال وصوله ويستغرب كيف أنّه لم يبعث فيه ذكرى التلاعب بكلمات الشعار التي لطالما ضحك مع زملائه عليها إبّان الخدمة العسكرية على الرغم من سخافتها.

يحمل أغراضه ويدخل بملء إرادته هذه المرّة ويفتخر بينه وبين نفسه حين يراجع مجمل الأغراض الشخصية والأوراق التي جلبها معه على عكس المرّة السابقة التي أهمل فيها معظم ما أوردته ورقة الحاجيات التي سلّمت له قبل التحاقه بخدمة العلم.

قاسم سعى بقوّة للدخول في إحدى وظائف الجيش والدرك بعد إتمامه لخدمة العلم وبعد فشله بالسفر إلى إحدى الدول الأوروبية التي كان قاب قوسين من الوصول إلى تأشيرتها. وحين تأكّد له البقاء في وطنه quot;التعيسquot; سعى لتحسين وضعه عبر وظيفة الدولة المنشودة فلم يتحقّق له ذلك. وقد تقدّم ثلاث مرّات إلى دورات الدرك الثابتة منها والتعاقدية الخالية من الإمتيازات ولم يتحقّق له الدخول إليها كما لم يتحقق له التطوّع إلى الجيش والكلمة الرنّانة التي واجهت قاسم في محاولاته المتلاحقة باتت أكثر من متداولة في الأسواق اللبنانية بإداراتها الرسمية ومؤسساتها الوطنية بل باتت مبتذلة لكثرة استعمالها؛ quot;بدّك واسطةquot;.

هذه المرّة لم يحتج قاسم إلى واسطة حين طلب الجيش هذا الكمّ الهائل من المتطوعين الذين تراوحت أعدادهم بين سلسلة الآلاف. فكان أن سعى بعد فشله في الإلتحاق بدورة الدرك الشهر الماضي إلى التقدّم بطلب التطوّع إلى الجيش اللبناني في مركز خدمته السابق. وللمصادفة فقد ورد إسمه فعلاً ضمن المقبولين؛ quot;لأوّل مرّة بحياتيquot;. لكنّ مركز خدمته لم يكن هو نفسه في وزارة الدفاع حيث خدم مجنّداً بل جنوباً في صيدا.
لم يحفل قاسم ببعد المسافة عن بيته وصعوبة الوصول مع عشرات آلاف النازحين العائدين إلى قراهم الجنوبية. بل لم يهتمّ أيضاً بعدم تشكيله في مركز خدمته السابق فالحماس الوطني بالإضافة إلى الراتب المنشود كانا يطغيان عليه منذ ودّع والده أمام الفرن الصغير وتركه وحيداً فيه لا يكاد يلبّي كلّ طلبات الزبائن.

لم يحفل قاسم بذلك ووصل إلى غرفة السرية التي التحق بها وتسلّم العتاد العسكري الخاص بحياته الجديدة- القديمة من ملابس وأدوات طعام وتجهيزات نوم وسلاح وذخيرة. جلس في الغرفة الصغيرة بأسرّتها الحديدية المركّبة فوق بعضها بعضاً والمتآلفة مع حيطان الغرفة والجوّ الخانق فيها. رتّب أغراضه وحنّ عليه بعض الجنود بفرشة نظيفة وضعها على أحد الاسرّة العالية. تحدّث معهم وتحدّثوا معه. أحبّ حديثهم وذكرياتهم وأحبّوا سماع مغامراته التي رواها لهم عن حياته في ظلّ صمود الضاحية الجنوبية تحت القصف المعادي واستمراره بالقيام بالعمل رغم كلّ شيء ورغم انقطاع الزبائن أو معظمهم.
تلك كانت الأحوال وقد مضت ساعتان كذلك حتّى مرّت الفكرة في رأسه واخترقته كرصاصة تحت الأذن مباشرة. عندها فقط أحسّ بالإختناق الكلّي الذي يسبّبه السقف المعدني للغرفة فيحيلها فرناً كالذي يملكه مع والده الذي تذكّره في هذه اللحظة أيضاً وتخيّله كما هو فعلاً عاجزاً عن تلبية طلبات الزبائن العائدين إلى المنطقة جياعاً لمناقيشه ذات السطوة الديكتاتورية في ظلّ بعد الأفران الأخرى عنهم.
تذكّر ذلك واخترقت رائحة الجيش المستعادة خلايا مخّه لتحمله إلى غرفة الضابط المناوب حيث تذرّع بنسيان بعض الأغراض الضرورية في المنزل. وكان له ما أراد حين سلّمه الضابط مأذونية لستّ ساعات استغلّها قاسم أيّما استغلال. لملم أغراضه ومضى دون ان يلتفت خلفه نحو المنزل والفرن ولم يعد بعدها أبداً.
لقد تذكّر كم كره نفسه حين كان مجنّداً.

[email protected]