إصدارات جديدة:
quot;عالمنا في صورةquot; لاحمد ثامر جهاد

لقد ظلت الكتابة النقدية في مجال السينما تشكل هاجسا حقيقيا لدى الكثير من الأدباء والكتاب بحكم ندرتها في هذا المجال الحيوي والمهم وعزوف كتاب آخرين عن هذا اللون من الكتابة لندرة التجربة السينمائية العراقية وقلة منجزها، فضلا عن عدم وجود تأسيس معرفي راكز لشيوع هذه الثقافة الفنية وعلى مستويات متعددة جعلت الجيد منها هو الأندر في كل الأحوال. ولا يخفى على القارئ الأهمية القصوى والهيمنة الملحوظة التي تشكلها اليوم وتمارسها السينما في توجيه الذوق العام المفتون بالصورة ومؤثراتها الساحرة سيما وهي تدخل بجدارة معترك الإجابة على الكثير من الإشكاليات والأسئلة التي يطرحها الواقع الإنسان المعاصر بشتى تناقضاته الكبيرة والشائكة. رغم ذلك ظهرت لنا في السنوات الأخيرة مجموعة من الكتابات النقدية التي اهتمت بطرح صور الثقافة السينمائية وحاولت أن تسهم إسهاما حقيقيا في بلورة خطاب نقدي يسعى إلى مواكبة القفزة السريعة والهائلة لهذا العالم الساحر والممتع الذي اخذ يشهد على يد أمريكا والغرب الأوربي تنافسا بين كبريات المؤسسات والشركات العالمية المالكة لرؤوس الأموال الطائلة والمهيمنة في الوقت نفسه على بعض رموز هذا الخطاب المرئي ولغايات لا مجال لحصرها هنا. وربما سيشكل انتشار وسائل الاتصال الحديثة ووفرة القنوات والفضائيات والأفلام والأجهزة التقنية في عراق اليوم فرصة لنمو اهتمامات فنية وسينمائية لدى المتابعين والمهتمين بهذا الفن الجماهيري. ويمكننا القول هنا ان من النقاد المثابرين الذين تواصلوا بشكل لافت في هذا المضمار الحيوي يبرز اسم الكاتب والناقد احمد ثامر جهاد الذي أصدر مؤخرا كتابه النقدي الثاني عن دار الشؤون الثقافية quot;عالمنا في صورة - قراءات سينمائية| كأحد اكثر النقاد نشاطا وإنتاجا بكل ما تتطلبه الكتابة السينمائية من ثقافة وحس فني وقدرة أسلوبية عالية..
وفي منجزه الأخير يفتتح المؤلف كتابه بمدخل معنون ( السينما عالمنا الفسيح ) يلخص فيه غاية الكتاب ومنهجه بمكاشفة بليغة، وقد جاء فيه ((.. منذ طفولتنا والصورة تثير فينا ما تثير من ارتعاشات دفينة وأحاسيس. فنتساءل مندهشين : كيف يمكن للأشياء الموصوفة أن تغدو صورا وكلمات وكيف يمكن للكلمات أن تغدو أشياء موصوفة ؟ لنرى بعد حين إن ما بين quot; ألبومنا الشخصي quot; وquot; اللقطة السينمائية quot; يمتد فضاء التداعيات في الصورة، إلى درجة يصبح فيها كل ما هو مؤهل لإثارة حواسنا - بشكل من الأشكال - مركزا لاهتمامنا الخاص. لكن الفيلم السينمائي تخطى ذلك الاهتمام لخصوصية في تأثيره وسعة في انتشاره، جعلته إلى يومنا هذا، غير متخل عن جماهيريته لقرن من الزمان وأكثر، محتفظا ببهائه وسيادته الاستثنائية على آخر ما نفكر به في ليل توشك عقولنا / صحوتنا. فيه مغادرة الشاشة السحرية..نحو سحر الأحلام... أحلام الشاشة..)). بعد ذلك يوزع الكاتب مؤلفه إلى قسمين رئيسين حيث نطالع في القسم الأول المواضيع التالية ( بابلو بيكاسو - رؤية سينمائية لسيرة فنان، فرانكشتاين - صورة فنية عن الواقع والخيال، بعيدا عن دخان الحرب..طيور باركر تحلق كسيرة، جوزيف كونراد سينمائيا، حرب النجوم..التكنولوجيا تعانق الميثولوجيا، المحارب الثالث عشر أو رسالة أبن فضلان في السينما، الآخر في الخطاب السينمائي، اشتباكات المريض الانكليزي،الصورة السينمائية - طرق المعاينة وإمكانية التأويل، الواقعة الأدبية ورهان العملية السينمائية.) ورغم خبرته الواضحة في تذوق الفيلم السينمائي لا يبتعد الكاتب عن محاورة الأفكار ومساءلة المواقف لإثارة سؤال هنا واقتراح إجابة هناك حول كل ما يفرزه الواقع الإنساني من معضلات وما يشكله الراهن الاجتماعي والسياسي من تحديات ملموسة للأفراد والجماعات، لنرى على سبيل المثال ان موضوعة quot;الآخرquot; متناولة في اكثر من دراسة ومقال بطرائق كشف متباينة وزوايا نظر مختلفة، مثلما جاء في موضوع quot;الآخر في الخطاب السينمائيquot; التي بوبت ضمن الفصل الأول للكتاب، ومنها الأسطر التالية: quot;في اللحظة التي يتخلص فيها الخطاب الثقافي - السينمائي من مناطق تأثيره الملازمة له عبر مهيمنات عدة تتوجه حينا إلى ذلك العالم واسع الآفاق الهادف للتقارب الهادئ، المسالم ظاهريا، لحاجته زحزحة الصراع خلال اعتدال إنهائه، فانه يبقى يعبر بأساليب مختلفة عن اعتقاده الراسخ بفكره النفعي، إذا أراد الإشارة - حصرا - إلى أشياء لا بد للعين الغربية أن تراها في إطار حسن النوايا على الأقل. فقد يبدو المستقبل مفتوحا تماما، إن كان تصميما متعددا لإرادات متجاورة وممدودا في الأفق لمستخدميه كافة، منتجين للخطاب ومتلقين له، لكن بصيغ تسمح لنا أيضا بتمييز موجهات هذا الخطاب وتحليل أنماطه في محاولة جادة لبلورة موقفنا الثقافي من عالم صناعة الأوهام ..quot; ثم يحلل المؤلف هذه الظاهرة المرتبطة بموضوع الدراسة المحوري عبر عنوان فرعي ( الفيلم: محاولة اكتشاف ) والعينة المدروسة هي فيلم ( نزوة متمردة ) للمخرج جيليس ماكنين.. وليس بعيدا عن هذا الموضوع نطالع مواد أخرى عالجت الموضوع ذاته لكن بحسب ما طرحه كل فيلم سينمائي من تصورات في هذا المجال، من مثل: اشتباكات المريض الإنكليزي ورحلات ابن فضلان في بلاد الغرب والاقتباس السينمائي المتميز عن قصص جوزيف كونراد.
أما القسم الثاني من الكتاب المعنون تجارب وقراءات، فقد تضمن (عن السينما والحرب والخطاب الأيدلوجي، الإيقاع والتشويق في الفيلم السينمائي، البطل أمريكي والسينما للجماهير، جمهور السينما بين امستاد وتايتانك، اوليفر ستون وإشكالية التلقي السينمائي، السينما الأمريكية وواقع التخطي، استبطان الذات بلقطة قريبة، عودة كازانوفا من الأدب إلى السينما، بوابة رومان بولانسكي، حول إشكالية التلقي بين الرواية والفيلم، عزف سينمائي على أوتار الحرب، بلاغة التحديث في الخطاب السينمائي.) وفي إطار محاولته اجتراح قراءته الخاصة لموضوعات سينمائية تقتضي براعة في التأويل والنقد التحليلي نرى كيف يحاول الكاتب صياغة تصوره الخاص في موضوعة علم نفس الصورة السينمائية، حيث جاء فيه (.. ما انفكت الموضوعة السايكولوجية تشكل على الدوام إغراء طموحا لصانعي الأفلام بشكل استثنائي. وبإلقاء المزيد من الضوء عليها، تتبين قدرات الإخراج السينمائي على التقاط الارتعاشات الجوانية للذات، القلق غير المتعين، التخيلات الحبيسة والعالم الخفي للشعور، فقد يتسنى للآخرين أحيانا أن يتابع بحرص العناصر المعزولة للظاهرة النفسية، يلتقطها على وفق لحن لائق مؤثر، ومهما استعصى عليه إدراكها (( باللقطة القريبة )) قوية التأثير، يمكنه محاولة إدماجها في شبكة الإدراك الحسي للظواهر والأشكال. ذلك بانتسابها - أي الظاهرة- إلى اتجاه المكونات الحاضرة في الصورة السينمائية بوصفها مجموعة من المعطيات البصرية والسمعية. وتكمن مغامرة هذا النزوع التصويري وصعوبته، في تخطي المثبطات التي تقف حاجزا أمام تطويع هذه الموضوعات غير المرئية وعرضها على الشاشة. لتستمر الصعوبة بشدتها إلى حد تكتسب فيه الصورة صفة الإحساس بها، أو الانفعال السريع بوهمها على الأقل...).
بحال من الأحوال يسجل هذا الكتاب جهدا مثابرا ومتميزا للناقد احمد ثامر جهاد فهو إضافة إبداعية جديدة للنقد السينمائي العراقي الذي نتمنى أن يأخذ مكانته المتميزة ضمن المشهد النقدي العربي والعالمي على حد سواء تزامنا مع طلائع حركة سينمائية عراقية واعدة نرى بوادرها ماثلة اليوم..