دعاهم الليلة الى البيت بشكل مفاجىء، وأصر أن يحضر جميعهم في الميعاد. لم يعتادوا على مثل هذه الدعوات المفاجئة، انتظروا حلول المساء بفارغ الصبر لمعرفة سر هذه الدعوة غير العادية. مع حلول المساء توافد الواحد تلو الآخر، وانتظروه في غرفة الاستقبال. أما هو فكان يجلس في غرفته طالباً عدم إزعاجه، ولم يكن أحد يعرف ماذا يفعل وبماذا يفكر، إلا أنهم شعروا بخطورة الموقف.
عندما إكتمل النصاب القانوني، دخل عليهم بخطوات بطيئة باردة، نظر إليهم واحداً واحداً وكأنه يودعهم، ثم دعاهم إلى تناول وجبة العشاء. جلسوا وهم يراقبون تصرفاته وحركاته، كلهم كانوا يتوقون الى معرفة سر ما يجري الآن وهنا. وكان يأكل بصمت وهو ساهم يفكر، كان حزيناً مطأطىء الرأس، حزنه أفقده حيويته التي إعتادوا عليها، لكن لم يتجرأ أحد على سؤاله عن سبب الدعوة أو الحزن أو التغيير. وقف بعد أن أنهى تناول الطعام وشرع في الحديث من دون مقدمات :quot; لا شك أنكم تنتظرون أن أتكلم لأخبركم سبب الدعوة. إسمعوا.. أنا أمّنت لكم مستقبلاً مضموناً وحياة رغيدة، لم تعرفوا معنى الشقاء والعمل الصعب. كنت أقرر وحدي وأنتم تتمتعون بنجاحاتي من دون أن تتحملوا نتائج أخطائي. والآن يؤسفني أن أقف هذا الموقف، بعد أن كنت دائماً الشخص القوي الذي طالما إحتجتم إليه. أقف اليوم لأخبركم بأمر خطير، صدمة ربما لم تتوقعوها، ولكن لا مهرب من قول الحقيقة quot;.
تصبب العرق من جميع الحاضرين، وبدا عليهم الخوف من المجهول. أما هو فتابع كلامه وكأنه جهاز محوسب يزودنا بالمعلومات دون إحساس أو مشاعر.
quot; الآن، أنا لست أنا، وأنتم لستم أنتم. يجب أن يحدث تغيير جذري في حياتنا... يجب أن تشمروا عن سواعدكم وتعملوا.. المصنع لم يعد قادراً على تأمين الحماية لنا.. المصنع..quot;، وهنا تحرك الإنسان في داخله فأجهش بالبكاء. لم يصدق أحد ما يشاهد وما يسمع، إنه يبكي، يجهش بالبكاء، إنه انسان مثلنا تماماً. ولكن لم يتجرأ أحد أن يسأله ماذا حصل للمصنع، لم يتجرأ أحد أن يتكلم، الصمت هو الذي سيطر على الموقف في تلك اللحظات. وقف فوقفوا، دخل الى غرفته دون أن يتكلم، أما هم فعادوا وجلسوا بصمت، لم يتكلموا، أخذ كل منهم يفكر بما قاله، وكأنهم لا يدرون ما حصل، أو بالأحرى أرادوا أن لا يعرفوا.
كان ذلك المساء بارداً. كانت الريح في الخارج تتوعد، لم يجرؤ أحد في الداخل أن يخرج لمواجهتها.
كان الهدوء داخل غرفته مخيفاً. كانت النار في داخلهم تلتهمهم، لكن لم يجرؤ أحدهم أن يدخل إليه للمواجهة.
وأخيراً نطق أحدهم، وهذه المرة كانت هي.. الأم، فقالت :quot; كنت أشعر دائماً أن هذا اليوم لا بد أن يأتي، كنت أنتظره، توقعته، إنه كان يعمل جاهداً لتأجيل قدومه، ولكنه لم يدرك جيّداً أنه لن يمنع قدومه quot;.
هذا كان أول خنجر يدخل في نعشه.
في صباح اليوم التالي إنتظروه لتناول الطعام، إلا أنه لم يخرج. نظر أحدهم الى الآخر على أمل أن يقوم أحدهم بالتطوع للدخول الى غرفته، لكن الرؤوس كانت تنزل الى الأسفل لإخفاء العيون من نظرات العيون الأخرى.
البنت الصغرى رفضت أن تلحق بربعها، دخلت الى غرفة الطعام، غابت برهة من الزمن وعادت تحمل صينية وضعت عليها ما تيسر من طعام واتجهت الى باب غرفته. الأعين تراقب حركاتها بصمت قاتل، وقفت أمام الباب، نظرت إليهم ثم الى الباب، قرعت الباب. إنتظرت، إنتظروا، فلم تسمع ولم يسمعوا رداً. لملمت كل ما لديها من شجاعة وفتحت الباب.. حاول الجميع أن يحبس أنفاسه لئلا يفقد سماع تنهيدة، همسة، أو أي صوت آخر مستحدث أو لم يسمعوه من قبل.
أغلقت الباب وغابت. إنتظروها. إنتظروها وانتظروها وانتظروها دون أن يبدي أحدهم إنتظاره لئلا يلحظ ذلك الآخرون.
نظرات تتجول في أنحاء المكان دون أن يصطدم بعضها ببعض، ومن دون أن تقول شيئاً. يبدو أن هذه العيون أتقنت جيداً فن الهروب الأزلي.
خرجت والخوف بعينيها تتأمل الحاضرين.. ثم غابت مرة أخرى في غرفة الطعام. لم يسألها أحد عمّا يحدث في الداخل، إنهم يستمرون في ممارسة لعبة الهروب الأزلي بواسطة أعينهم.
إنه في الداخل يتململ. أخذ يشعر بأن جسمه يتقلص. إنه يحاول أن يختفي ويجتهد في التقلص أكثر فأكثر لعله يتلاشى، أو يصبح غير مرئي ليرتاح من النظرات التي تطارده في خياله.
جسمه أصبح بحجم كفة اليد، إختفى رأسه ويداه، ورجلاه تحولتا الى أرجل صغيرة ورفيعة، وبدأت تنمو على ظهره مادة صلبة تماماً كالسلحفاة. وفجأة دخلت عليه ابنته الصغرى مرة أخرى، فأدخل جسمه داخل قوقعته الجديدة خجلاً وربماً خوفاً، لأنه لم يعد أباها، بل أصبح جسماً غريباً أقرب الى السلحفاة منه الى الإنسان.
ما أن رأته على هذه الحال حتى صرخت من الرعب، وحاولت الهرب من الغرفة، ولكنها تذكرت أن هذا الشيء هو والدها. فاقتربت منه رويداً رويداً، أمسكت به بإشمئزاز في البداية، ثم بحنان.
في الخارج استقبلوا الخبر بذهول مجبول بحيرة، فمن سيتابع المشوار ومن سيتحمل المسؤولية من بعده. والسؤال الأكبر ماذا سيجيبون السائلين عنه في العمل والعارف والأقارب. قرروا إغلاق البيت، إسدال الستائر، عدم الرد على الهاتف وقطع كل إتصال مع الخارج الى أن يتوصلوا لإيجاد حل لهذه الأزمة.
هل يحتاج هذا الجسم الغريب الى غذاء ؟ جميعهم حسموا الموقف بأنه لا يحتاج. أما البنت الصغرى فقالت بثورة غاضبة :quot;طلا إنه يحتاج.. إنه كائن حيquot;. دخلت إليه، حاولت أن تطعمه لكنها لم توفق قي ذلك، فلم تجد له فماً ولا حتى رأساً. بكت وبكت وبكت.. ثم وضعت الطعام الى جانبه وخرجت.
مرت الأيام والجسم الغريب لا يأكل، والباب مغلق والستائر مسدلة ولا يرد أحد على الهاتف. البنت الصغرى إستمرت في الدخول الى الغرفة، تضع الطعام، تبكي، وتخرج. لكن هذه المرة قررت أن تقول شيئاً، خرجت إليهم من دون أن تغلق الباب، نظرت إليهم واحداً واحداً ثم قالت :quot;إنه لا يتحركquot;.
الإبن الأكبر أصبح يخرج من البيت ليعمل، ولكنه كان يجيد إغلاق الباب جيداً عند خروجه. الستائر بقيت مسدلة، ولا أحد يرد على رنين الهاتف، إذا كان هنالك رنين.
الأم قلقة من بقاء الجسم داخل البيت. بقاؤه بسبب المشاكل ويبقيهم مدفونين في داخل هذا البيت، ولكن كيف تتخلص منه دون أن يثير شبهات الآخرين ؟
في صباح أحد الأيام، في الصباح الباكر، قبل خروج الناس الى أعمالهم، وقبل بزوغ الفجر، خرجت الأم من الغرفة تحمل كيساً وهي تنظر حولها بحذر، خرجت من البيت ثم عادت تعدو بفزع، إنتظرت الى جانب النافذة المحاذية للشارع.. توقفت شاحنة قرب عربة النفايات، خرج منها شخصان، أمسكا بعربة النفايات، ووضعا محتوياتها في داخل الشاحنة وانطلقت الشاحنة الى مكان آخر، بينما تنفست الأم الصعداء.. فتحت الباب ونوافذ البيت على مصاريعها وسمحت بالرد على الهاتف.
التعليقات