منذ الثاني عشر من تموز الجاري وأنظار العالم تتجه من جديد الى لبنان، هذه المرة ليس لمتابعة تداعيات اغتيال إحدى شخصياته السياسية أو الإعلامية، وإنما لسماع أخبار الهجوم الإسرائيلي الشامل، جواً وبراً وبحراً، على لبنان ولمشاهدة ما يخلفه هذا الهجوم من دمار وخراب ومآسي إنسانية، تتسابق الفضائيات في نقل صور حية ومباشرة لها من قلب المعارك التي أعادت الى ذاكرة اللبنانيين ويلات الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. يقول كانط:((إذا كان قتل طفل بريء يسعد البشرية جمعاء فأن قتله جريمة))، ماذا كان سيقول كانط وهو يشاهد ما يحصل هذه الأيام للبنان وقد تحول الى نار ودمار فوق رؤوس أطفاله وابناءه الأبرياء ويسمع صرخاتهم تحت الأنقاض وهم يستغيثون!. لماذا كل هذا الذي جرى و يجري للبنان الجريح والمنهك، الخارج من حرب أهلية طويلة ومريرة، إذ لا يكاد يخرج من محنة حتى يدخل في أخرى أشد وأكثر قسوة؟، وإلى متى سيبقى لبنان تتجاذبه قوى محلية وإقليمية ودولية لكل منها أجندتها الخاصة، وبالتالي يبقى يدفع من حين لآخر فاتورة حروب الآخرين(حروب بالوكالة) على أرضه وهو غير قادر على تحمل أعبائها؟. كما في كل الحرب اللبنانية السابقة، لم يقرر لبنان هذه الحرب ومن المؤكد أنه لا يريدها، ولأنه يرفضها بقي الجيش اللبناني بعيداً عن المعركة بالرغم من تعرض بعض مواقعه للقصف الإسرائيلي ووقوع العديد من جنوده بين قتيل وجريح. في الطبيعة، عندما يخضع جسم ما لضغط متزايد يفوق قدرته على التحمل ينفجر ذاك الجسم بدءاً من أضعف نقطة فيه، في علم الاجتماع السياسي هناك ما يوازي أو يعادل هذا القانون الفيزيائي. فمع استمرار تزايد الضغوط، السياسية والعسكرية والاقتصادية، على منطقة (الشرق الأوسط) في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وتأزم الأوضاع داخل فلسطين بعد فوز حماس وتشكيلها للحكومة، كان لا بد من أن تنفجر الأوضاع في المنطقة للتخفيف من حالة الاحتقان القائمة، وباعتبار لبنان أضعف دول المنطقة وأكثرها اختراقاً من قبل الخارج، انفجر هذا (الاحتقان الإقليمي) على أراضيه بدءاً من أضعف نقطة لبنانية، وهي أرض(الجنوب)، حيث لا سلطة للدولة اللبنانية عليها، وإنما لمقاتلي حزب الله الذي أبقى الجنوب، بعد تحريره، جبهة ساخنة مع اسرائيل، فيما بقية الجبهات العربية مع اسرائيل تنعم بالهدوء والأمن والاستقرار. بلا ريب، أن(الحروب)، كل الحروب، مقيتة مرفوضة ومكروهة إنسانياً، وبالتالي هي غير مبررة أخلاقياً تحت أية تسمية أو ذريعة، لكن إذا نظرنا الى الحروب من زاوية أخرى (فلسفية)- بمنظار هيغل:(الحروب هي التي تحكم التاريخ وتحدد مساره)- تبدو أحياناً ضرورة لتأدية دور تاريخي أو هدف سياسي معين، في هذه المنطقة أو تلك من العالم، التي توجد فيها أزمات و قضايا معقدة يصعب حلها عبر التفاوض في وضع سياسي وأمني بارد وهادئ. وقد قيل في السابق: (أن الحروب هي استمرار للسياسة لكن بوسائل أخرى)، والبعض يرى فيها (امتحاناً للشعوب) حيث تقوم بإتاحة الفرصة لأشكال وأساليب جديدة من التفكير والعمل والحياة. على صعيد أزمات المنطقة لعبت بعض الحروب، العربية الإسرائيلية، مثل هذه الأدوار السياسية، خاصة حرب تشرين 1973التي وصفها البعض، منهم الرئيس المصري(أنور السادات) الذي خاض الحرب الى جانب سوريا، بأنها كانت (حرب تحريك) أكثر من كونها (حرب تحرير)، فقد فتحت تلك الحرب طريق القدس أمام السادات ووقع اتفاقية سلام بين مصر واسرائيل. ويرى الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين أن الحرب الإسرائيلية الراهنة على لبنان ربما تأتي في هذا المنحى وقد تؤدي ذات الدور السياسي فيما يتعلق بالأزمة اللبنانية بكل تفرعاتها وبأزمات الشرق الأوسط عامة التي استعصت عن الحل عبر التفاوض وبالطرق السلمية، لذلك هي باتت تتطلب إشعال حروب محدودة حولها لخلط الأوراق وإحداث تغيير ما على الأرض على ضوءها يمكن دفع المعنيين بها للتفاوض من جديد والبحث عن حلول ممكنة لها. إذ، يستبعد أن تكون هذه الحرب الشاملة والمضمرة على لبنان فقط من أجل تسليم حزب الله الجنديين الإسرائيليين اللذين خطفاهما، فلم يعد سراً بان اسرائيل تسعى لتقويض حزب الله وإنهائه كلياً أو على الأقل ابعاده عن حدودها الشمالية وبما يضمن وضع حد لتهديداته لها، وربما أرادت اسرائيل من هذه الحرب أيضاً إرسال أكثر من رسالة تحذير وإنذار ولأكثر من طرف في المنطقة ترى اسرائيل فيها خطراً على أمنها ووجودها، وبالمقابل يستبعد أن تقف أهداف حزب الله من عملية خطف الجنديين وجر لبنان الى هكذا (حرب مضمرة) في هكذا أوضاع لبنانية وإقليمية ودولية متوترة- ربما لم يكن يتوقع أن تكون ردة الفعل الإسرائيلية بهذه الشراسة- عند حدود تحرير ثلاثة أسرى لبنانيين، وإنما لكلا الطرفين ومن خلفيهما الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بهذه الحرب، أهداف تتعدى قضية الأسرى، وربما تتجاوز الموضوع اللبناني وتنفيذ ما تبقى منقرار مجلس الأمن 1559 (بسط الدولة اللبنانية سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، ترسيم الحدود مع سوريا وتجريد سلاح حزب الله)، لتمتد الى قضايا وملفات إقليمية أخرى، مثل قضية النزاع العربي الإسرائيلي والوضع في العراق والملف النووي الإيراني وأزمة العلاقات السورية الأمريكية/الغربية، وربما أيضاً لتحريك مشروع (الشرق الأوسط الكبير والجديد) الذي تتحدث عنه الإدارة الأمريكية منذ سنوات وفي كل أزمة تنشب في المنطقة. بطبيعة الحال، لا يمكن فصل الحرب الراهنة على لبنان، بدوافعها وأهدافها، المباشرة والغير مباشرة المعلنة والغير معلنة، عن ما يخطط لهذه المنطقة الحيوية من قبل القوى العظمى التي تتأمل أن تحدث الحرب الراهنة واقعاً عسكرياً وسياسياً جديداً يسهل عليها اعادة تشكيلها وترتيب أوضاعها بما يضمن مصالحها الاستراتيجية فيها. لا جدال على أن لبنان ومعه المنطقة سيدخلان بعد هذه (الحرب المباغتة)، مرحلة سياسية وتاريخية جديدة، طبعاً من الصعب تحديد صورة لبنان الجديد وقراءة آفاق المرحلة القادمة قبل أن تهدأ العاصفة، التي تهدد بحدوث زلزال عسكري وسياسي في المنطقة ما لم يتم تطويقها قبل فوات الأوان، وبالتالي قبل أن تتضح النتائج النهائية للعمليات العسكرية وتنجلي الشروط الجديدة التي على أساسها وعلى سكتها ستبدأ العملية السياسة بالتحرك في المنطقة.

الكاتب سوري

shosin@scs-net.org