يا ملك...

ما لم أفهْمُه بعدُ.. أنه يدعوني هكذا، أما أنا فلستُ بالغا ما يمنحني هذا اللقب.. كنتُ أصغَرهم، وكانوا أشداء وذوي بأس، كانوا يلوكون الحديد مع الكلمات.. أما أنا فأتغرغر في الهواء وكلماتي لبنية.
أبي الذي وضع الذهبَ على عاتقه.. ناداني.. وهو يضربُ في الصحراء
ـ quot; يا ملك quot;.
وجاءت ريح.. وجاء مطر.. وامَّحتِ الصحراء.. وأبي، لم يبقَ منه سوى شبح يطرق
الليالي ..ويهجس صلابة السقوف، فلا تجلدُ تحت سطوته hellip; وإذ تنغرس فيَّ سنارة الضجيج.. وتخرجني من النوم مرتعدا، تكون السقوفُ قد أخذت بالتداعي.. والجدرانُ والأعمدةُ والصور والظلال والأرائك تتداعى هي الأخرى.. وعلى بشرتي يملسُ نداؤه الذي من ذهب، فاقشعرُّ.. ويمرُّ أبي ولا أراه.. وتعظُمُ على الخرائب!
ـ quot; يا ملك quot;!


رفات الغيمة...

الأب الذي ـ بحصانه ـ تسلّقَ الجبل، جلس عند الشجرةِ الميتة في الشاهق، وبعينيه ويديه وجسده اللامع كحصاة..شوَّشَ الغيمةَ الماكثة تحت الشجرة .

في تلك الأثناء، شعرتِ الغيمةُ بالموت يكبر في بياضها الهيّن. بينما عينُه الواسعة والحية ـ الحصان الميت عن قليل، طبعتْ صورةً بارعة لموت الأب الفائق.

في الصالة الجديدة.. ثمةَ إطار عتيق معلّق دونما اكتراث، ولا أحد يعلم يقينا.. أن تلك الخطوطَ الغامضة، المحفوظة خلف زجاجه المُترَب.. إنما هي رفاتُ الغيمة!


معصية...

سنة.. إثر سنة، إثر سنة...
يعيد الكاهن موعظته على المخطئين الذين تجمهروا على باب الكنيسة المشتعلة على كاهل الجبل.
كان بمسوحه التي نسجت من خيوط ليال ثقال..
بصولجانه الذي من ذهب وعاج وصلاة عن كلمة بدأ بها الرب ولم ينته منها
كان صليبه الذي على صدره لامعا، مثل دمعة أرملة..
ومشوبا بدم معصية لم يعرفها أحد من المخطئين..
وكان صليبه الذي بزناره مهملا وكسيرا ومن خشب حائل،
أما صليبه الذي خلف ظهره.. ذلك الذي نفخ فيه الروح مارق من العبيد، وقتله الشماسون والقساوسة والأشابنة جميعا، وأراقوا على جسده نبيذا وترتيلة قاسية، قبل أن يتركوه لضواري الجبل، عاريا، إلا من دمه وألمه الأخير...
.. ذلك الصليب الذي صنعه العبد من حديد ورصاص ذائب، وأرخى عليه حية حتى تسربل بها، نفسه الصليب الذي كان يتأود ظله.. كلما ارتجفت روح الشمعة عند المذبح الذي طهره الرهابنة ثلاث ليال ثقيلة من دم العبد الذي نفخ الروح بالصليب وسربله بحية كانت تخرج من فمه.
المذبح الذي خلف ظهره،
هذا الكاهن
الذي ظل يعيد موعظته سنة إثر سنة إثر سنة...

ذكرى...

القتيل الذي تركته ملقىً في الشارع ذات غروب هو أنا.. ربما لا يشبهني تماماً.. ولكنه أنا على أيّة حال..
هذا ما سيقوله الشرطة حين يطرقون باب غرفتي المعلقة في أعلى البناية التي كنت أسكنها.
ليس مهماً أن تعرف من أكون.. هل يكفي أن تعلم أنني متُّ منذ زمنٍ بعيد.. متُّ حتى نسيتُ أنني ميت، لذلك أنا أعود إلى غرفتي القديمة.. ربّما لأتذكر فقط..
كانت لي قطة هنا.. أتذكر ذلك جيداً.. الآن لم يعد لي منها سوى المواء الذي لا ينفكّ يعبث بهدوء الليل حتى تختلط الأوراق في رأسي ؛ هذا المواء مشاكس مثل قطّتي، يقلب الأصص الفخارية المرصوفة في الشرفة، ويعبث بالستائر.. لم يبقَ في الأصص غير رائحة السماد الجاف وأعقاب سجائر الشرطة الذين فتشوا الغرفة بحثاً عني قبل أعوام طويلة.. عندما كانت الأصص ممتلئة بالأزهار.. الأزهار التي لم يبقَ منها سوى ظلّها الوردي الذي يتلألأ على أرواح الستائر كلما أشرقت الشمس..

غياب...

في ذلك الغروب اللزج..
كانت الأصابعُ لزجةً هي الأخرى ؛والهواء، والمصابيح الكابية، والضجيج.
في ذلك الوقت الذي لم أعد أتذكره على وجه اليقين ؛ خرجت أنا، ؛؛؛؛بينما رمقني بنظرة مرتابة، وبارتباك خرج هارباً من بين المحتشدين الذين تحلقوا بسرعة ومن دون ترتيب مسبق.
كانت السكين ما تزال في يدي، ملوثة بدم لزج، يقطر بطيئاً ـ أراه ـ على قدمي، كان فمي جافاً وقميصي مقدوداً.. وكانت أنفاسي مبهورة، وصوتي كما لو تراكم في قبو عميق.
.. بعسر شديد ارتفعت يدي الأخرى ومسّت الأحجية النابتة في صدري، كانت هذه سكينه التي غار نصلها بعيداً في قلبي، ولم يبق منها سوى هذا المقبض العاجي الجميل، عارياً، تلوثه خيوط قانية من دمي أظن hellip;
لم أميّز شيئاً بعدئذٍ، ولم يعلق في ذاكرتي غير صوت لا أدري صاحبه.. كان كلاماً له نبرة حزينة، أو هكذا بدا لي.. قبل أن ينفرط الحشد وتتلاشى دوّامته في عينيّ المندهشتين.
ولأكتفي أنا بعد ذلك، بهذا الغياب hellip;!

لوحة...

الريشةُ التي ريَّقها بشمسهِ
فأحرقت الفضاء المصفوف كما رخامةٍ،
أولدت فرساً، لم تستجب لليد.. وأغرتها ارتعاشتها بالصهيل
فعدت hellip;
وتمحلت الريشةُ وأفلتَ اللجامُ، ولم تسعها رخامة الفضاء
وانثلمت تحت حافرها ثلمة منه،
واتبعتها الرخامةُ..
ثلمةً
ثلمةً
وإذا بالفضاءِ يلتمعُ.. وييبسُ،
وتمرقُ الريشةُ بشمسها..
وتحترقُ اليدُ!


سوط...

تلوى وخطف،
وتلوى وخطف ثانيةً hellip;
لستُ أعجبُ منهُ إذ يتلوى ويخطفُ،
بل.. الجلدُ ينمحقُ
فأعجبُ،
ولستُ أسمعُ الصرخةَ.. بل أراها،
فأعجب ؛
وفي عينيَّ غلالةُ نومٍ، يفززها الدمُ
فتضربُ بجناحيها وتيأسُ عيني،
ويجمدُ فيها انمحاقٌ هينٌ، وصراخٌ..
أحسبُ أراهُ،
تحت لمستهِ يجري hellip;
وهو يفترُ بعد أن تلوى وخطفَ
وتلوى وخطفَ.. وتلوى وخطفَ
وكأنهُ كذلك إلى الأبد..!

من مجموعة بالعنوان نفسه لم تصدر في كتاب.