السعودية سناء ناصر في ديوانها وحيدة حيث كنت:
وحدةٌ بفيوض تضج بالآخر

مذ كان العـُري.. بريئاً..
كل الأشياء كانت عريانة حتى الألسنة
العري الآن.. عَصيٌ جداً..
ولا يمكنني أن أنزع هذا الجلد

هاني نديم ـ إيلاف: مثل كل خطابٍ، تسوق التوطئات نفسها بنفسها لكشف نوايا المتون وسياقها المحتمل، وبافتتاح الشاعرة السعودية سناء ناصر ديوانها وحيدة حيث كنت بالمقطع أعلاه، فإنها تعلن عن انحيازها للتواري و(اللبس) في نصوصها القادمة عن الكشف و(العري). ولكن أي تستّر هذا الذي يشعر بأن الجلد ـ حتى الجلد ـ يشكلّ عبئاً أمام الكشف عن جوّانية الشاعرة التي تتمنى أن تضعها بين أيدينا لولا أن العري بات صعباً ولم يعد بريئا،ً ومضى زمنٌ فيه كانت الألسنة بأمر القلب!؟.
وحيث أن: بعضُ الكلامِ ثــَقِيلٌ حدّ البوح للغرباء، على حد تعبير الشاعرة، نستدرك عذر الشاعرة واتباعها ما لا تؤمن به من بوح/ عري اللفظي. ويتضح اختيار مثل هذا المفتتح، وعليه.. يمسك الديوان سلسلة مفاتيحه في عتمة الوحدة وفي غفلة من الأبواب، يخشخش بها محاولاً الإعلان عن حضورٍ منهك من الآخر والغياب، غيابه هو. مجموعة من الثيمات المتكررة..الوحدة...الغياب...هم..تتكرر وكأنها محاولات يائسة في وجه صلف الستائر والسدود المستعصية.
لا يمكن لمتتبع خطوات سناء ناصر في هذا الديوان إلا وإن يعلن إعجابه بعنايتها بالتفاصيل التي تشكل لها محوراً وسياقاً واضحاً على الرغم من عتمة الكلمات وضبابية طريقها التي اختارت له بدءاً من الغلاف الذي يحمل توقيعها أيضاً، ومروراً بتلك النصوص التي تربط بينها بخيط حريري يحتاج لحصافة شديدة في المعاملة معه كي لا يبتر أو يفجر ألغاماً مربوطة بآخره!. كما لا بد لنا أن نحب وحدتها التي تتطهر بوجعها عن آثامنا وتنتقل من وحدتها إلى وحدتها بكل هذا الضجيج، دون أن تلقي لنا بالاً كمتلقين، ودون أن يحمل هذا التجاوز في خطابها وانشغاله بنفسه غروراً، ويشفع له حزنه الجليل وانكساراته الشامخة، حتى وإن قالت:
سَـئمتُ انحِنْائي بلا كبرياءٍ
أمام الحقيقة
سئمتُ من الفـِكـر ِ يـَصحو بحزني
ونـُطوى معاً - في الضحى- كالجريدة.
ولكن هل وحدة سناء ناصر أزلية أم جاءت نتيجة للاحتكاك بالآخر؟، نعم إنها تعلن أنها كانت يوماً ما بينهم، بين الناس الذين نأوا عنها أو نأت عنهم، ولم يتركوا إلا الذكرى التي تمخضت عن هذا الديوان بشكلٍ أو بآخر، تقول:
حـَسـَنـَةُ الراحلين:
ذكرى خـَصـْفُ نعالهم..
وأصابعهم المنحوتة على مقبض الباب
فقارعة قلبي عادت لا تتسع لأقدام وافدة
ولا يدي قادرة على أن تمتد إلى أبعد من
تلويحةٍ من خلف
زجاج النافذة.
تلك الوحدة المريرة اختيارية على ما يبدو، ولكنها وحدة تطهرية، لها وللآخر الذي ترى الشاعرة أن ذاكرتنا هي التي تشكله ومشاعرنا له تعيد تكوينه، تقول:
ما امتطى الغيابَ راحلٌ وعاد
يرجعون طيوراً أو فراشاتٍ أو زجاجاتٍ تعب البحر فارغة
فلا نكاد نعرفهم
أتظنين هذه الأسراب عبثاً تطوف سماواتنا كل آب؟!
اسألي الحمامة:.. هذه أنتَ؟
والفراشة:.. تلك أنت؟
وحاذري أن تؤذي زجاجات البحر، إن عثرتِ بإحداهن!
إن المونولوج والالتفات نحو الجسد هو أحد المفاتيح التي تتسلح بها شاعرتنا الوحيدة حيث كانت، فمرة تقرأ كفها:
في كل مرة أتتبع فيها خطوط يدي
أندل إلى
طـُرقٍ متشعبةٍ تؤدي إلى هاوية واحدة
ومرة تقرر أن تتخلص من أجزاء منه لأسباب تتعلق بالوحدة تماماً!:
سأبتر نصفي
لنصفٍ سينجو.

ولأن الأنثى قُذفت من صُلب سماءٍ وردة واختلطت بماء الأرض فأنبتت قصيدة، كما تعلن الشاعرة، فإنها توثــّق وحدة هذه الحقول الأنثوية لمن قد سوف يمر بها يوماً دون أن يلحظها بقولها:
عَافَت الرِيِحُ حُقُوْلِي
فَانـْحَنـَى زَرْعِي و أَنْـضَاهُ الشَبَقْ
وهو ما يجعلها تتوجه للشعر بسؤال أنثوي بامتياز، طالما أن القصيدة أنثى كما تقدم، وهو يزج بليلى (الخالدة) في قصيدة يلهو بها الآخرون:
هـل تـَـعَـرّى حـُزن ليلى حين زجت في قصيدة ؟!
حين نُلقِيها كلاماً!؟
هل حباها الموت أثمن من خلودٍ في سطورٍٍٍٍٍٍِِِ لا تعيها.
وتفترض الشاعرة مسبقاً أن قارئها يشبهها ـ مع أنني لا أؤكد أنها تخاطب غير ذاتهاـ فهي تفرد فصلاً كاملاً للجوع، الذي تقدمه بأنه أصل الحروب والثورات:
كل الثورات منشأها وعدٌ بالحنطةِ و قصاع فارغة
...وتؤكد:
لن يبقى شيئاً للأحلاف
للأعوان
ولا للرحى التي دارت على رائحة الحنطة
وفي مقطعٍ لافت، تخاطب الشاعرة الآخر بضميرٍ مذكر كأنها تريد التعميم على لسان حال أبناء كل هذه المنطقة (الحنطيين)، بقولها:
أكواز الحنطةِ في لوني
لا يعني أنني صالح للأكل!!
ينتقل بنا الخطاب بهدوء وبطيبة طفل نحو الاقتناع بمركباته وبنيويته والتعاطف مع ما يلقي علينا من مشاهدات يسجلها بأسلوبه الطافح بالفطرية التي من شأنها أن تكرس الاختلاف، ففي نصٍ طويل تصدر الشاعرة لنا دهشتها وتطرحها لنا بفنية مصورة فوتوغرافية من زوايا مختلفة، علها بصياغة تعريفٍ لهذه الدهشة..تتخلص منها!. تقول:
الدهشة كائنٌ متوحد، لا يكرر نفسه، لا يمتزج لا يتكاثر.
نُسل من طفرةٍ في الحقيقة... فأرضعته الخرافة.
حافةٌ تهوي بك إلى سماء سابعة!
روحٌ تعرج بك إلى غورٍ سحيق.
تـرمش فتزداد الدهشة لزوجةً،
تُحكم التصاقها...
فتسد ثغر الصورة.
ويتصاعد خطاب الديوان ويتحول عن خجله عبر منعطفات لفظية مركبة بعناية بعد أن ضم آذاناً صاغية، نحو التقرير والتنظير وإشهار آراء قد تبدو متطرفة أحياناً، ويسوق نصوصاً خاطفة تحمل الكثير من الحكمة الخاصة بصاحبته، فتقول عن الرسائل مثلاً:
حـَقن اللحظة بالحبر
يبقيها نقيةً لا يتراكم فوقها نسيان..فتيةً لا يترهل حولها الزمن
أو قولها عن الموت:
...يرْكضُ الموْتُ إلى الثوار ِ..
ويجُرُ خطاهُ إلى المرْضَى...
و:
الوصول ليس نتيجة بديهة للمسافة،
والسير للسير ذاته
سينسيك المشقة
إن كنت سأدافع عن نظرية اللا فرق بين الديوان الأول للشاعر والديوان الأخير، فإن ديوان سناء ناصر أنموذج لما أذهب إليه من أن هنالك شعر وحسب، يتكرر بصيغٍ مختلفة وتكنيكات متبدلة. ومن جهة أخرى فإن الديوان تخلص من التهمة الجاهزة التي تعلق كثيراً بالخطاب الشعري الأنثوي، كالحب المبتذل والهم الشخصي الصغير وتعداها نحو هموم كبرى مثل الجوع والثورات وفلسفة الوحدة والآخر من منظورها.
كمختتم نموذجي للحب الذي لم يغب عن الديوان بل تفجر دفعة واحدة في جملة متأخرة من الديوان، تقول سناء ناصر:
العابرون..كانوا انكسار مـُضيك!
وظِلال نسيانك.
والغائبون كلهم.. أنت.
[email protected]