وقفنا ذلك المساء جهة تمثال quot;كريستوف كولومبوسquot;، كنا نبحلق فيه ونحن نأخذ صورا له، فيما هو يشير بسبابته، التي أطلقها في الهواء، في اتجاه العالم الجديد الذي يرسمه لنفسه. كانت الصورة تضفي طابعا وبعدا كونيا على quot;بلاسا كاطالونياquot;.
بين فينة وأخرى، كنا نلتفت إلى البحر، وإلى بهائه الناذر الذي قلما عشته واستمتعت به طوال سنين عديدة. لا أدري ما الذي أفعله الآن، أو أقوله لـquot;روسيوquot;.
البارحة، دعتنا quot;أليسياquot; للعشاء بـ quot;لاتيناسquot;، أجواء هذا المطعم لا تروقني، تخلق لدي قلقا حقيقيا وزائدا طالما أن quot;خواناquot; المستخدمة، تقوم بخدمة الزبناء هناك.
إنها تريد بي أن أتحول إلى عبد، يستجيب لنزواتها، لأوامرها. لا يمكنني فعل ذلك، والخضوع لمثل هاته العسكرية، سأقترف جريمة حقيقية إن فعلت ذلك، لا تهمني حياتها بالشكل الذي هي عليه الآن.
علي الذهاب إذن للعشاء، لا يمكنني أن أظل هكذا. حضوري العشاء سيمكنني من كسب ثقة quot;اليسياquot;، وحب quot;روسيوquot;. quot;أليسياquot; ابنة كهربائي القطار ذات أخلاق عالية.
المطعم يمتلأ عن آخره بالزبناء، لما كنا نمر بمحاذاته عند عودتنا من quot;البلاساquot;. لا أخفي أننا تبادلنا اللغة والعواطف وأحاسيس أخرى لم أشاهدها من قبل.
يبدو أن quot;روسيوquot; قد عادت إلى هدوئها بعض الشيء، لا لكوننا سنتقاسم سويا العشاء والأنخاب مع quot;أليساquot; فحسب، بل ربما إلى طبيعة إحساساتي الجديدة نحوها، الإحساسات التي اكتسبتها من quot;كولومبوسquot;، وأملتها علي أعمال quot;داليquot; السريالية، لما فرغنا من زيارة متحفه الذي يوجد خلف quot;البلاساquot; من جهة اليسار.
فسحة ذلك المساء كانت مثيرة وغنية بالحياة، لا أدري كيف تتوزعني، لا تتخطاني وأنا الآن أمتص من رحيق حروفها.
لا يسرني ذلك اليوم الذي تقاسمت فيه الطاولة مع quot;خواناquot;، وتعرفت إليها، يضطرني شيء من القساوة للتخلص من بقايا عواطفها العالقة بدواخلي.
أسعد بالجلوس إلى quot;أليسياquot;، quot;روسيوquot; تقابلني، كانت قد اقترحت لنا هاته الليلة سلاطة، وأرزا، وطابق سمك مشوي ومتنوع زجاجة نبيذ فاخر، لا أتذكر اسمه الآن.
العالم يختلف عني كما هو الحال عليه في وقت سابق، لا أعرف جوهري الآن، المهم أني أشعر بقلق خفيف، quot;خواناquot; تملأ المطعم بخفتها جيئة وذهابا. أفتقد القدرة على النظر إليها، تنقصني روحها، أريد أن أنغرس فيها بنوع من الحماقة، عساني أمسح عنها اهتمامها بي هذا.
لا أريد أن أصاب بلعنات quot;روسيوquot;، إنها تغار من العلاقة التي كانت قائمة بيننا، لازالت ماثلة أمامها، يؤلمها ذلك كلما جلست إلي.
أشعر بدوار في مخيلتي، أشرب كأسا ثانية، ثم ثالثة. آخذ لنفسي حذرا جراء ما يحدث من حولي. أحتفظ بهذا لنفسي، لا يمكنني أن أجهر به لأحد.
quot; أليسيا quot; أصرت أن تدفع الفاتورة، إنها تتصرف بنبل وأخلاق زائدة. كنت جائعا الشيء الكثير، لم أعد كذلك بعد أن ملأت جوفي بسمك مشوي لذيذ، وأنخاب ارتوى معها عطشي.
يجب أن أعود إلى البيت، هذا الأمر قد يقلق quot; روسيو quot; وبعدئذ لن أصبح ذلك الرجل المحبوب لدى قلبها. يجب علي إذن احترام شعورها، عواطفها لكي يلتئم جنوني بجنونها وحماقتها فتتزوجني.
لقد مضى على وجودي هنا في إسبانيا مدة طويلة، افتقدت معها أوراق الإقامة، زواجي من quot; روسيو quot; سيفك ارتباطي بهذا الارتباك الذي يتهددني ومستقبلي هنا.
شرطة quot; الموسوس quot; ضاعفوا هاته الأيام من حملاتهم ضد المهاجرين السريين. أعرف الكثير من الأصدقاء المغاربة والجزائريين قد تم ترحيلهم إلى موطن أصلهم. لقد ضاعت منهم تلك الابتسامة التي يحلمون بها وقد جاءوا من أجلها إلى هنا. سيعودون من دون شك مرة أخرى بعد أن يضيقوا بالفراغات وأجواء البطالة، واليأس الذي سيعيشونه هناك.
الصحافة الإسبانية المقربة من الحكومة مسؤولة عما يحدث وعن الشقاء الذي لحق بهؤلاء جراء الإبعاد.
كثيرا ما كان quot; بيدرو quot; يقول لي إن الحكومة المحلية من واجبها تسوية وضعية هؤلاء وإدماجهم في الحياة، لأن quot; كاطالونيا quot; تحتاج إلى دماء هؤلاء والاستفادة من سواعدهم. quot;بيدروquot; مناضل نقابي في quot;U.G.Tquot; ما برح يفتح أبواب بيته للمغاربة لمساعدتهم وتقديمه المزيد من الاستشارات كلما دعت الضرورة أحدهم إلى ذلك. إنه يحب المغاربة، يحلم بزيارة الشمال المغربي حيث كان والده يعمل مجندا في الخدمة العسكرية.
في الطريق إلى ملهى quot;شكارباquot; كنت أتتبع باهتمام شديد ما تسرده علينا quot;أليسياquot; من حكايات حبها مع quot;غارسياquot; الذي أتى من quot;كورونياquot;، بصراحة لقد كان يحبها إلى حد الجنون، وكلما وقع سوء تفاهم بينهما كان يفرط في الشراب، فتراه هائما في شارع quot;سانت أغناسيquot; وهو يغني أغاني quot;الفلامنكوquot; بصوته المبحوح دون أن يعبأ بالآخرين.
لما التقاني تلك المرة كان يجهش بالبكاء، كأنه بذلك يطلب مني أن أتوسل لـه مع quot;أليسياquot;، كان يسره ذلك. في كثير من المرات كنت أراه يرقد عند بوابة بيتها وأنا أمر في طريقي إلى المسرح البلدي لمشاهدة قطعة مسرحية. كنت أفهم آنذاك أنه ليس بخير مع quot;أليسياquot;، إنها تحبه إلى درجة الجنون، لكنها لا تقدر فيه عفوية تفاهته التي كثيرا ما تمنعها من الاستمرار معه.
قاص من المغرب
[email protected]
التعليقات