تحملين المحفظة بيد وأنت تنزلين من السيارة.. بعد خطوتين يهجس بك خاطر ما، تعودين للتأكد من وجود quot;الروايةquot; داخل المحفظة، باليد الأخرى تحكمين الإغلاق وتغادرين.
الصبيحة نديّة باردة، ومكرّرة بتفاصيل معادة. السيارة تقف في نفس المكان، وأنت تقطعين الممر نفسه كل يوم تقريبا بنفس عدد الخطوات، وبنفس عدد الأماني..
على الناصية يرقد القلب كجزيرة متمردة، تسكنك وتمارس حكمها الذاتي بعيدا عن سائرك.
القلب يرقد هناك كمنارة للهداية، يعدّ الثواني والسّاعات ويؤشر ثم يمرر، ثم يتأملك بحنان‼
هذا المتمرد الحاني الذي ترفلين في شباكه منذ ثلاثين عاما، يسمعك وجيبه مع كل خطوة تخطينها وتبتسمين إذ يردد:
quot;كان لي قلب نسيته..quot;
ترددين: quot;ما حيلتي مع قلب نسيني أو نسيته؟quot;
تلجين المكتب، تقومين بنصف دورة كي تفتحي النافذة، فيقابلك جدار صامد يعلوه سياج تختفي وراءه شجرة جرداء‼ بخطوات أخرى تتجهين نحو المدفأة، تجسين نبضها بيدك فتدب فيها حرارة خفيفة.
الغرفة لا زالت باردة، أو لعلها النسمات المنبعثة من الخارج، رغم الجدار والسياج والشجرة.
الساعة المثبتة على الجدار متوقفة منذ أكثر من أسبوع وهي تشير إلى الخامسة والربع، ردّدت في نفسك:
quot;رواية 'الساعات' التي أقرأها هذه الأيام، توقفت فيها في الصفحة التي استغلق علي فيها الفهم‼ بينما رسخ بذهني مشهد quot;فرجينياquot; وجيوبها المعبأة بالحجارة، في أيّ مشهد من الرواية توقفت إذن؟
لا أذكر‼ فلقد انسحبت في صفحة بلا معالم، بلا حدث متميز بإمكانه العمل على شدّي.
لقد توقفت في محطة بلا بهارات، أو لعلها ساعة كجلّ الساعات بلا طعم.. ألانها خارج تلك التي يقتنصها القلب؟
ما الذي يلوّن لنا المحطّات؟ ما الذي يدوزن التفاصيل الصغيرة لنغم العمر، وكيف يهتدي القلب إلى اختيار ساعاته؟
منذ ثلاثين عاما أقرأ.. ولم ألتفت إلى قضية المحطات سوى الآن.
الآن فقط، حين أيقنت أنني أحوز على رصيد معتبر من الزمن المهدور، فله أن يرتسم أمامي كما شاء عبر محطات، أو عبر هلام أو سديم.. فقد أضحيت كمدان أثقلت كاهله فاتورة الأعباء وقولهم بإصرار:
quot;ادفع أولا ما عليك، ثمّ قدّم طعونكquot;‼
ها أنا أقدّم ما تبقى من العمر أطعن..
ساعة الجدار لا تعنيني، ألتفت إلى ساعة هاتفي: التاسعة والنصف، موعد اجتماع اليوم بعد ساعة بالضبط.
وهذه ساعة أخرى مما يتخطاه القلب، يكتفي فيها ببعض الامتعاض، ثم يخلد للصمت.
ألملم أوراقي.. أراجع بسرعة التقرير الذي أتقدم به هذا اليوم، أنادي على الكاتب الذي يأتيني مذكّراndash; بعد فوات الأوان- لا تنسي الاجتماع‼
وأقول له: ضع لي جدولا أوليا بالزيارات المستعجلة لهذا الأسبوع.
أحكم quot;خنقquot; المحفظة، أتذكر أن رواية quot;الساعاتquot; لا زالت تقبع إلى جانب أوراقي الأخرى، أجلس إلى المكتب من جديد، أسجل بمفكرتي ملاحظة أولى:
ضرورة إتمام قراءة الرواية بحر هذا الأسبوع. ثم أردفها بملاحظة أخرى:
ضرورة متابعة فتح المدرسة الجديدة ومتابعة أمر تأثيثها، بعد جلب قرار الإنشاء.. ثم قرار الفتح.
أشعر أنّ المفكرة لا تستوعب المزيد، أنادي مجدّدا على الكاتب، فيأخذ جملة من الملاحظات منها:
- ضرورة تعديل الخريطة المدرسية
- إعداد محاضر بأسماء التلاميذ المرّحلين
- استقدام مزيد من الطلبة
- مطالبة السلطات بتهيئة الساحة الخارجية للمؤسسة
- مطالبتهم ببناء الواقي من المطر
يحمل الكاتب بعض العبء عنّي دون أن ينسى دفتره ورؤوس أقلامه وقلمه، ويغادر إلى مكتبه.
وأنا أهمّ بالخروج أعود أدراجي لأنّ خاطرا يخص العمل أيضا عنّ لي، فأجده منكبا على خطوط العمل الأولى من خلال جهاز كمبيوتره، فاكتفي بالتسجيل عندي.
وأنفصل quot;عنيquot; وأوغل في البعد من خلال الحركة الدائبة والدائمة والراحلة والغريبة عني والمغتربة‼
وفي ومضة أخترق ثلث الساعة المتبقي لي على الاجتماع، وأمضي ثم أمضي وأمضي‼ وحين أعود أستدر عطف قلبي وأمنيّه بمعسول أمنيات.. فأقول له وأقول وأقول.
فيقول لي كشاعر: quot;يا ليل 'الحالم' متى غدهquot;؟
وأوقن أنّي أنام على رصيد وافر من الزمن المهدور، فتقلقني مسألة المحطات كثيرا. وحين أقرأ عن quot;فرجيينا وولفquot; أرتعب‼ فأرسل بلغة الإشارات هرما جميلا من الأيام المتّسعة والمتحررة من الأعباء وأودعها قلبي، أمنّيه بفجر جميل فيه نقرأ ونقرأ ونسافر ونتجول..
أهرب إلى السيارة من أعباء لا يجد لها القلب وسعا ولا طاقة،، أحكم إغلاق أبوابها عليّ وأستمتع بالنظر أماما، مستبدلة ساعة بساعة.