بيروت من جورج جحا(رويترز): عند القاء نظرة على عنوان كتاب الشاعر فؤاد رفقة الجديد quot;خربشات في جسد الوقتquot; قد يخطر للقاريء الملم بنتاج رفقة ومراحل حياته ان هذا الشاعر واستاذ الفلسفة التي تسكنه باستمرار انما يقدم في نتاجه الجديد مزيجا من الاثنين. وقراءة الرسالة أو الكتاب من العنوان قد لا تصيب دائما أو انها قد لا تصيب بشكل دقيق الا فيما ندر. ولان العنوان فيما فيه من تجريد وتصوير يحمل قدرا من البرودة وشبه الحيادية فقد يذهب التصور الى ان محتواه.. وقد ظهر من خلال تقليب صفحاته أنه ليس شعرا quot;خالصاquot;.. انما هو نوع من البحث الفكري المبسط قصدا بلغة رفقة الشعرية. اما القراءة فتؤكد بعض ما ذهب اليه القاريء في البداية لكنها تقدم أكثر من ذلك بكثير. فمحتوى الكتاب أقرب الى بيان بجني العمر وحصاد السنين وقد رافقته بل سيطرت عليه في مسيرته كلها شعرية تبدو احيانا مشبعة بالحزن وبما قد يكون نقيضه أي الايمان وأحيانا اخرى تبدو أبعد من الاحزان والمسرات. لكنها تذكر القاريء بان قدرا كثيرا ممن يجتمع فيهم الفكر الفلسفي منصهرا وذائبا في تجربة شعرية حارة يبدو اقرب الى ان تجسد نفوسهم تجارب quot;سيزيفيةquot; دائمة الصعود الى جبل الالام ولا نهايات لها لانها تتحول عند الواحد منهم الى العمر كله او جله.
كتاب رفقة.. أحد شعراء مجلة شعر.. وأستاذ الفلسفة لزمن طويل في quot;الجامعة اللبنانية الامريكيةquot; صدر عن دار نلسن في بيروت والسويد بغلاف من تصميم نورما بختي وجاء في 183 صفحة متوسطة القطع. في الكتاب الجديد تخمر نلتقي فيه كثيرا من نتاج رفقة السابق ومن حياته كما نلتقي فيه أحيانا أفكار جيله وأحلامه بل يأخذنا أحيانا الى كلمات هذا الجيل والى المنابع الثقافية التي نهل منها. يورد رفقة كل ذلك سيالا كأنه الشعر وهو هو في احيان كثيرة وببساطة تعبيرية دون تعقيد. ويأخذنا كذلك الى ما يعتبره نهاية الطريق وبدايتها كذلك.. الى الطبيعة والله والايمان. ينطلق رفقة في كتابه من سفرة أخيرة الى المانيا التي فيها درس الفلسفة والتي تحولت عنده الى شبه محجة فكرية يكثر التردد اليها والتطواف في منائرها العقلية. الا انه يقدم للكتاب بما وصفه بانه quot;تعريفquot;.
قال في وصف رحلة العمر وبضبابية ترك للقاريء ان يمخر في عبابها quot;صاحب هذا الاثر جوال على هذه الارض لا أحد يعرف شيئا عن ظهوره ومصيره كل ما نعرفه عنه يتسرب الينا من حكايات السهر. تروي هذا الحكايات انه في القفار تخمر تحت الشمس وفي مرسم الوقت تحول الى خربشات. غير ان عددا من قطاع الطرق يذكرون انهم شاهدوه اول الليل يتحول الى خربشات في حمرة الافق.quot;
وفي quot;طهطاوية quot; حديثة عميقة الاغوار يبدأ من فرانكفورت quot;مدينة الجسد فيها الاجساد تفور تترمد لياليها غريبة.انها الغرابة التي توقظ في القلب الشعور انه لا شيء. انها الغرابة الحديدية الملامح وأغرب ليالي هذه المدينة وجوهها. وجوه من زوايا العالم من الادغال والصحارى تلهث. تدور هاربة من الضياع الى الضياع الاكبر.quot; لكنه يضيف فيقول quot;هذه الوجوه ما ينقذها ما يعيدها بشرية.. ما يعيد اليها القدرة على البكاء..quot;
في كتابه سلسلة طويلة من الاسماء الكبرى في الشعر والفلسفة وشؤون الفكر عامة. يتحدث عن الشعر والفلسفة في بعض اماكن المانيا فيقول quot;الشعر والفلسفة رفيقان .انهما في حوار مستمر. في توبنجن كان هيجل يصغي الى كلمة هلدرلن الشعرية. كان يحاول تفسيرها واكتشاف الرؤيا المتجسدة فيها رغم انه في النهاية اعتبر الفلسفة الأقدر على تجسيد المطلق.quot; ويقول في مكان اخر quot;الغريب في مدينة غريبة يتسكع والتسكع في طبيعته دون هدف فالمتسكع من شارع الى شارع من مقهى الى مقهى ومن وجه الى اخر دون غاية محددة. ولان التسكع دون غاية محددة يعلم المتسكع الرؤية.quot;
وخاطب نفسه بالاسم الذي عرف به من خلال نتاج سابق له وهو quot;بيدرquot; والبيدر مكان جمع نتاج موسم القمح ودرسه لاستخراج حبوبه اي خلاصة الموسم. وصف تعلقه وترجحه بين الشرق ممثلا ببلاده وقريته وبين الغرب فقال quot;غريب امرك يا بيدر .من جهة انت في بلادك التراب وانت فيها الجبال والوعر وانت فيها الماعز والينابيع وانت فيها الجذوع ورغم هذا هناك من جهة ثانية الحنين المشتعل ابدا الى مراكب الرين. وبين هذين الجانحين وجودك مصلوب. جذورك في مشارف صنين (الجبل اللبناني) وعيناك على الالب.quot;

ونجده يصف من صومعته طبيعة تحملك الى عالم ميخائيل نعيمة مثلا فيقول quot;ان تقترب من الصومعة يعني ان تشاهد حجرة أشبه بصخرة دهرية على سطحها صليب تحت جذوع يستريح.quot; وتراه في مجال اخر وعلى غرار زميله الراحل خليل حاوي ودبه القطبي الاعمى الجدار ويصف ايضا النهاية بما يشبه ما الت اليه سمكة ارنست همنجواي الكبيرة في quot;العجوز والبحر quot; والتي تحولت عند عودته من رحلة الصيد الكبرى الى عظام فيقول quot;لا شيء انت هذه الايام سوى ذئب هرم يبحث عن مغارة قطبية في ظلمتها يموت هناك بعيدا عن الطرق.quot;

يختم رفقة كتابه برومانسية ذات حزن هاديء فيقول quot;قضى عمره في الكتابة عن الحياة دون ان يعيش الحياة. فيما تبقى له من الايام سيحاول تعويض الخسارة .. يعود الى بيته القديم تحت جذوع التوت على حصير من القش يتمدد وبعيون واسعة يرافق الضباب الصاعد من الوديان الى القمم.quot;