موعد الشعر لا تفسده laquo;النوتات الخاطئةraquo;

..quot;ربما عابوا السموّ الأدبي بأنه قليل...raquo;، هذا ما توقّع مصطفى الصادق الرافعي، وصدق توقّعُه، فـquot;السمو الأدبيquot; في الكتابة شعرا ونثرا، أصبح صعب المسلك، بعيد المنال، ولكن الأفئدة تستبشر خيرا حين تجتمع، في عروس الزيبان بسكرة، بأسماء تحقق هذا السموّ، وتجعله واقعا معيشا يتجلى كأنه الثورة في أبيات حنين عمر، والرقة في كلمات مرام المصري، والصدق في فؤاد صليحة نعيجة، والإخلاص في أعمال أم سهام، والحبّ في أقوى عنفوانه عند زهرة بلعاليا، وحتى التطرف المقيت في نظرات زليخة أبو ريشة، وترى السمو الأدبي قد اكتمل لديه الحسن كله حين تستمع إلى رشيدة خوازم، فتلمس الحكمة البالغة، والصدق الناصع، والحب الغامر، وتعيش معنى الشعر كما ينبغي له أن يكون، ليصبح مهرجان الشعر النسوي عنوانا للسموّ، ومعراجا إلى أرقى ما يصبو إليه قلب امرأة..
كتب: محمد كاديك

مرحبا بسكرة..
أول ما تدخل مدينة بسكرة، تستقبلك بسعة صدرها، وتوحي إليك بتاريخها العريق وأنت تمرّ بلافتات حوانيتها العامرة، لأنك حتما ستلاحظ بأن أسماء المحلات يتم اختيارها بعناية فائقة كي تعبّر عن ثقافة أبناء الزيبان الكرام، ولن تستغرب أبدا حين تجد محلا تجاريا يرفع اسم laquo;المتنبيraquo;، وآخر يحتفي بـraquo;محمد العيدraquo;، لأن كل ما يحيط بك بداية من حديقة laquo;لاندونraquo; يوحي إليك بأنك تدخل مدينة تعيش الشعر، وتعيش بالشعر، وتعيش للشعر، وغالبا ما تقابلك هنا وهناك أبيات شعرية معلقة تتخذ منها عروس الزيبان شعارات ترفعها على مبانيها المتوسطة العلو، فإذا اختلطتَ بالناس وجذبتَ معهم أطراف الحديث، وجدتهم قلوبا مرهفة مؤتلفة، وأحسست بأن كل من تتحدث إليهم يودّون لو يحتضنوك بكرمهم، ويحيطوك ببسماتهم، وينيلوك من دفء أفئدتهم ما ينسيك مشقة السفر، ويجعلك تتلهف شوقا لاحتضان المدينة والتوغل إلى أدق تفاصيلها لتعيشها، وتتقرب من سرّ العبقرية الذي قيض بسكرة كي تخرج للناس بن قيطون، ومحمد العيد، وخمار والبرناوي وآخرين كثيرين صنعوا أمجاد الجزائر، وجعلوا لـraquo;السمو الأدبيraquo; نصيبا وافرا في الحياة الثقافية الجزائرية... ويكفي أبناء بسكرة كرما، أنك حين تكون فيهم، وتسأل أحد العابرين المستعجلين عن مكان ما، تراه يبذل ما وسعه كي يشرح لك طريق الوصول، فإن أحسّ منك أنك لم تتمكن من معرفة سبيلك، رأيته يتخلى عن حاجته العاجلة، ويعود أدراجه معك حتى يبلّغك مقصدك، وهو لا يأبه بما ضيّع من مشاغله لأجلك، بل ويبذل جهدا آخر حتى يريحك مما يعتريك من حياء حين تحسّ بأنك كلفته من العناء ما كان في غنى عنه..

الوطن.. قلب امرأة..
كانت مدينة بسكرة قد أخذت زينتها لاستقبال laquo;جميلاتraquo; الجزائر من الشاعرات اللواتي توافدن من كل الولايات للمشاركة في مهرجانهن الذي أسست له السيدة خليدة تومي، واختارت له أن يكون المنبر للصوت النسوي، وإن كان كثير من الشواعر عبّرن عن رفضهن المطلق لمصطلح laquo;الأدب النسائيraquo;، فقد رأين أن الأدب أدب وكفى، ولا يحتاج لتذكير وتأنيث، والقصيدة التي تُنتزع من الحياة في لحظة شاعرية، لتعود إليها في ثوب أجمل صورة، وأدقّ معنى، لا تحتاج غير laquo;الصدقraquo; كي تصير رائعة تتغنى بها القلوب وتعيشها الضمائر، ولكن المهرجان ـ في الأخير ـ كان فرصة طيبة للشاعرات جميعا كي يُسمعن أصواتهن، ويلتقين ويتعارفن ويشحذن الهمم للتدوال على منصة الإلقاء..
وكانت الانطلاقة من فندق laquo;الزيبانraquo; الجميل إلى قاعة العروض بـraquo;حمام الصالحينraquo; للمشاركة في حفل الافتتاح الذي حضرته وزيرة الثقافة، وألقت به كلمة أقرب إلى الشعر لما اشتملت عليه من صور البيان، وما رافقها من laquo;عزف البارودraquo; الذي كان يتفجر بين الفينة والأخرى ليتباهي بالعرس الشعري الكبير..
الحفل كان زاهيا، والشاعرات اللواتي تداولن على المنصة في أول يوم عرفن كيف يخلبن أسماع الحاضرين بروائع لم تكن في حسبان بعض laquo;الرجالraquo;، والشعر كان حاضرا بقوة في كلمات شهرزاد زاغز، وحليمة تودرت وفوزية لرادي وإنعام بيوض، ولقد ازداد حفل الافتتاح ألقًا مع المواويل التي أطلقها طارق جنان، والألحان الشجية التي صاغتها ربى صقر، والتميز الرائع الذي شارك به الفنان القدير فؤاد ومان، أما الفرقة الفلكلورية فقد تمكنت من جمع laquo;قبيلة الشاعراتraquo; حول تراث تليد وتاريخ مجيد رسمته حوافر الخيل وهي ترقص على أنغام laquo;القصبةraquo; الأصيلة، وتختم كل رقصة بالوقوف لصوت البارود المدوي وهو يخترق الفضاء ليعلن الفرح، ويوحي بأن laquo;الوطن قلب امرأةraquo;، بكل ما يحتوي قلبها المرهف من المحبة والرفق والإخلاص والصبر والشدة..

النوتة الخاطئة..
حفل الافتتاح كان ممتازا بألوانه الزاهية التي تخيّرها المنظمون بدقة كي تصنع أجواء العرس الكبير.. كل شيء كان يسير على ما يرام بداية من التنشيط الجيد للسيدة شاكر التي ظهرت مثل الحمامة وهي تربّت بكلماتها على القلوب، وتهدهدها كما تفعل الأم الرؤوم، ولعل هذا ما شفع لها لدى المستمعين الذين كانوا يتجاوزون عن بعض هفواتها في الرفع والنصب وما هو من اختصاص النحاة، أما كلمة وزيرة الثقافة فكانت غاية في الإتقان، وإن أحسّ المشاركون بالمهرجان أن تواتر إعلاناتها للخروج عن نص الخطاب المكتوب إنما كان laquo;خروجاraquo; مبرمجا في النص، ولم يكن تلقائيا عفويا مثلما هي عادة السيدة تومي، ولم يكن ذلك عيبا في نص الكلمة، ولكن أهل الأدب دأبوا على أن لا يدعوا شاردة ولا واردة ـ فيما هو أدبي ـ إلا وانتهزوها للتعبير عن احترافيتهم في عبقرية laquo;الذوقraquo;..
كل شيء كان جميلا.. حتى جاء الإعلان عن laquo;كلمةraquo; لم تكن في برنامج الحفل الافتتاحي، وإنما أقحمت إقحاما، لتعطل المتلهفين إلى الشعر ربع ساعة آخر، وتفسح المجال لعبد العزيز غرمول وتصفه بـraquo;رئيس اتحاد الكتاب الجزائريينraquo;، ليلقي كلمته التي لم تكن في حسبانه، فكتبها على جناح السرعة وألقاها، ليتلقفها جمهور من الرافضين نساءً ورجالا، وتبدأ رحلة أخرى من النقد، وتشتعل شرارة الرفض لوضع laquo;اتحاد الكتاب الجزائريينraquo;، ويعبر عدد كبير من الأدباء والشعراء عن حيرتهم واستغرابهم من إيلاء غرمول بـraquo;صفة الرئاسةraquo; رغما عن المحكمة التي لم تبتّ في الأمر بعد، ورغما عن المجلس الوطني لاتحاد الكتاب الجزائريين الذي ما زال laquo;سيداraquo; وفق القانون الأساسي للاتحاد، ورغما عن مكتب الاتحاد بولاية بسكرة الذي لم يعترف بنتائج ما يسمى بـraquo;مؤتمر سكيكدةraquo; على غرار أغلب أعضاء الاتحاد من كتاب وشعراء ومن هم نخبة هذا الوطن من الأسماء الكبيرة... المهم.. كل شيء سار على ما يرام، وإن كان اتحاد الكتاب الجزائريين laquo;نوتة خاطئةraquo; في laquo;سمفونيةraquo; مهرجان الشعر النسائي، ولم يكن المجال يسع الحديث عن أزمة الاتحاد، فاكتفت الشواعر بصرخات مكتومة من الغيظ، تبادلنها حول موائد العشاء بفندق الزيبان..

تأنيث الشمس.. ليس عيبا..
وكان في ضيوف المهرجان اسمان كبيران.. مرام المصري، وزليخة أبو ريشة، وكلتاهما من الشواعر النابغات اللواتي يمتلكن ناصية البيان، ولكنهما على طرفي نقيض، فالشاعرة مرام المصري، السورية المقيمة بباريس، تراها كأنها الحلم يسير بين الناس، وتحسّ حين تلمحها لأول مرة كأنك تشاهد لوحة فنية هادئة مثل تلك اللوحات التي تزين بها الكنائس، ولا تكاد تجذب أطراف الحديث معها حتى تتحرك في دواخلها الشاعرة وتمتعك بروائع الكلام، وأجمل ما فيها أنها تتقبل اختلافك، وتحتوي رؤيتك، وتقاسمك الأمل مهما كان منهجك، أما زليخة أبو ريشة، وهي الشاعرة الكبيرة والكاتبة المقتدرة التي تزين صفحات مجلة laquo;تايكيraquo; النسوية بمقال دوري رائع تناضل فيه بصدق لأجل واقع أفضل للمرأة، فلا تكاد تترك لمحدثها فرصة الحديث، فهي تستقبل بتوجس، وتبتسم بترقب، وتراها تقترب وكأنها تبتعد، ولعل الفرق بين مرام السورية وزليخة الأردنية، هو أن الأولى شاعرة وكفى، والثانية شاعرة ومناضلة ترى بأن اللسان العربي المبين نفسه ظلم المرأة وانتقص من حقها، لذلك نذرت قلمها ليكون مدافعا عن المرأة القيمة، وإن كانت القضية في اللسان العربي قديمة، وفصل فيها شاعر العرب الفذ أبو الطيب المتنبي حين قال: laquo;وما التأنيث لاسم الشمس عيب.. ولا التذكير فخر للهلالraquo;.. ومن يدري، لعل للشاعرة الأردنية حجتها في مواصلة النضال، فـraquo;الجاهلياتraquo; لا تستشير أحدا حين تستيقظ على ركام حضارة..

أملا في نجاح المهرجان..
.. وبين قاعات laquo;حمام الصالحينraquo;، المركز الجامعي ودار الثقافة بمدينة بسكرة، كانت الرحلة مع الأمسيات الشعرية، وإن كانت دار الثقافة الأحسن والأنسب لمثل هذا النشاط خاصة مع التنشيط الممتاز للفنان هيثم، فـraquo;شبابraquo; الجامعة ـ وهو الشباب في روعته ـ تعامل مع الشعر بنوع من الهتاف لا يصلح إلا لميادين الرياضة، وهو ما دفع ببعض الشاعرات إلى الانسحاب في صمت، أو الصبر على مضض، ولعل مثل هذه المشاكل وإن كانت تبدو صغيرة، إلا أنها تكون على عواتق المنظمين ثقيلة..
ولسنا نريد الخوض في نقائص التنظيم وسوءاته، لأننا ـ في المقام الأول ـ نأمل أن تكون الطبعة الأولى من المهرجان فاتحة الخير، أما في المقام الثاني، فإننا وجدنا واجبنا الصمت على النقص لأن ترسانة المكلفين بالتنظيم وضعت العبء كله على حمامتين رائعتين.. فائزة مصطفى وحنين عمر، وكلتاهما كانتا تشفعان لكل نقص، وتحرصان على تجاوز كل صعب، وتبذلان من الجهد ما يجعل المرء يتفاءل خيرا بمستقبل المهرجان، فـraquo;السمو الأدبي كثير التكاليفraquo; كما يقول الرافعي، ويؤكد: laquo;ولكن الحرية كذلك كثيرة التكاليفraquo;..