ملاحظة اولية

الحديث عن معنى الشعر حديث قديم وطويل جدا؛ قديم قدم اول كلمة شعرية قيلت، وطويل طوال تاريخ الشعر. انه حديث مخاتل وزئبقي لا نستطيع الامساك به، لعلنا اذا قفزنا من وصف المعنى الملتبس وغير المحدد (الشعر) الى وصف الشاعر بوصفه كائنا محددا (هل هو كذلك فعلا؟!) نستطيع ان نمسك خيطا يدلنا على هذا الذي منذ بدايته والى الان ارتفع الى مستوى المقدس في النظرة والتعاطي كتابة واستجابة. لنغير السؤال اذن الى:

ما معنى ان تكون شاعرا؟
لم اجب عن هذا السؤال لأنني، ببساطة، لم اسأل نفسي يوما لماذا اصبحت شاعرا. لا اعتقد ان الشعر من الاشياء التي يختارها المرء مسبقا وبقرار واع. الشعر بكل اشكاله المختلفة واساليبه المتعددة، بالنسبة اليّ، فعل صوفي.انه عملية انجذاب (لغوي) تجاه اللايقين والمجهول وهذا الامر هو احد افتراقات الشعر الاساسية عن الدين. هكذا تصارعني الاثنان في طفولتي ومراهقتي الطويلة جدا!!

لم اختر الشعر حينما كتبته وانا في سن العاشرة كنت طفلا صغيرا فاقدا لامكانية الاختيار. كنت املأ دفاتري المدرسية بكلمات الطفولة (الكبيرة) واسميها مجموعات شعرية وارقمها: المجوعة الاولى، الثانية ....الخ واعنونها بعناوين لم تكن تدل على انشغالات الطفولة لقد كانت عناوين (كبيرة) او عناوين كبار. وكنت اتعامل معها بحساسية كبيرة مثلا لم اكن اقرأ (قصائدي) لأمي بل لأم صديقي ولا اعرف السبب وذات يوم شتائي مشمس صعدت للسطح وتركت دفاتري (دواويني) في الحوش وشاهدت اخي الاكبر وهو يهم بفتح احد هذه الدفاتر في تلك اللحظة كدت ان ارمي بنفسي من السطح عليه!

وحدث بعد ذلك الانقلاب المأساوي الاكبر في حياتي عندما اعتقل اخي عادل الذي يكبرني فقط بسنتين بتهمة الانتماء الى حزب معاد لنظام صدام حدث ذلك في 11/4/1980 يوم الجمعة الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وكان يبلغ من العمر ستة عشر عاما فقط تصوروا ذلك!! (قبلها بسنة اي في عام 1979 فصلنا من المدرسة لعدم الانتماء الى حزب البعث وعندما سألني احد (معارفنا) من البعثيين غريب انا اخاف عليك لماذا لا تنتمي الى حزب البعث و (تفضنة) اجبته لماذا تلح عليّ ربما عندي اتجاه اخر!!) هكذا ابتدأت مراهقتي بعبء كبير؛ عبء ان تكون كبيرا وناضجا حتى في مراهقتك. كان الشعر في تلك المرحلة بشقيه قراءة و(كتابة) معادلا نفسيا استطعت به وخلاله ان اتشبث بالحياة برغم كل الاحزان التي صبغت حياتي في تلك المرحلة اختلط اذن السياسي بالشعري. الحقيقة لم يكن السياسي سياسيا كان انسانيا واحد المغذيات المهمة في تجربة اي شاعر. لا شيء خارج الحياة، والشعر هو خلاصة حقيقية لهذا الوجود المسمى (حياة)!.هكذا تعلمت معنى الحرية بمعناها الوجودي العميق مبكرا، كما اكتشفته لاحقا عند هيدغر، الحرية التي تكون فيها حرا لشيء ما ولست حرا من قيد، والحرية هي ان تحقق ابعد من ذاتك. هي ما يسميه نيتشه نوع من التشييد للحياة نحو الاعلى بمعنى التحكم في الذات الامر الذي يصفه هيدغر بـ(تخطي المقدرة). حريتي الحقيقية اذن موجودة في الشعر.

عندما كنت في الثالث المتوسط طلب منا مدرس اللغة العربية ان نكتب بحثا صغيرا في مادة الادب العربي ذهبت الى المكتبة العامة (هذا قبل ان تتحول المكتبات العامة الى مقرات لفدائيي صدام في السنوات الاخيرة لسقوطه) اقول ذهبت واستعرت كتاب الناقد المصري حسن توفيق عن السياب وقرأته كله واكتب عن السياب بحثا صغيرا لاضع على غلافه الخارجي كلمات السياب التي احفظها منذ ذلك الوقت:

ان مت ياوطني
فقبر في مقابرك الكئيبة
وان سلمت فإن كوخا في الحقول
هو ما اريد من الحياة
فدى صحاراك الرحيبة
ارباض لندن والدروب
ولا اصاباتك المصيبة
هل اردد مع السياب الان ارباض لندن والدروب..... حيث الوطن غارق بمصائب لا تعد ولا تحصى.

دخلت كلية الاداب بجامعة بغداد لادرس في قسم اللغة العربية كان ذلك في بداية النصف الثاني من عقد الثمانينيات الرهيب حيث الحرب والاعتقالات على قدم وساق وكانت كل شعاراتهم السيئة تتلخص بشعارين رئيسين هما (لاصوت يعلو فوق صوت المعركة واذا قال صدام قال العراق). لقد اخترت قسم اللغة العربية عن قصد كان من الممكن ان ادخل اي قسم اخر لكنني اثرت تطوير لغتي والاطلاع بشكل اوسع واكثر تخصصا عن الادب العربي كانت مشكلة كبيرة للشاعرفي كيفية مواجهة كل هذا السوء والدمار وخنق الحريات ويعيش ويكتب، ازعم اني استطعت ان اتسلح بقوة الشعر وان اكتب ثم اكتب؛ كانت الكتابة هي العلامة الحقيقة الوحيدة والجميلة في ذلك الزمن الدموي. واذكر كان هناك تقليد في قسم اللغة العربية يشترك فيه بعض الاساتذة والطلبة من الشعراء بكتابة قصائدهم على ورق من نوع الكارتون الكبير وتعلق على جدران القسم لعدة ايام وتسمى المعلقات تيمنا بـ(المعلقات الجاهلية) تقدمت بقصيدتي التي خطها الصديق الناقد ناظم عودة بخطه الجميل، كنت حينئذ في المرحلة الثانية في عام 1987، لكنني فوجئت بعد يومين بالشاعر حسن عبد راضي يحمل لي قصيدتي وهو يقول باسف لقد منعوا قصيدتك؛ لقد منعوا قصيدتي التي كان عنوانها (البوق) وكان ثمة عنوان جانبي اخر يقول (عن البوق الذي شاخ في فم اسرافيل) وعل الرغم من انني غيرت كلمة (وطن) بكلمة (زمن) حتى لا تثير حساسية او مسؤولية معينة، حيث قلت:

هذا زمن بعثرته الكلمات
يبحث عن احفاد لا نعرفهم
قبورهم
معلبة كالصفيح

تصوروا ان احد الذين وقفوا ضد القصيدة طالب ،كان شرطيا في الحقيقة، تكريتي اسمه كمال؛ حيث الاسم لا يدل على المسمى مطلقا.حملت قصيدتي وعدت الى البيت منكسرا وغاضبا في آن.
لا استطيع الكلام عن مجسات الشاعر التي اظنها عصية عن الفهم هي هل العين ام الأذن ام اليد ام اللسان، كان الاخير يعد آلة من آلات البيان الشعري، لكن الامر تغير فيما بعد ولم تعد وظيفة الشعر وظيفة خطابية لقد تغيرت الان طرائق واساليب الشعر. كيف يكتب الشاعر قصيدته ولماذا؟ لا اظن ان احدا يستطيع الاجابة على هذا السؤال. هل الشعر لعنة؟ ربما خصوصا اذا فهمنا (المرارة الوجودية) التي يعيشها الشاعر دائما وابدا. الكتابة الشعرية وفق ذلك عذاب حقيقي. لقد قلت مرة في قصيدة لي بعنوان (اسئلة خرساء):

اضيق ذرعا بالسعادة
اضيق ذرعا بالحزن
واكتب الشعرَ
كما لو انني امارس الحياة

واقول في مقطع اخر من القيدة نفسها:

اخيرا
بدأت افهم
كيف تتأرجح انيابُك ايها الجسد
اخيرا
بدأت افهم
كيف تتوهجين بصمتٍ ايتها الروح
نعم انه الشعرُ
خيط السماء
الذي يتدلى، رحمة، الى الارض.

اريد ان اتكلم عن نبوءة الشعر لايماني الشديد ان الشعر هو فعل نبوئي كما هو فعل صوفي. واذكر انني كتبت قصيدة في بغداد عام 1989 كان عنوانها (تفوهات المطلق) غيرته فيما بعد الى (فصلان عن الجحيم) ولهذا الامر قصة ايضا ستعرفونها بعد قليل،كان هناك مقطع في القصيدة يقول:

قبة كربلاء
قبعة للموتى الذين يستنجدون بها
من الصيف
هكذا اختزل النهار
ليؤكد خرافة الشمس.
اكثر الاصدقاء الذين قرأوا القصيدة فيما بعد ظنوا ان القصيدة كتبت في اعقاب انتفاضة اذار 1991 العظيمة على الرغم من كل الملاحظات التي قيلت وتقال عليها حيث استنجد الناس بقبة الامام الحسين لكن هيهات! وقد نشرت القصيدة في ملف شعري بمجلة الثقافة الجديدة في العدد الخامس اذار عام 1992 باسماء مستعارة وقد حمل الملف عنوان (قصائد من الوطن ndash; الواح طينية لاحفاد كلكامش) وبتقديم الشاعر العراقي مهدي محمد علي. كان الامر مغامرة كبيرة بالنسبة لشعراء شباب في مطلع عشرينياتهم (ظهر اغلبهم في النصف الثاني من عقد الثمانينيات وقد شكلوا فاتحة لما اخذ يعرف بجيل التسعينيات فيما بعد) اقول كان مغامرة كبيرة حيث اخذت اجهزة صدام (الثقافية) تبحث عنا لكنها فشلت في الوصول الينا وكنا مصممين على ابلاغ صوتنا لاخواننا من الادباء العراقيين في الخارج فكانت مناسبة مهمة على الرغم من خطورتها وكان من بين من كتب في الملف (سعيد عبدالهادي ورزاق علي ويوسف اسكندر واحمد حسين والمرحوم عبدالامير جرص وكاتب هذه السطور) تدور السنون واذا بي احصل على هذا العدد من الصديق الشاعر هاشم شفيق بلندن في السنة الماضية وقد اصبح الان احد مقتنياتي الثمينة!
نبوءة الشعر الاخرى كانت عندما تم اعتقال جميع اخواني وقد كنت حينها اعمل في ليبيا حيث كتبت قصيدة اسميتها (مراقد ـ النصوص العراقية) في عام 1999 حيث تحولت مدن العراق الى مراقد حقيقية كان لكل واحدة في هذه القصيدة (مرقد شعري) اضفت اليها مرقد العائلة حيث قلت في شيئا عرفت حقيقيته فيما بعد:

احذية كبيرة حمراء
وزهور كبيرة حمراء
وكلاب
وخنازير
في حديقة البيت.
عرفت انه فعلا قد تم حفر الحديقة ظنا منهم ان بها اسلحة مدفونة!
هكذا يزداد ايماني بالشعر يوما بعد اخر حتى (الخيانات) التي ارتكبتها بحقه امل ان اوظفها له؛ انه وجودي الحقيقي.
مثلما لم يكن الشعر بالنسبة خيارا لم تكن الحداثة هي الاخرى خيارا. انا ابن الحداثة الشعرية العربية ولدت شعريا بعد ان قطعت الحداثة الشعرية العربية اشواطا متعددة ومختلفة بنسختيها العراقية واللبنانية لا اريد الخوض في ذلك الكل يعرفه واصبحت منذ زمن مادة من مواد تاريخ الادب. فقط اريد ان اتكلم عن قصيدة النثر واسارع الى بيان استغرابي الشديد (انا احد ابنائها المتأخرين) من الكلام الان عن مدى مشروعية المفهوم والمصطلح في الشعر العربي المعاصر حيث تنقسم النظرة العربية للشعر الى قسمين: احداهما تختص بكينونة الشعر؛ انها نظرة داخلية تنظر الى الشعر على انه ذلك الخرق الجمالي للغة؛ اللغة بوصفها حاملة/ او بها تتكون الاشياء. وقد ظلت هذه النظرة طي الكتمان على الرغم من تحققها في داخل الشاعر ،ولعل قصة الشاعر المخضرم حسان بن ثابت مع ولده الذي لدغته افعى فقال يصفها بزنبور لف ببردعيه وانفعال حسان بهذا الوصف بقوله: والله لقد قال شعرا خير ما يمثل هذا التحقق. فالشعر هو تلك اللغة الاستعارية (بالمعنى الشامل لمفهوم الاستعارة) بمعنى انه اللغة وفائضها، لكن هل هذا هو فقط جوهر الشعر؟!!

اما النظرة الثانية فتخص، او تتحقق بخارج الشعر، انها تعنى بـ(شروطه) الموضوعة له من خارجه؛ انها نظرة (زائفة) على الرغم من طابعها العلمي، وخير ما يدحض هذه النظرة هو ان الشروط التي تضعها هذه النظرة للقصيدة (الوزن والقافية) هي شروط خارجية لا يتحقق بهما الشعر باعتراف اصحاب هذا الاتجاه وهذا امر غريب حقا. ويبدو لي ان النقد الحديث اقترب في مستوى من مستوياته من النظرة الاولى اذ بدأ يبحث عن جوهر الشعر فأخذ علماء الشعريات يبحثون عن ماالذي يجعل من الشعر شعرا، حسب ياكوبسون، وهذا هو سؤال الشعرية. مع هذا لا اعلن انحيازي كقارئ الى شكل شعري محدد على الرغم من انحيازي الى الحداثة كشاعر تستهويني اعادة قراءة قصائد كلاسيكية او من شعر التفعيلة لمرات عديدة فضلا عن دراسة ذلك حيث وفرت لي دراستي في البكلوريس ومن ثم في الماجستير فرصة الاطلاع على مدارس الشعر العربي ونقده والاستفادة من النظرات المهمة والجميلة فيه في ان. والان اتساءل هل اجبت على احد السؤالين او كلاهما، لا اظن ذلك لقد ازداد الامر عليّ تعقيدا كلما اقتربت من هذا الغامض والمتعالي والمقدس الذي يسمونه (الشعر).