تمايلا كذبالة شمعة، وقد طفت على وجهيهما غلالة وهج حارق، جعلتهما بلون التراب، إنهما في طريق العودة، يلوذان تحت الظلال القصيرة لمظلات الدكاكين البارزة إلى الأمام، هرباً من سياط شمس الظهيرة الموجعة، وأمام واجهة أحد المطاعم الزجاجية يتوقفان، مثل عجوزين، يسند أحدهما الآخر، ينظران إلى الداخل ويتهامسان، تدغدغهما نشوة الإحساس بفرح قديم، جعلتهما يمضغان ما طفحت به الموائد العامرة، تفغم أنفيهما رائحة شواء اللحم، التي شكّلت لديهما ذكرى حارقة للمعدة، أرجعتهما إلى آخر وليمة، دهنا بها جوفيهما، يجرجرهما حديث قديم إلى اكتشاف الذات عن طريق الفم! (لا يعرفان أين قرآ ذلك). كل ما حفظاه من قوانين ونظريات تساعد في بناء جبال الكلمات ركناه إلى جانب، أمام سرب الهواجس المكرورة في زوايا الدماغ، مما جعلهما يتشبثان أكثر بحافة الظل البارد وبرائحة الطعام.
كان أحدهما طويلاً، نحيفاً، له شكل ملعقة، بكتفين منحنيتين ووجه مجوّف، يتلف قدمهُ اليسرى عرج خفيف، يبدو أكثر وضوحاً في المشي السريع. أما الآخر فقصير القامة، له جسد معتدل ووجه مدوّر بلحية كثّة، لا يبرز منهُ سوى العينين.
-يحكى أنّ hellip;
قالها النحيف وسكت. أحسَّ بظل سحابة يُغطي عينيه، كأن شريطاً من رماد يلتف حوله، أخذ نفساً عميقاً، وهو يشعر بجسده ينتفخ ويتدحرج على الأرض، وصورٌ مشوشة تغزوه فجأة، أغمض عينيه واستسلم لدوار وطنين تفاقما في رأسهِ، بينما كان القصير صامتاً فاغراً فمه، جامداً لا تهزّه أية التفاتة أو حركة. وحين فتح عينيه، قاطعهُ القصير. ملتفتاً إليه بنصف استدارة من رأسهِ، الذي تحرك دون سائر أعضاء جسده الثابت قبالة المطعم. قائلاً بصوت فيه نبرة متوحشة، غاضبة، استغربها هو نفسه.
-لاشيء سوى الطعام والنوم. ويقولون علام تجف العقول.
-أنت محق.
أجابهُ النحيف بصوت هادئ، دخل دفعة واحدة في قارورة الأذن.
قادتهُ عيناه إلى رجل بدين، يفترس دجاجة مشوية، رافعاً يديه في تناوب إلى فمهِ، دائم الحركة. لابد إنهُ يبذل جهداً في استمرار ذات الحركة المتكررة في المضغ، قال في نفسهِ، ثم واصل نظره إلى الموجودات الأخرى التي بدت في اختلاط الإنارة المبهجة أكثر لمعاناً، الطاولات الصاج ذات الشراشف المطرّزة، الكراسي، الصور المعلّقة، الرفوف وقد صُفّت عليها المزهريات، كل الأشياء كانت تنعم بالنظافة والتكييف المركزي، بالإضافة إلى المراوح السقفية ذات الثريات المشعّة كعناقيد الذهب.
رفع رأسه إلى صديقهِ، وكأنّهُ يقارن بين حالتين، نظر إليه من الأسفل إلى الأعلى ثم بالعكس، مدققاً في الوجه المجوّف وبالكتفين الخاويتين، ثم في البطن المخسوف، وفي عينيه تساؤل كبير عن سر المجيء إلى الدنيا! مستسلماً بخدر إلى هواجسهِ، محترساً من التفسيرات، متذكّراً ما قرأهُ من كتب فلسفية وروايات، انفتحت أوراقها أمامُه فجأة، كضوء كشف ما تحت ناظريه، أعطى الأشياء صورها الحقيقية. ميّز بأسى وجه رفيقهِ، كأنّهُ أحد أبطال رواية دروب الجوع لجورج أمادو. متحركاً كذبالة شمعة، بطيئاً. والى جانبهِ بغال نحيفة مُتعبة، أرهقها سفر طويل، في مسيرة لا تشف عن بصيص أمل، يتحسس صُرر الطعام الفارغة وقُرَب الماء الجافة، بانتظار أن يموت أحد مرافقيه ليدفنهُ قبل أن تمزقهُ النسور.
-الإتكاء على جذع نخلة أهون من صعودها.
قال النحيف ذلك، وهو يسحق عقب سيجارة تحت قدمهِ، قاطعاً بذلك سلسلة أفكار زميلهِ الذي ردّ قائلاً :
-وإذا تحقّق ذلك، ثم ماذا ؟
-ترتاح وتنتظر من ينـزل إليك الرطب.
أخذت الأفكار تتراكم والكلمات تنفلت من فميهما، كأنهما في سباق اختبار المعلومات، تتشكل أمامهما دهاليز معتمة ضيّقة، ثم تأخذ بالاتساع كشوارع تربط مدناً بعيدة، وما أن يقول الأول جملة غامضة حتى يرفدهُ الثاني بأخرى أكثر غموضاً وتشكّكاً، مما جعل للحديث متعة مشتركة. أنستهما الوقوف أمام المطعم، الذي امتلأت صالته بزبائن جُدد واشتدت فيه الحركة. ثمّة سيارة أو اثنتان وقفت إلى جانب الرصيف، نزل منها رجال ونساء، يتبادلون الكلمات ويبتسمون، توجهوا مباشرة نحو البوابة الزجاجية التي أسرع العامل إلى فتحها مبتسماً، دخلوا يرافقهم حفيف الأثواب اللامعة وعبق من عطر، بعد أن دخلوا لم يكن ثمة شيء.
-كما لو إنّ قرناً مرّ على وقوفنا.
تفوّه القصير، بدفقات متقطعة، قاذفاً الكلمات بصعوبة من بين شفتيه، ورأى أن من المستحسن مغادرة المكان. بينما جمد النحيف بدورهِ كالصنم، دون تعليق شارد الذهن، ينفث دخان سيجارتهِ دوائر متداخلة، وليس على وجهه أي انفعال، سوى نظرة حيرى يغلفها أسىً كبير، تُشعرك وأنت ترنو إليه، كأنهُ على حافة الأرض و إنهُ سيهوي لا محالة.

* * *
مذ تركا (يطغيهما) في الخندق، لم يمكثا على أرض، رغم محاولاتهما العديدة في العثور على مأوى، ولم يندما على ساعات النوم والتسكع، بل بكيا حظهما العاثر، الذي جعل معادلة الحياة غير منتهية، برغم وجود القوانين وزحام الشعارات من حولهما، فإذا توغلت خيول الفكر سريعة في عمق التاريخ، ونبتت في الفراغ أشجار اللوز والفستق، وترنّحت الأجساد سكرى بفحوى الخيال، لابدّ سيصطدمان بذات الشيء الذي أبقاهما بلا مستقر ويقعان صريعين، بالرغم من انتشائهما ولفترة قصيرة، فتنطبع صورتاهما على إسفلت الشارع، يتحسران على اخضرار حدائق (المعقل) حيث كانا يستعدّان لأداء امتحان البكلوريا.ويلمّح أحدهما بكلمة أو اثنتين، ربما ستفي بسر وجودهما. يتنهدان لحظة، ثم يجيب الآخر :
-صحيح ما تقول. لكن ثم ماذا ؟
ومن جديد يطيب لهما النقاش، وهما يواصلان اختراق شارع (الوطني) الملتهب، في مشية متعثرة تحفّها أمواج الهواء الساخن، وظنون مغلّفة بوعيد، توغل في نفسيهما حجّة دائمة لتسويغ ما ضاع من السنين، التي امتلأت فراغاتها نظريات في التحليل الاجتماعي والفلسفي hellip; ويتذكران، (في هذا الشارع بالذات، الذي طالما شجعهما على دنوّ الأماني المؤجلة. كانت لهما مغامرات وجولات حافلة). لكن، وكنثار مُبدد لما تبقّى من العدّ التنازلي لوجودهما، يشعران بتيه كبير وخطوات ضائعة في التجاوز. خيال طيف ليس له أثر. صحيح أن غيوم آمالهما ممطرة دائماً، مطراً لا ينضب، قطراتهُ سيل جارف، يكشف عمّا لا يتوقعانه، وترتفع في الفضاء هالة من طمأنينة كبرى، لكن اللوذ بالصمت المستديم والمزدان بالوعود، هو ما يجعل جريان السيل نحو الهاوية، فتصبح كل الخيارات محض افتراض أو ذكرى، تجفّ كل البقع والواحات المتبقية من غيث السنين الأولى، تنهار الأفكار وتتذبذب، كرغوة صابون شفيف سرعان ما تتحول إلى فقاعات صغيرة، ترتفع في الفضاء ثم تنفجر. بالضبط مثل خطواتهما الآن، وهما يزحفان نحو ميدان يمثل تقاطع أربعة طرق، انتصب وسطه تمثال ضخم لأسد بابل، أبيض اللون كقطعة سحاب متخثرة، على قاعدة خرسانية مغلّفة بالمرمر الأسود، ثبتت وسط حوض مدوّر، بدا مثل طبق مسطّح من زجاج يلمع في ضوء أشعة الشمس، تطوّقه نافورات صغيرة، تطلق مياهها إلى الأعلى بسرعة تعادل سرعة نزولهِ ثانية إلى الحوض. وقد ظلّلتهُ أشجار جوز هند عملاقة وأشجار كالبتوس، تعامدت بمحاذاة سور الحديد الواطئ، الملتفّ حول الميدان، انتشرت على قممها مصابيح زينة متعددة الألوان، كثمار ناضجة، وغلفت جذوعها شرائط ورق فسفوري ملوّنة. وفيما هما يجتازان السور بقفزة سريعة، انتبها إلى وجود رجلين بالزي الرسمي، منهمكين بالعمل، وسط فوضى الأشياء، ولعدم اهتمام الرجلين بهما، اتجها مباشرة وجلسا على حافة حوض النافورة البارد، ينعمان بظلال الأشجار المتداخلة وبرذاذ الماء المتطاير.
وعبر تشابك الأغصان، تراءت لهما السماء، بقعاً من صبغة زرقاء، بعيدة، متجانسة، فتحت أمامهما أبواباً من زجاج، تأمّلاها بفيض من وعي تام، لا يشغلهما شاغل، مثل حلم طفولة بريء، أو دوافع رغبة تجتاح النفس.
-يحكى أنّ..
قال النحيف، بصوت خفيض لا يكاد يسمع، ثم ما لبث أن فتح فاه مرة أخرى، لكن من دون صوت هذه المرة. إذ قاطعهُ القصير قائلا :
-دعك من انتفاخ الأوردة، واقتناص المفردات. أبق كما أنت، فالجلوس إلى جنب العظمة أفضل ما نفعلهُ hellip;
أخذت نافورات الماء تندفع بقوة، عالياً، صوت خريرها يعانق مكبرات الصوت العامرة بالأغاني والأناشيد. يختلط مع أبواق السيارات، وضجيج جموع الناس الغفيرة التي ملأت المكان على حين غفلة.
وفيما كانا من مكانهما يرنوان ولا يدريان كم أمضيا من وقت، كانت شمس العصر المنعكسة على سطح الحوض ترتجف ذهبية، تلم بين آونة وأخرى شتات ضوئها المضطرب، بعد كل تعرّج يحدثـهُ سقوط ورقة يابسة من أوراق أشجار الكالبتوس الضخمة hellip;

[email protected]