نهض الكلب الراقد منذ الصباح على الرصيف، وكأنه يفسح الطريق أمام سعاد، التي رقدت كفها الصغيرة في كف أبيها. تأملته بحنو طفولي.
لم تكن السيارات المنطلقة مهتمة لابالسابلة الذين يريدون عبور الشارع، ولا بسعاد أو أبيها.
كان المارة يتحركون في كل الاتجاهات، أما هي فقد كانت في طريقها إلى دنياها التي ترتبط بها بحبل سحري. كانت تشعر براحة كبيرة، فهاهي متجهة الخطى إلى قريتها (ينكجه)، التي كانت محفورة في ذاكرتها الصغيرة بتلالها المتلفعة بالأشجار الباسقة والبساط الأخضر الذي يمتد عليها مع إطلالة الربيع.
تبللت كفها الصغيرة بالعرق في كف أبيها، وهي تتقدم بهدوء معه نحو ضفاف عالمها المجهول.
لم يكن أحدا يعلم حجم الوحدة والحرمان الذي يعاني منه الرجل، أكثر من حصانه (بياز) الذي كان ينظر إليه بعينيه الواسعتين وكأنه يفهم لواعج نفسه، وكذلك الوسادة التي يضع عليها رأسه المتعب كل مساء.
كان قد ألف الوحدة وألفته بدورها. اعتبرها بمثابة قدره بعد وفاة زوجته الغالية. لم يكن يسليه في وحدته الممتدة من الصباح حتى المساء سوى إحساسه بوجود سعاد.
بعد وفاة أمها، أخذها إلى خالتها التي تسكن في محلة (بولاق) بكركوك.
كان يطل عليها بين فترة وأخرى، لكن زيارته هذه المرة كانت مختلفة تماما عن سابقاتها، وقد انتبهت خالتها إلى ذلك حينما طرق الباب هذا الصباح قائلا لها:
ـ أريد ان اخذ سعاد لتبقى عندي في (ينكجه) عدة أيام.
أحست المرأة ان ثمة أمرا غير عادي في أعماق الرجل، لم يفصح عنه. لكنها فضلت التزام الصمت، وفضلت ان تقنع نفسها بأنه والدها ومن حقه أن يشتاق إلى وحيدته.
أعدت صرة ملابسها ثم قبلتها من جبينها بحنو وتابعتها وهي تختفي مع والدها من الزقاق.
في غفلة من سعاد، كان ثمة صراع يدور في أعماق الرجل الذي كان يقودها إلى عزلته ووحدته وعالمه الموحش.
أصبح له فترة وهو يعيش بريقا ساطعا في عالمه، منذ فترة وثمة أحلام لزجة بدأت تطارده ليل نهار منذ أن وقع عينيه على بدرية الأرملة.
كانت قد تسللت بخلسة وقوة وبكل عريها المثير إلى صحراء حياته. كانت تشطر نومه دون إنصاف في أنصاف الليالي. يجلس على أثره أرقا حتى الصباح على فراشه وهو يلعن الشيطان.
لكن بدرية ما انفكت تتسلل إلى أحلامه ويقظته بإصرار، محتلة بذلك كل مساحات تفكيره وعواطفه بحيث بدأ يعجز أحيانا عن الذهاب إلى الحقل كل صباح كعادته.
كانت بدرية بحكم خبرتها كأرملة متمرسة على علم بالنار التي أضرمتها بمهارة في يقظة الرجل ومنامه، وفي ليله ونهاره، إلى أن أيقنت أن الطريدة قد وقعت في الكمين.
وجد عند قابلة القرية الحل الذي سينهي معاناته، ويبعد شيطان الشهوة والغواية عن حياته. قالت له:
ـ تزوجا يا بني على سنة الله ورسوله.
لكنها لم تهمل أن تتوقف وتنظر إليه بمكر وخبث وهي تضيف:
ـ ولكن كيف سيوافق أخوها عبدي الأمرد على هذا الأمر؟ فهو كما تفعل رجل صعب المراس وعنيد كالبغل!
تسابقت الأيام وتساقطت أوراقها من التقاويم ووجدت القابلة الحل:
ـ سينتهي هذا الأمر على خير لو زوجت سعاد من عبدي الأمرد.
أحس بإرادته مغلولة وبلسانه مشلولا.
كانت بدرية تقتحم بكامل عريها أحلامه وتحرمه هدوء النفس وراحة البال.
بدأ سحرها يحاصره من كل جانب ولم ير في النهاية إلا أن يرفع راية الاستسلام قائلا quot; سأذهب غدا وأحضرها من بيتها.. quot;
نظرا إليها بطرف عينيه إليها. من يدري متى سترى هذه الأزقة والشوارع والمارة مرة أخرى؟.
كانت ثمة تساؤلات تحتل مكانها في ذهنها الصغير، وهي تحاول اللحاق بأبيها. ترى كم طالت الأشجار في (ميل تبه)، وكم من سمك استضافته ساقية القرية منذ زيارتها الأخيرة للقرية وحتى الآن؟
نظر الرجل بطرف عينيه إلى الطرف الذي تقع فيه المجزرة (قصابخانه)، التي ينحر فيها يوميا عشرات الخراف. وقعت عيناه دون إرادة منه على قطيع من الخراف وهي في طريقها إلى الموت. التفت إليها. كان يعي انه انتزع وحيدته انتزاعا من مدرستها وطفولتها، شعر بنار تستعر وتشعل أعماقه، لكنه كان يتقدم بها إلى مصيرها المجهول، وكأنه مسحور لا قدرة له على التفكير.
كانت رائحة الشواء المتصاعدة من عربة بائع الكباب أكثر من أن تتحملها سعاد، التي همست بصوت خجول:
ـ بابا.. أريد كبابا.
نقطتها ببراءة، أحس بها وكأنها مطلبها الأخير قبل أن تخطو خطواتها في العالم الجديد الذي يسوقها إليه سوقا.
كان الرجل في داخل نفسه يعمل جاهدا أن يتحرر من أحلامه اللزجة، التي تطل منها دائما بدرية بعريها الكامل والمثير. كان السبيل الوحيد إلى ذلك أن يحتويها بين ذراعيه، وان يغطيهما لحاف واحد. أما سعاد!.. كان يريد التهرب من الواقع الذي يسوق إليه وحيدته الآن. لم يكن يريد حتى أن يتصورها مجرد تصور مع عبدي الأمرد.
سعاد حمل وديع، وعبدي ذئب مفترس.
عبدي نار، وسعاد ماءا رقراق.
عبدي ثعلب، ماكر وسعاد دجاجة بريئة.
كانت تلتهم الكباب الملفوف برغيف بنهم. كانت تبدو سعيدة وهي في طريقها إلى القرية.
ـ بابا.. أريد البقاء طويلا في القرية. لقد اشتقت إليها.
ـ حسنا.
قال لها بصوت خفيض لم يسمعه غيره. ثم أضاف:
ـ هل تريدين المزيد من الكباب؟
سألها كما يسئل محكوم بالإعدام عن آخر أمانيه. كانت تبدو إلى جانبه مثل سحابة بريئة، تسير بهدوء دون أن تعي شيئا.
لم تنته أمنياتها الصغيرة:
ـ بابا.. لنذهب إلى الكراج بعربة حصان.
وجدت نفسها بعد لحظة، داخل عربة مع أبيها، تصغي إلى صوت حوافر الحصان. مع كل خطوة من خطوات الحصان، كانت تقترب من عالمها الجديد.
تاك.. توك.. تاك.. توك..
الأشجار والمارة والسيارت تمر بسرعة من أمام ناظريها.
لم يكن أحدا يعلم ماذا سيواجه سعاد. لا الطيور ولا الحصان الذي كان يصهل بين حين وآخر، ولا باعة الشربت، أو الباعة الواقفين أمام دور السينما، أو الرواد الذين يغادرونها او الذين يستعدون للدخول إليها.
لم يكشف الرجل عن سره لا للتلال المتراصة، ولا لأشجار السرو التي كانت تلقي بظلالها بدلال عليها.
لكن سعاد سترى الحقيقة المرعبة حتما في يوم ما، بعينيين تملؤها الدهشة والرعب.

27 /3/ 2006 السابعة والربع مساء