أسبوع رابع من العدوان.. أسبوع رابع من الصمود
الضاحية التي لن تلفظ أنفاسها أبداً

ولأجل الثورة أحارب، وأجوع، وأموت.
لانغستون هيوز- إلى لينين.

تصوير عصام سحمراني من الضاحية الجنوبية لبيروت


بناء محترق في محيط كنيسة مار مخايل _خاص إيلاف

عصام سحمراني : وأخيراً تعمّدت الجدران المهدّمة في ضاحية الصمود بدماء عشرات الشهداء. وأخيراً انضمّت رائحة الموت الطازج إلى السحابة السوداء القاتمة المستقرة في كبد سماء الضاحية الجنوبية منذ بداية العدوان الصهيوني والخذلان العربيّ على حدّ سواء.يجتمع وزراء الخارجية العرب الصناديد ليبثّوا عواطفهم الكاذبة مع دموع محترقة لرئيس حكومتنا. يخطئ الرئيس حين يبكي ضحايا مجزرة لم تحدث في حولا ويعلن عن خطأه في المؤتمر الصحافي.

اسرائيل لا ترتضي أن تذهب دموع الرئيس هدراً. فإنسانيتها تأبى ذلك حين تودّع الوزراء بمجزرة تتعمّدها رسالة واضحة في قلب صمود لبنان.

في الضاحية الجنوبية التي باتت إسماً ومصطلحاً مفرداً بعيداً كلّ البعد عن العاصمة الآمنة. في الشيّاح التي تابعت موقعها المميّز على امتداد تاريخ لبنان المعاصر كحلقة رئيسية من حلقات العروبة والوطنية والثورة والشهداء والصمود و..الإنتصار.

مع كلّ صباح تنفض الضاحية الجنوبية عن نفسها الأصوات والأضواء والروائح وتقف على قدميها الراسختين في أعماق صمود ابنائها متأهبة بصدورهم لما سيخطر في بال آلة الإجرام الصهيونية القذرة الحاقدة. طائرات التجسّس لم تغب عن الأجواء؛ quot;يخيّل إليك أنّها تلاحقك وتتابع تحركاتك شخصياًquot; يقول محمّد.
محمّد ما زال صامداً في الضاحية وسيبقى رغم الدمار الذي لحق بمنزله في quot;حيّ ماضيquot;.

بناية مطعم الزغلول اتوستراد هادي نصرالله-خاص إيلاف
المنزل ومعه بقية الشارع استهدفه قصف الطيران والبوارج الإسرائيلي هذا الأسبوع. يؤكّد محمّد على صموده بكلمات باتت أيقونة في الضاحية الجنوبية لدى جميع السكّان؛ quot;فداءً لنهج المقاومة وسيّدهاquot;.إذاً فقد تعرّض حيّ ماضي وحيّ معوّض والخطّ الدولي بالقرب من كنيسة مار مخايل ومطعم الزغلول للقصف للمرّة الأولى عن طريق استهداف الأبنية السكنية زيادة على استهداف الطرقات.

يقف علي أمام مشغل الخياطة الخاص به والذي أصبحت جدرانه الأمامية والخلفية جزءاً لا يتجزّأ من الدمار المتراكم في شارع معوّض الرئيسي. ينظر علي مليّاً ويترك المكان دون عناء محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من داخل المشغل المليء بماكينات الخياطة من درزة وحبكة ومقصات كهربائية وأدوات كوي وأقمشة كثيرة؛ quot;السلامة من عند اللهquot; يعلّق علي متمسّكاً بازدواجية من الإيمان واللامبالاة ارتضاها بعدما quot;راح يللي راح علام سنأسف بعدها؟quot;.

وقفة علي على الرغم من لا مبالاته كانت شجاعة وسط الدمار الذي يحيطه. لكنّ جاريه في البناية التي يسكنها والتي لم تتضرّر جرّاء القصف بل دمّرت البناية التي تقع تجاهها على بعد أمتار منها حيث مخزن الأدوية واحترقت بالكامل كانا في وضع أسوأ بكثير منه، وتمنيا لو أنّ لهما الأعصاب الحديدية لعلي بالذات.
في عتمة الصباح المحترق خلف وزارة العمل لم تنتصب هذا النهار بناية مستودع الأدوية فقد استبدلت بجبال من الدخان وأفران من النيران تتوسطها لتفضح الدموع في عيون جاريّ علي اللذين تسمّرا بكامل قيافتهما التي لا تعكس بتاتاً الهندام الرسميّ للمنتمين إلى حزب الله فقد كانت ربطتا العنق بارزتين تماماً. تسمّرا أمام رزقهما يحترق دون أيّ كلام فالعيون كانت تقوم بالواجب وأكثر؛ نظراً ودموعاً وحرقة ونقمة وحنيناً وكلاماً طاهراً ولو كان سباباً ولعنات متصاعدة. quot;كلّ شي راحquot; يشغل أحدهما نفسه بالخلوي ينادي أذناً بعيدة ولا ينتظر إجابة، ليتأبّط بعدها كتف صديقه وينسحبا هلعاً من انفجار داخل المبنى لم يؤثّر سوى في زيادة الحسرة لديهما.

دمار في حي ماضي_خاص إيلاف

تنقضي الغارة. يتفقّد من يتفقّد ويرحل من يرحل وتستمرّ الحياة على هذا الحال في الضاحية الجنوبية الصامدة حاملة عبق مشاعية الأشجار والمباني والبحر والمياه والجبال والبشر أمام بني صهيون المعتدين ومن ورائهم الخذلان الدولي المتواطئ.تقف صفوف طويلة من السيارات أمام كلّ محطة للمحروقات في المنطقة.

تقف السيارات بأمل أن تفتتح المحطة خراطيمها وتستأنف تعبئة البنزين على وجه الخصوص، فالمادة انقطعت وخزّن من خزّن من السكّان أمّا الباقون فشلّت حياتهم بالكامل بانتظار كرم الأخلاق المفترض لصاحب المحطّة.

أزمة البنزين كانت أشدّ على السكّان الصامدين في الضاحية الجنوبية منهم عن باقي المواطنين اللبنانيين في ظلّ الحصار الذي تعيشه المنطقة على صعيد القصف اليوميّ والطيران الدائم التواجد في الأجواء، وفي ظلّ صمود أهلها في أحيائهم لا سيّما البعيدة نسبياً عن المربّع الأمني.

شارع فرعي في معوض-خاص إيلاف
في مثل هذه الظروف لا بدّ من طوابير السيارات المحفورة في ذاكرة اللبنانيين المخضرمين والمستجدّة على الشباب من بينهم. ولا بدّ في كثير من الأحيان من الغشّ والإحتيال والتهريب كما هو الحال مع أحدهم الذي وقف بسيارته أمام محطة للمحروقات وجعل يبيع البنزين معبّأً في quot;غالوناتquot; جاهزة بأربعين ألف ليرة للسبعة عشر ليتراً (السعر الرسمي هو ما يعادل 25 ألف ليرة للعشرين ليتراً) ممّا أدّى بأصحاب المحطة إلى الإتصال بالدرك والقبض عليه في الحال.
وهذا الامر ينطبق أيضاً على العشرات من سيارات الأجرة التي استغلّ أصحابها غياب العمّال والموظفين عن محطة الأيتام في طريق المطار بسبب اقتراب القصف منها. فعمدوا إلى احتلال آلات التعبئة وجعلوا يحاولون استخراج البنزين من الخراطيم عبثاً.

أمّا عباس وصديقه عباس فقد استطاعا تأمين ما يكفي دراجتيهما الناريتين لفترة طويلة بفضل مغامرتهما بالدخول إلى إحدى محطات حارة حريك وسط الدمار الشامل الذي غطّى المكان واستثنى المحطة. فصاحب المحطة استغلّ هدوء الغارات لبعض الوقت وسعى إلى تفريغها من المحروقات بكلّ الوسائل quot;كيلا نخسر البضاعة وكيلا يزيد الدمار بفضلهاquot;. المهمّ أنّ العباسين خزنا ما يكفيهما من البنزين بل وأخبرا كلّ من يقف أمام المحطات في طريقهما عن تلك المحطة. بعضهم ذهب وبعضهم الآخر فضّل الإنتظار إلى quot;ما شاء الله.. المهمّ ما روح لهونيكquot; قال أحدهم.

كان بناءً في معوض-خاص إيلاف

عباس الأول قام بعدها بيوم واحد بمغادرة الضاحية إلى حيث زوجته وولديه في حلب في سوريا. فقد مضى إلى هناك بعدما أخبرته زوجته عبر الهاتف عن المعاملة الحسنة التي يلقونها هناك.

أوصله أخوه إلى quot;نهر الموتquot; شمال بيروت بعدما قطعا كلّ العقبات الحربية من طيران ودمار وأدخنة متصاعدة في الأجواء صباحاً وهما يغادران الضاحية على متن الدراجة النارية.

يصل الشابان إلى جسر quot;سوق الأحدquot; فيتفاجآن حين تتعطّل الدراجة النارية. ما الأمر!؟ فكرة تتسلّل إلى عقل شقيقه تدعوه إلى تفقّد خزّان البنزين ليجداه فارغاً تماماً رغم أنّ عبّاس ملأه في الليلة الماضية.

إكتشفا فوراً أنّ البنزين تعرّض للسرقة وانتظرا عباس الآخر وأخاهما الثالث في المكان بعدما اتصلا بهما وأخبراهما ما جرى.وقفتهما تحت الجسر ومع تتالي الأخبار عن استهداف الطيران الحربي للجسور زادت الشكوك فيهما من قبل المارة وهم يسرعون في سياراتهم حال ملاحظتهما يقفان ويتحدثان ويرفعان هاتفيهما الخلويين ويصوران أحياناً.

أمّا صاحب أبرز الشكوك فقد كان عاملاً سودانياً ndash;ربما لم يبق غيره- وقف تجاههما خلف الجسر في ساحة لركن الشاحنات والحفارات. وما زاد شكوكه هو هيأتهما التي لم تتصل بحلاق منذ بدء العدوان على اقرب تقدير؛ quot;بكون مات من الرعبquot; يخبر الشابان من أتى لإنقاذهما ويمضون إلى quot;نهر الموتquot;.

مار مخايل -خاص إيلاف
اتصل عباس بشقيقيه وبصديقه من حلب بعد وصوله بيوم. وعلى ما يبدو فإنّ عدوى الدعوة إلى ترك المنطقة تصيب كلّ من يغادرها بسبب الأخبار التي تصله عبر الشاشات والراديو. وهذا فعلاً ما أصاب عباس الذي دعاهم إلى الخروج فوراً. المهمّ أكثر أنّ عباس أخبر الجميع عن الأوضاع الجيدة التي وفرها السوريون له وللعائلة؛ quot;أعطوني غرفة وحدي مع زوجتي وطفليّ، وطعام يوميّ، وأدوية، و....عشر دولارات يومياً!quot;. خبر جعل الشبّان يمازحون عباس مباشرة؛ quot;غداً تعود إلينا غانماً من سوريا بعكس العادةquot;.

نعود إلى مجزرة الشيّاح التي غطّت عمّا سواها مع تجاوز الشهداء حاجز الخمسين. نعود إلى المجزرة من خلال فاطمة التي تعمل ممرّضة في إحدى المستشفيات التي نقل إليها الجرحى فور حصول المجزرة من الغارة اليتيمة على الضاحية تلك الليلة. لم تتصوّر فاطمة أبداً وهي المتخرجة حديثاً أن تكون لها مثل هذه الأعصاب الحديدية وهي تشاهد الجرحى وقد غطّت الدماء أجسامهم واختلطت بالغبار والتراب موحلة تغطّي الجراح وتكشف الآلام المبرحة التي عانى منها الجميع تلك الليلة. لم تتصوّر فاطمة ذلك وهي تشاهد شهداء ظنّ أنّهم جرحى انسلخت حياتهم وهم محمولون إلى المستشفى. عملت ما بوسعها بتوجيهات الأطباء الدائمة لكنّها تلك الليلة انهارت بعد عمل ستّ ساعات كاملة بين الجرحى تمسح الجروح وتغطي الحروق بدموع عينيها معظم الأحيان. تحية لها.

ها هي الضاحية الجنوبية تتخطى الأسبوع الرابع للعدوان. وها هي مبانيها تتساقط واحداً بعد الآخر بحقد آلة الحرب الصهيونية الجبانة. وها هم الشهداء يرتفعون إلى الملكوت الأعلى وهم يحملون وسام الصمود محفوراً في صدورهم يعلنون للعالم كلّه بصوت واحد أن quot;لن يموت الشهداءquot;.

مستودع للأدوية خلف وزارةالعمل-خاص إيلاف

اوتستراد هادي نصرالله -خاص إيلاف