تنفس الصعداء عندما انتهى من محاضرته التي أحس بها قبل الطلبة،الجالسين أمامه شبه يقظى، إنها مملة.
انطلق بخطوات سريعة نحو غرفته بلهفة، وكأنه ينطلق إلى عالم بعيد، مسدود الأبواب والفضاءات على العالم الذي يعيش فيه.
جلس متنفسا الصعداء. هذه الغرفة، هي عالمه هنا. لا بأس لا يزال أمامه ساعة واحدة على المحاضرة الثانية.
أحضرت له (باجي رابعة) قدحا من الشاي الأسود الذي يعدل الدماغ كما يقال، ويغسل منه أثر كؤوس الخمرة التي جرعها ليلة أمس.
سحب درج مكتبه، ليعود إلى قراءة مذكرات رفائيل آلبرتي (الغابة الضائعة).قرأ مرة أخرى كلمات الإهداء الراقدة فوق الصفحة الأولى من الكتاب:

quot; إلى نصرت.. رفائيل ألبرتي معك، وكذلك البحر والطفولة وشذى كركوك..
حمزة حمامجي أوغلو quot;

تذكر ملامح صديقه الطيب، صياد الكتب النادرة والقيمة، صديقه الذي يفضل الكتاب على الرغيف. كان قد بدأ بقراءة الكتاب منذ ليلة أمس، مسافرا بعيدا،إلى غرناطة وطليطلة ومدريد وبحر مالقا.
فجأة فتح الباب وأطل منه العميد بوجهه الخبيث،الذي يذكره دائما بوجه الثعلب الذي يحاول أن يصطاد ضحيته بمكر. كان قد اعتاد المرور على غرف الأساتذة على مدار الساعة ليتأكد من حضورهم وكأنه مدير مدرسة ابتدائية وليس عميد كلية.
ـ أظن عندك ساعة فراغ أستاذ..أليس كذلك؟
أقترب منه عدة خطوات. كان يريد أن يعرف اسم الكتب الذي يقرأه، إلا أنه توقف مكتفيا بسؤاله:
ـ أظن أنك تتهيأ للمحاضرة القادمة؟
ـ طبعا دكتور..لقد أردت استغلال الفراغ.
ـ جيد جيد أستاذ..
عاد أدراجه لتكملة جولته إلى غرف بقية التدريسين. انه على يقين أن العميد شعر بالخيبة لعدم معرفته عنوان الكتاب الذي كان يقرأه.
كان يحس بالوحدة وسط أميين، يمتلكون شهادة مصدقة بأنهم مثقفون. ألم يقل بالأمس القريب أحدهم له بعد أن رآه يحمل رواية (الحانة) لأميل زولا:
ـ أميل زولا !..عرفته انه كاتب لبناني..أليس كذلك؟
اكتفى بإيماءة من رأسه مع واحدة من ابتساماته النادرة.
ارتشف من الشاي وعاد إلى الكتاب ثانية.
كان قد حكم على نفسه بالعزلة، يجلس في غرفته مختليا بنفسه على العكس من زملائه الذين كانوا يتزاورون فيما بينهم في ساعات فراغهم، غارقين في أحاديث تافهة تدور حول الانتصارات المتلاحقة التي لا تنتهي ضد العدو الإيراني، أو دعوة مواليد العام الفلاني للخدمة في الجيش أو للتدريب في الجيش الشعبي.
كان يحس بأنه يعيش في عالم غير عالمه، يلقي محاضرات على عشرات الطلبة يوميا بآلية، حريصا في الوقت نفسه أن لا تصدر منه أية هفوة تجعله فريسة لوليمة الذئاب، لعلمه بوجود عيون للعميد في كل قاعة دراسية، تنقل له ما يتحدث به كل أستاذ وطريقة تعامله مع الطلبة وانطباعاتهم عنه.
فجأة فتح الباب. كان يتشاءم كثيرا من ذلك لأنه كان موقنا في قرارة نفسه دائما، بأنه لا يمكن لأحد أن يحمل إلى روحه الجريحة بشرى أو مفاجأة سعيدة. وكان على يقين ان زمن المسرات قد ولى بالنسبة إليه.
دخل الأستاذ حسين برفقة شخص آخر. نحيف، نصف أصلع، قصير القامة، بدأ ينظر إليه مبتسما منذ لحظة دخوله للغرفة. التفت إليه الأستاذ حسين قائلا:
ـ عيني هذا هو الأخ نصرت.
ثم غادر الغرفة وكأنه جندي أنهى المهمة الموكولة إليه. أما الزائر الغريب فقد سحب كرسيا بالقرب منه مبتسما لمدة بخبث، ثم ما لبث ان قال له:
ـ اسمي عباس.. طبعا أنت لا تعرفني، لكنني أعرفك حق المعرفة.
أحس بصفير رياح الشك في أعماقه المستفزة أصلا. أنه لا يتذكر هذا الزائر الغريب الذي يدعي أنه يعرف عنه كل شيء..بل لا يعرفه على الإطلاق.
خلال فترة الصمت التي لم تدم إلا ثوان قليلة، دخل في صراع مع نفسه،ترى هل قابله في احد النوادي عندما كان مخمورا وهو الآن لا يتذكره؟ ولو صحت هذه الفرضية، هل قد يكون قد أفضى إليه بجملة مفيدة أو غير مفيدة تضعه في دائرة الشبهات؟
لكنه تمالك نفسه وبدا رابط الجأش وهو يقول له:
ـ لا أظن يا أخ عباس إننا التقينا في أي مكان، فهذه هي المرة الأولى التي أراك فيها !
ضحك عباس بخبث، أشعل سيكارة قائلا:
ـ لكنني أعرفك حقا يابن كركوك ! .. قرأت كل قصصك المنشورة وغير المنشورة. قرأت جميع رسائلك ومنذ أن كنت طالبا في تركيا..
لم يكتف بذلك بل قال جملته الإضافية التي كانت كافية لإزالة المساحة القليلة المتبقية من تفاؤله أو هدوءه المصطنع:
ـ أخ نصرت اضبارتك عندي !
من هذا المخلوق الذي قلب نهاره رأسا على عقب في غمضة عين؟ من أين دخل إلى عالمه؟ رغم ذلك حدق في وجهه. كان مصمما أن يسأله السؤال الذي ظل يحلق في سماء سوداء بأعماقه:
ـ أخ عباس..عفوا هل بامكاني ان اعرف عملك حتى تكون اضبارتي عندك؟
ضحك عباس بقوة بينما كانت دخان السيكارة تخرج من فمه كقطع متناثرة من السحاب.
ـ لقد تعينت اليوم في الكلية.. ألم يقل الأستاذ حسين ذلك عندما قدمني إليك؟..ياله من حمار!
استغرب ان يصدر منه هذه الشتيمة، ولم يمض على مباشرته بالكلية إلا ساعات، تجاه الأستاذ حسين الذي يعمل المستحيل من اجل الوصول إلى درجة (رفيق حزبي) دون جدوى، مصطدما في كل مرة بحاجز كون جده السادس عشر من أصل أفغاني.
كان لا يزال يتحدث وهو ينظر إليه مبتسما:
ـ أستاذي العزيز..قبل حصولي على شهادة الماجستير،كنت أعمل موظفا في الرقابة العامة على المطبوعات. أقرأ جميع الكتب والمجلات التي تدخل القطر..
ثم انتابته حماسة مفاجئة:
ـ (وداعت هالشوارب)، لم يدخل العراق مجلة أو مطبوعة دون تقرير مني..وكلام في سرك..الكتب التي اكتب تقريرا بمنعها، كنت أحمل نسخا منها إلى مكتبتي..كما كنت مكلفا بفتح الرسائل المرسلة إلى القطر من تركيا وبالعكس ..وهكذا مرت علي جميع رسائلك التي كنت تكتبها إلى أهلك وأصدقائك أو إلى بعض المجلات..
اعتدل في جلسته ثم داس بحذائه على عقب سيكارته التي انتهى من تدخينها على الرغم من وجود منفضة للسكائر على مكتبه.
ثم واصل حديثه:
ـ كنت تذكر لأصدقائك بأنك لم تكتب شيئا ذي بال، رغم ان أعماقك تفيض بقصص وقصائد..هذه الجملة دفعتني للتعاطف معك وتلهفي على قراءة جميع رسائلك..وجدت فيها نوعا من التواضع الذي بات عملة نادرة في أيامنا.. أود أن أذكرك بعبارة كتبتها لحبيبتك، قرأتها قبل ان تصلها رسالتك إليها. قلت في إحدى هذه الرسائل quot; بحر إيجه، يقف أمامي يتيما بأسمال بالية لأنك لا تنتظريني على ضفافه quot;..لكن كان يحدث ورود جمل في رسائلك لو وقعت عليها عينا شخص غيري، كان حريا ان تخلق لك المتاعب..لكنك كنت محظوظا معي، رغم إنني لم أتوان بدوري من القيام بواجبي. فكم من طالب عاد إلى كركوك ولم يعد إلى مكان دراسته لقراءتي أمورا تبعث على شك في سطور رسائله..لا ادري كم شخص غابوا في غياهب السجون لإعطائهم صورة سيئة في رسائلهم عن قطرنا إلى أبنائهم او أصدقائهم في زمن الحصار الغادر، لكتابتهم عن الغلاء وارتفاع الأسعار، واختفاء الفواكه والخضراوات من الأسواق، وانتشار السوق السوداء..
جثمت غيمة حالكة السواد على وجهه، وأبت أن تغادره وهو يستمع فاغر الفاه إلى ضيفه الغريب.
ـ من اجل هذا يا عزيزي، قلت لك ان اضبارتك عندي، وتفاصيل مغامراتك التي كنت تكتب عنها لأصدقائك أحفظها عن ظهر قلب..لا أخفي عليك إنني خلال عملي كرقيب على المطبوعات والرسائل كنت معجبا بك، لذلك طلبت من الأستاذ حسين ان يعرفني بك، حينما علمت بأننا نعمل في نفس الكلية.
لم يجد إلا ان يردد له العبارة التقليدية التي تقال في مثل هذه المناسبات:
ـ أهلا وسهلا !
نهض أخيرا وهم بمغادرة بالمغادرة، لكنه التفت إليه. كان لا يزال يملك ما يقوله:
ـ بصراحة يا أستاذ، خيبت ظني. وجدتك قليل الكلام وكنت أظنك لبقا وخطيبا مفوها.. أعذرني لقد وجدتك انطوائيا أكثر مما كنت أتوقع.. على فكرة لقد قرأت حتى قصيدة الرثاء التي كتبتها عن الخائن أسعد، الذي نفذ به حكم الإعدام، أثناء محاولته الفرار من واجبه العسكري المقدس إلى تركيا..عرفت انك تقصده برثائك رغم عدم إفصاحك عن اسمه..
تجمدت أحاسيسه وحط غراب اسود على أغصان روحه،وبدا وكأنه مجرد تمثال لا حياة فيه.
أخيرا غادر غرفته،أسرع بإغلاق الباب بعد خروجه. كان يحب ان يبقي على الباب مغلقا. أحس بحاجة عنيفة إلى الصراخ بأعلى صوته. وجد صعوبة بالغة بل شللا حقيقيا في ذهنه في اعتبار ما رآه وسمعه اليوم مجرد صدفة.
أي صدفة في أن يقصده رقيب سابق بصفة مدرس ليحدثه عن حياته ويعرج إلى منعطفات فيها،بات هو لا يتذكرها، وان تكون عبارة من رسائله مخزونة في صدره؟
لم يدر ما الذي سينتظره على يد هذا الضيف الثقيل، الذي سيثقل حتما كاهله المثقل بالهموم والكآبات وجبال من الخوف والرعب؟
بقرار مفاجيء وضع (الغابة الضائعة) في حقيبته ثم انطلق بخطوات مسرعة خارجا من غرفته. شاهده عدد من طلبته الذين كانوا ينتظرون محاضرته قائلين:
ـ أستاذ لدينا محاضرة.
غمغم قائلا:
ـ لدي عمل هام وعاجل علي إنجازه، سنعوضها بمحاضرة إضافية فيما بعد.
صرخ أحد الطلبة مبشرا زملاءه:
ـ يا جماعة..ماكو محاضرة!

****

quot; ان كنت تتصور انك سترعبني،وتجعلني أسيرا للخوف والرعب فأنت واهم ومخطيء!..أريدك أن تعلم بأنني لست مهتما بك على الإطلاق. اضبارتي عندك؟ طز ومليون طز (بللها واشرب ماءها)!..ان كنت تظن انك بأسلوبك الخسيس ستجعلني دمية بين يديك، فأنت واهم!..أمثالك من الخفافيش اعتادوا على العيش في الظلام !.. لست خطيبا مفوها!.. افتخر بذلك فلا قدرة لي أن أقول للجبان: يا عنتر، ولا للبخيل: يا حاتم الطائي، ولا للفاسق: يا محي الدين العربي!..quot;
فجأة صمت عندما سمع صوت زوجته الساخط خلفه:
ـ إلى من تتحدث في المرآة في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
غادرت زوجته الصالة عائدة إلى النوم، بعد أن ألقت نظرة متذمرة على زجاجة الخمر التي كانت قد قاربت على الانتهاء.

الساعة الثامنة وعشر دقائق
من صباح 25/6/2006