شيء يمور أجواء صيف خانق، ظهيرة قائضة،كتلة لهب في الأفق،تلهب الأرض و تنزل السماء.
السماء تدنو من الأرض، يلفهما غطاء رمادي ثقيل.
الجو كتلة أخرى تكبس على الأنفاس المتعبة.
السماء تفتي في شؤون الأرض و تحرقها عقابا.
الأرض، تتأفف و تنفث دخان عصيانها، معلقة بين الخطيئة و التوبة.
و الكل موزع بين..نار كائنة و جنة موعودة.
الشيء الذي يتحرك في ظهيرة صيفية متوهجة اخترق الطريق ببطء، يكركر أزيز محرك متعب و ينفث دخان نزقه في كتلة الرماد الكبيرة،..الطريق دائرة مرسومة في الفراغ.
ذلك الشيء، حمل في بطنه سراديب مخلوقات تائهة نظراتها في الفراغ، تشخص الأمام و الخلف و الجنب و التحت..
تحدق في امتداد مزارع مصفرة شاحبة، و أسقف بيوتات
ساكنة، تحدق في كل شيء..لكنها..
تبتلع الصمت و تجتر جنون الثورة..
..............................................
كر..كر..كر..
ـ أمي، متى سنصل؟
تضع الأم سبابتها على فمها و تشير لابنتها بالصمت.
تقرب البنت أذنها..
ـ ألف مرة قلت لك لا تتحدثي في سيارة الأجرة، عيب و ابوك لا يحب ذلك.
وشوشت لها بصعوبة و هي تكتم تردد أنفاسها داخل السيارة
قطبت البنت حاجبيها تعجبا، و تأففت.
اخترق السائق الصمت الثقيل:
ـ غدا يوم عطلة؟ أليس كذلك؟
مضى و قت قبل أن ينطق الرجل الذي بجانبه بكثير من التحامل على النفس:
ـ نعم، يوم عطلة.
يتعلق السائق بالجواب، كالغريق بقشة:
ـ عيد النصر، من سنوات لم نحتفل به، لماذا يعود هذا العام؟
تعمد الرجل هذه المرة أن يبدي ضيقه، فلم يرد.
تململ السائق بكثير من الحرج، حاول أن يسعل، لم يخرج من صدره شيء، كانت أنفاسا مضغوطة سلفا و معدة لمواقف كهذه، استنزف أنفاسه ثم راح ينشغل بالزجاج:
ـ اليوم قالوا في النشرة ان درجة الحرارة ستفوق المعدل الفصلي. تلخبطت كل الفصول و لم نعد نميز مناخنا،الله يستر، كل شيء تبدل..حتى الأعياد..
ألقاها بهدوء خشية ربما من ردة فعل الرجل..
يعود الصمت من جديد..
يحط لعنة الشرود في ما تحمله القلوب المثقلة.
أحلام، أوهام، حقائق، سراديب الحياة ضيقة، تغري بالدخول و تحيل الى الجحيم.
المرأة الجالسة في الخلف، تنشغل بتعديل الخمار الذي يخنقها، تنزع الدبوس ثم تعيده، تكتم تنهيدة، تمسح العرق المتصبب على جبينها، تدخل الشعرات المتمردة على سجنها،تفكر في تمردها هي أيضا على سجن آخر فرضته عليها قوانين طبيعة قاسية و شمس تلفح أحلامها منذ الطفولة و تخرسها إلى الأبد:
ـ كثرة السؤال تؤدي إلى الجهل..لا تسالي كثيرا،أطيعي،
أطيعي،اصبري و هل ينال الا الصابرون.
كوني عاقلة،اياك الجنون، الجنون من الشياطين و الشياطين من النار و الى النار و نحن من الطين و الى الجنة ,,كوني راغبة في الجنة،حليفة للطاعة،و لية للقوانين.
شمس الحق قيل لها دائما،..
النار تلفح جلدها و رائحة البنزين المحروق تصيبها بالغثيان
و صوت محرك السيارة يتكركر بداخلها، مناظر المساحات المصفرة الناضجة لليبوس،سكون الأبدية الذي يربض على الفضاء، العرق المالح الذي يسري مع كل جسمها..
حلمها ب..ماء زلال..
البنت، تنتفض من صمتها المفروض و تعلن العصيان:
ـ اوف امي، متى سنصل. قولي له يسرع أريد أن البس ثوبي الجديد
تهم الأم بنهرها لكنها تتذكر..
تتذكر عرقها و نارها و شمسها و طريقها..فلتزم الصمت
تبتسم فقط بمرارة.

............................................

الرجل الذي بمحاذاة السائق، لا يتحرك و لا يتكلم، لايمسح عرقا و لا يعدل جلسة و لا ينظر إلى الخلف، و لا إلى الأمام، عينه في فردتي حذائه فقط:
ـ الحر يقهر، يجعلني أفكر في تعرية كل جسدي، في سلخ جلدي، في حلق شعر رأسي، أحيانا أفكر في الهروب الى بلاد أخرى، لا تقترب شمسها من أرضها كل هذا القرب.
كثرة النور تعمي البصر و شدة الحب يسلخ الجلد، يسلخ الكيان..
ان تلتصق الشمس بالارض،حب و جنون، عناق كابس.
أحب الشمس و اكره حرها..
وهل الشمس الا كوكب يلتهب؟
يوما ما ستحرقنا جميعا و تفجر أرضنا حبا و تحيلنا كتلة سديمية،ستفتت الارض نجوما زائلة و تغيب.
و هذا الغبار الذي يعلق بفردتي الحذاء، يزعجني حد القرف
انحنى على حذائه و نزعه، قربه من عينيه جيدا، تشممه جيدا، مسحه بكمه، ثم اغمض عينيه و القى به من النافذة..
شهقت المراة..
ضحكت الطفلة..
تعجب السائق..
صاح الرجل:
ـ سأمشي حافيا، سأمشي حافيا.

[email protected]