قصة قصيرة للكاتب توم وايت كلاود
ترجمة زعيم الطائي
انها ليست قصة، وانما هي اغنية او صلاة تجاه الطبيعة والكون، تكتنفها لوعة الأنتماء وحرقة الحنين، لكاتب هندي أحمر هو توم وايت كلاود، أي (الغيمة البيضاء).، عاش الكاتب فترة في تجمعات المخيمات الهنديةالمحظورة، ودرس الطب متخصصا في معالجة الأدمان في ولاية نيو مكسيكو، حصل على جائزة مجلة (سكربنرز)عن مجمل أعماله الأدبية، كتب هذه القصة عن ذكرياته مع شعبه في المخيم الهندي. توفي عام 1972. مرة اخرى انها درس في كتابة القصة القصيرة. وقداس في حضور الطبيعة وتمجيد الإنسان.(المترجم)
خارجاً لمحت القمر مطلاً هذا المساء، قمر ونجوم وسحب تتوشح بالنور، إلا أن ريحاً
عاتية بدأت داخل قلبي بالهبوب، ومنذ ذلك الوقت والى الأبد، ، سأبات مشغوفا بمرأى منظرالسماء، وقد ثبتت على أديمها اسراب الأوز متخذة طريقها صوب الجنوب، تنشد الوصول الى بيوتها. الآن وانا احاول انهاء دروسي، اشاهدهن يتطايرن فوق الصفحات متجهات جنوبا، عائدات نحو الوطن.
عبر الوادي، هناك، جبال شاهقة تبدو وكأنها قد تشبثت بسماء الليل، الى الأسفل منها يقع ذلك البيت، البيت الذي يغمره السلام، ولا يسمع بين جنباته سوى نقر الطبول، بينما الرياح الزرقاء تتراقص من حوله فوق حقول الثلج، في ذلك الكوخ الهندي الذي يمتلئ بالناس، ستهبط جميع الالهة لكي تجلس مابينهم، حيث ينبغي لي ان اكون، يجب علي الوصول الى ذلك البيت.
ولكن بيتي بعيد في الجبال، وانا هنا في هذا المكان، حيث الخريف يختبئ بين ثنايا الوديان، والشتاء يأبى النزول من بين القمم..هنا حيث الشجر ينمو في اصطفاف، والنخل ينتصب متصلبا على جوانب الطرق، وشجيرات البرتقال تتخذ شكل أجمات صغيرة وتمتد في طوابير مرتبة كأنها جيوش. وفاكهة الأجاص الحلوة بلا حدود، نعم، كلها تعيش في نظام تراتبي، كل الأشياء هنا تنمو في صفوف جميلة، لكنه جمال رهن الأعتقال، هناك حيث اشجار الصنوبر، وهي تقاتل من اجل وجودها ريح الروابي، لفي نظري هي الأكثر جمالاً.
في بلدي (وسكونسن) يتغير لون الأوراق قبل مقدم الثلج، ويفوح شذى أرز البراري مع لحم الغزال المطبوخ عاليا في الهواء. وحينما تقبل الرياح نسمع لحفيفها همساً بين الأحراش، تجيئ حاملة معها رائحة الورق الذابل وقت المساء.حيث(التم) تتنادى في عزلتها، والطيور تغني آخر اغنياتها قبل الرحيل. الدببة تحفر في العروق وتأكل بقايا أثمار العليق المتأخرة، تسمن نفسها استعداداً للسبات الشتوي القادم الطويل. لاحقا حينما يشرع الثلج الأول بالنزول، يصحو المرء صباحا لكي يجد العالم قد أصبح اكثر بياضا وفتنة ونقاءً، وإن بأمكانه الألتفات لرؤية آثار أقدامه، تتبعه، في الغابة المليئة بخطوات الأيائل وأرجل الأرانب المتجلدة، وهي تتقافز فتترك طبعات أقدامها الناحلة فوق الثلج الرخو، وقد انعكست مسحة من الضياء على السلاسل المرتفعة. كما يمكن بسهولة سماع اصوات السناجب المنشغلة بين الثقوب في تنضيد ماغنمته من غلال.
وبينما تغتسل الشواطيء بمويجات البحيرة الناعمة، تتفجر شمس الغروب مساء كل يوم فوق البحيرات فتبدو أسطحها و كأنها تشتعل بالنيران.
تلك الأرض بلادي، جميلة، تنعم بالهدوء، حيث لاعجلة بالذهاب الى اي مكان، لاقيادة من اجل سباق لاينتهي وبلا هدف، لاصفوف مدرسية فيها رجال يتكلمون ويتكلمون ثم يتوقفون الآن او بعد حين لسماع كلماتهم تستعاد بأفواه الطلبة، لاثبات على مايبدو من مظهره مضطربا ً، لاريب او شكوك،
، لاقلق على تحصيل الدرجات او مراتب الشرف، لاهستيريا او خشية حول الحياة مالم تصل الى مايقارب منتصفها، لالهفة لكي يجد الفرد مكانا في ذلك الشيء الذي يدعونه المجتمع.
ها انني استمع ثانية الى رنين ضربات الفؤوس في عمق السهوب، وقرقعة الجليد تحت الأقدام، اشعر مرة اخرى بتلك الهفهفة الحريرية لأرواح غابات اشجار البتولا، استمع الى ايقاع
قرع الطبول .... انا، متعب، انهكتني محاولاتي للأحتفاظ بأكذوبة الوجود الحضاري
، الوجود الحضاري، ذلك الذي يعني محاولة فعل كل شيئ لاتحب ان تفعله، ومنعك من اي شيئ تحب فعله، يعني الرقص بخيوط الأثواب لابالأثواب، يعني المكوث في البيت دون التعرف الى جارك او الأهتمام بشأنه، حضارة الرجال البيض هذه تريدنا ان نصير مثلهم، غير مرضية دائما، تعطيك السهول حين تطلب المرتفعات.
بعد ذلك، ربما لم اكن قد تعبت بعد، ربما كنت متسرعا، ربما لم اكن ذكيا بما فيه الكفاية لأدراك تلك الأشياء التي تجعل مني متحضراً. ربما كنت كسولا جدا حتى انني لم افكر بعمق في الأحتفاظ بمزاياها،
اعرف. ان شعبي مازال يمتلك الكثير من ذلك الذي انتزعته الحضارة البيضاء، انهم يعرفون كيف يمنحون، كيف يقتسمون قطعة من اللحم الى نصفين يوزعونها بين الأخوة، و يعرفون الأغاني، فلكل واحد اغنيتة التي يغنيها للجميع، لديهم ألحانهم التي تجعلهم في غنى عن سماع رجل آخر يغني لهم عبر الراديو، يعرفون صناعة الأشياء بأيديهم، كيف ينضمون حبات عقد او مسبحة واشياء جميلة من قطعة لحاء يابسة.
.ولكننا نعتبر في مستوى أدنى، مزعج ان تشعر دوماً انك بمنزلة واطئة، بينما تقرأ تقريرا صحفيا أو اختبارا في الذكاء، فتتعرف الى ان اصولك ذات جذور ثانوية، لاأهمية لها، بل مضجر هو الجلوس على مقاعد الدرس لتسمع احدهم يخبرك ان شعبك لايزال ابلها يقدم فروض الايمان لأعواد خشبية، وان كل آلهتك باطلة، لأن (الروح الأعظم) قد نسي أمتك ولم يكتب لها كتاباً.
أنا متعب، اشتاق ثانية للتمشي بين الأرواح الهائمة لشجر البتولا، اشتهي رؤية الأوراق مغيرة ألوانها فصل الخريف، الدخان المتصاعد فوق الخيام المنزلية، والشعور بالريح المزرقة، أود الاستماع الى صو ت الطبول، اريد سماع طبل والأحساس بهمسات الريح ذات الزرقة.
كان هنالك قطار يصفر في الليل، عابرا سلاسل الجبال، من الممكن التملص من دفع الأجرة والتمسك بمقابض العربات، سيقولون انه يريد العودة ليتدثر في اغطيته، لايهمني ذلك. الكل ينشغلون بالرقص فترة أعياد الميلاد.
ادركت شلة من المتشردين يتدفؤؤن بنار ضئيلة، يخوضون نقاشا حامياً في السياسة، ونسوة يتضاحكن متحدثات وهن منهمكات في تدخين السجائر. هؤلاء الرجال بقبعاتهم ومعاطفهم الواقية وبدلات العمل الملوثة يعيشون خارج نطاق لبوس الحضارة، لهذا تراهم يدفعون الثمن، فبقوا منبوذين، اتذكر محاضرات بروفيسور علم السلوك في درس التحولات الأجتماعية، يقول يبقى الأفاقون وبنات الهوى والمجرمين خارج الأطر المجتمعية فلا يشملهم التحول في كل الأحوال، اعتقد انه سيتعلم الكثير لو أتى للعيش بين هذه العصبة المشردة واستمع الى ماينطقون به من احاديث، سيتعلم حقيقة تلك النسوة وتلك الأعمال وأمكنتهن، حينها سيرفع قبعته عاليا لأرادات البشر العاديين.لا يملك الا ان يتصرف هكذا، لكنه لن يستطيع اقناع احد بما يفعله، فلن يمكنه الأستغناء
يوما عن الراديو او العربات وتغيير بدلاته كل ربيع، سيتوقف التطور ان لم يطلب هذه الأشياء. سأصغي ان كان ثمة تطرق في المحادثات الى الأشتراكية او الشيوع بين هؤلاء الناس الذين صنعوا غابتهم، لم اسمع شيئا الا نوعا من الكلام الفلسفي حول الحياة وقد بدوا وكأنهم يفكرون بأفضلية توزيع الثروات، او توفير فرص عمل ارحب، وأشياء عديدة، دون سعي منهم لأجلها، كم هي حياة المدن متطرفة.
وجدت رفيق درب متوجها الى مدينة (ألبوكركي)، سنمضي الوقت معا في أحاديث
الطرق، (عربات نقل الفاكهة متعبة، رغم ان المشردين يرتاحون فيها، افضل انتظار عربة مواش ٍ وجهتها أواسط الغرب، نستقلها حين ذاك)، غذذنا السير بمحاذاة خط الحدود الشرقي صعداً حتى صادفتنا أخيرا واحدة تنقل الماشية، عقصنا انفسنا داخلها حاشرين جسدينا الى الجانب متزاحمين، يراودنا النعاس، حينها امتلأت نفسي بالطمأنينة والرضى، فها أنذا أخيرا عائد الى بيتي. عربة الماشية تأخذ بالأهتزاز، يغلبني النوم.
الصباح والصحراء، الظهيرة وبحر(سالتون)، انتزعت الحياة من السراب تحت الشمس الطاعنة المعلقة في شحوب السماء، حيث تظهر الهياكل الجبلية عند خط الأفق، شاقة الأراضي المتصحرة، كل صخرة وظل وحافة، صحراء، تصلح موطنا جيدا ومخيما لشعب الهنود.
(كولارادو)- اليومانية- الموحلة، وهاهو الليل يأتي ثانية، وانا اترقب فيها مرتجفا طلوع الفجر،
(فيونكس) وبيماكونتري، التي تبدو جبالها كأوراق المقوى وضعت على منصة مسرح منسي، (تاكسون) وأرياف (باباجو)، حيث الصبار العملاق ينمو على طول الطريق السريع، كسورحجري متقطع . يممنا شطر ارياف (ميسا) وحالما وصلنا (ألباسو) قرر رفيق رحلتي ان يتوجه نحو (هيوستن)، فتركته وأنحدرت شمالا سالكا دروب أرياف
(ميسا) و(لاسكروس) ومرتفعات (أورجان)الشاسعة، ذات الحافات الناتئة التي تثير الدهشة والهلع في النفوس، ماراً بألبوكركي عابرا (بيبلوس) و(ريو جرانده)، على طول الطريق لمحت نساء ً هنديات يرتدين الساشي الملون، يبعن قطعا من الآنية المفخورة، كأنما يهيئ العصر الحجري للقرن العشرين فنونه، يمسكن قطعهن وينظرن الى السياح بأرتباك بعيونهن السوداوية حتى يقرر السائح الشراء او المغادرة، اشعرني ذلك بالغيظ، لماذا على مواطني ان يفعلوا ذلك لكي يحصلوا على لقمتهم ؟.
قطار (سانتافي) شديد السرعة، وقد حافظوا على نظافته بمنع المشردين من الدنو منه، قررت الأسراع للحاق بعربة الفحم الذي يحرق كوقود، خبأت نفسي في الظلام، مقدرا سرعته وقت المغادرة، اندفع اولا، ثم توقف فجأة، فاحتضنت يدي العارضة الحديدية الباردة في مقدمة باب العربة، وانا افكر بزئير النار في الماكنة أمامي، وركاب عربة الطعام الذين اعطوني ظهورهم، وانشغلوا بتصفح الجرائد عبر اكواب القهوة الدافئة، الى الأسفل كنت ألمح خطوط السكة التي بدت مشوشة في نظري، يكمن في ثناياها الموت في أية لحظة تتخلى فيها يدي عن القبضة بفعل البرد القارس ومصير السقوط تحت العجلات، عبر القطار سلاسل(سنجر دي كرستو)ومنحدرات
(كانيون) وصولاً الى (دنفر)، البرد شديد هنا، وعلي مراقبة عطفة دنفر حيث اعجل بالقفز عند الأبطاءة حين بلوغها، للمواصلة في قطار الحمولات الثاني، لايتقبل المتشردين ايضا، فقدته هو الآخر، صار البرد يشتد، اعتقد انني وصلت مشارف (سيوس كونتري) من جهة الشمال.
المدينة الصغيرة اشعلت انوارها احتفاء بأعياد الميلاد الآتية، ماراً باحد الشوارع صادفت فلاحا غمر شريط من الضوء كتفيه وهو يحدق عبر واجهة نافذة مليئة بشرائح الشواء المحمصة وقد التمعت هي الأخرى بالضياء، كان طويلا ً يرتدي قميصا أزرق مزررًا دون ربطة عنق، وزوجته تقف الى جواره تنظر اليه بنشوة وأمل، ينوي شراء
شماعات صغيرة، كديكور مخصص لتعليق القبعة، سيدخل ذلك في قلبها مزيدا من السرور.
يممت شطر الشمال مرة اخرى، (منيسوتا) مساحات بيضاء شاسعة من الثلوج، بحيرات متجمدة، حيث الفجر يسلم نهاره للغسق دون المرور بفترة الظهيرة،
غابات هائلة تتوشح بالبياض، فقط ليلة واحدة وستلوح لي فيوض النور الشمالية،
صرت الآن أكثر قربا من منزلي.
دخلت (وودراف) مع منتصف الليل، فتملكني ارتباك مفاجئ، حالياً انا على مبعدة عشرين ميلا من البيت، خائف مالذي سيبادرني به والدي ؟ خائف كيف سينظر لي قومي نظرتهم لغريب ؟أجلس امام النيران، وافكر بنفسي وبالشباب الهنود الآخرين، فنحن لانبدوا متلائمين مع كل الأمكنة، لامع الناس البيض، ولا مع الذين يكبروننا في الأعمار
، افكر تارة أخرى بمدرس الاجتماع واطروحاته، فتتوضح امامي اشياء كثيرة، الآن انا بعيد عن المدرسة، ولست مباليا بأفكار الناس حول اعتقاداتي، خواطري تسترسل بيسر مع اشتعال ألسنة اللهب.
أقبل الصبح، شغلت بقية اليوم بالتنظيف، وشراء بعض الهدايا لعائلتي بما تبقى لي من نقود، ليس الكثير، ولكن الهدية هي الهدية، حتى لو اشتراها المرء بآخر ربع دولار يملكه، انتظرت حلول الظلام، بعد ذلك غذذت الخطى شطر المنزل.
أقبل العيد تصحبه ريح الشمال، وتعلقت الغيوم المحملة بالثلوج فوق الصنوبر، ومع الليل المبكر، رحت اقطع الطريق المحاذي لخط السكة، وقد ملأني منظر الثلوج المتاخمة لخط الغابات بالطمأنينة والهدوء على كلا الجانبين. متمهلا، عدت بذهني الى العالم في حقبة لم يعن فيها الزمن شيئا، ها أنذا لوحدي من جديد، ليست تلك الوحدة التي كنت اعانيها لو عدت الى المدرسة، فليس وحيدا من يعشق الثلج والصنوبر، لن يكون الفرد وحيدا حينما ترتدي اشجار الصنوبر وشاحها الابيض، ويتكسر الثلج في قرقعة باردة تحت القدمين. وفي عمق الغابة ستكون هناك حتما آثار لأرنب او غزال، ساصادفها لو ابتعدت مسافة عن خط السكة، أمشي يملؤني الحبور، لأن ارجلي خفيفة، واقدامي تبدوا وكأنها تعرفت الطريق، تقافز بجانبي أحد الأيائل، فرأيت صورته مغبشة وهو منتصب في وقفته قرب السكة الشمالية، ربما كان يقف مرحبا بمقدمي، لذلك فأنا مسرور انني لم اكن احمل سلاحا، لكنه سرعان ماأختفى في الغابة، تاركا آثاره الصغيرة فقط فوق الثلج، حثثت السيرقدما، فولجت حقلا ابيض تحت ليل السماء، لاحت لي بضعة بيوت عند نهايته القصية، فشاهدت خيوط الدخان تتصاعد من فوهات المداخن، حدست نوع الأخشاب المحروقة من رائحة ادخنتها، بعضهم احرق خشب الصنوبر والآخر الحور وآخرين أحرقوا التمراق، كان بينها خيط اسود لفحم مشتعل يرتفع بين الأدخنة المتصاعدة ويغيب متكاسلاً فوق اعالي الشجر، احب مراقبة البيوت في محاولة تصور مالذي يقع داخلها. تسللت كما يتسلل ضوء الثلج عابراً حدود البيوت، بعبارة اخرى كأنني انغرزت في عالم آخر، تجلت اعماق الغابة وهي تغوص في ظلمة وبياض ليل الشتاء.اجرجر اقدامي الواهنة مودعاً تلك القرية.
كان خط السكة الذي أقف عليه آتيا من المدينة الرابضة جوار مياه البحيرة، المدينة التي يتجول فيها مايقارب المليون من البشر لاينظر احدهم الى الآخر، المدينة التي امتصت الحياة الريفية فيما حولها، المدينة بحوانيتها وأسواقها وشرطتها، ثقافتها وجرائمها، سينماتها وشقق بيوتها، المدينة بسياساتها ومكتباتها وحدائق الحيوان فيها.
لاأكتم فرحي، انا ماض ٍ الى الغابات، حالما عبرت البحيرة المتجمدة تناهى الى سمعي قرع الطبول، ناعم وقعها أثناء الليل، كأنها خفقات قلب العالم، ترتبط نهايات البحيرة البيضاء بالأجمات المعتمة، حيث كانت الرياح الزرقاء ترقص هناك في الأعالي، فوق أغصان الشجر.
أثناء عبوري صف البيوت التي تقع عند اطراف القرية، بيوت بسيطة أشبه بصناديق
او لطخات مظلمة حفرت وسط الليل، لمحت واحدة اوأثنتين من النوافذ ارسلت اضواء قناديلها الفاترة فوق الدرب المثلج، العيد هنا أيضا، لكنه لايعني لديهم الكثير، ليس كثيرا من ناحية الهدايا او الحفلات، (جو سكاي) سوف يسكر، وسيشتري (اليكس باديداش)قفازات حمر لأطفاله مع زلاقات، اليكس يشتغل سائقا، وقد عمل مابوسعه لكي يبعد بيته عن أنموذج حياة البيض، ذلك ان قومي كلما حاولوا الأبتعاد عن طريقة العيش تلك سقطوا في الذهاب لتقليدها أكثر، مما جر عليهم الويل بالنتيجة، كانوا يريدون جرنا الى تقليدهم، لم نحسن من تقليد اعرافهم غيرتلك التي تنتمي للرذيلة والفجور.
لاتبدو قريتي قد غرست فيها روح المكابرة، لايبعث ذلك في نفسي الخجل، لايجب ان يخجل المرء من قومه ان كانت لديهم احلامهم، الشبيهة ببياض الثلج الزاهي فوق اشجار الصنوبر الشامخة.
ابي واخي وشقيقتي كانوا جالسين الى المنضدة حين دخلت، نظر ابي محدقا لدقيقة، هرعت الى ذراعيه، اجهشت بالبكاء على كتفه، اعطيتهم الهدايا التي ابتعتها، وضاقت حنجرتي حينما لمحت اختي وهي تحتفظ بجزة الخيوط الحمر بين اغراضها، أخفيت مشاعري نحو اخي الذي ضرب كتفي بشدة وهو يصافحني، نظر ابي الي، علمت ان لديه اسئلة عديدة، لكنه بدا وكأنه عرف سبب مجيئي، طلب مني ان أسبقه الى الخيمة الكبيرة منفردا، وسوف يتبعني.
غادرت قاطعاً الدرب صوب الخيمة، راقبت في طريقي الأضواء الشمالية التي تشكلت وسط السماء، مويجات متقطعة تتلامظ مع ايقاعات الطبول، استمعت الى تكسر الجليد النظيف أسفل قدمي، والريح الطرية وهي تتأوه بين الشجر، كأنها تغني، كل شيء بدا وكأنه يسرني :كن سعيدا، انت الآن في بيتك، طليقا، بين رفاقك، كلنا أصدقاؤك ؛نحن، شجرا وجليدا وأنواراً، تبعت الخطى نحو الخيمة، اكاد اطير، قلبي يغني مع الموسيقى، أرفع رأسي في علو، عبر حقول الثلج، كانت الرياح الزرقاء ترقص.
قبل بلوغي باب الخيمة تريثت، خشية ان لازال القوم يتذكرونني، تساءلت مع نفسي، أهندي انا ام أبيض ؟ توقفت أمام الباب طويلا، فسمعت أنين البحيرة المتجمدة التي ذكرتني بقصة المرأة العجوز تحت الجليد، تحاول الخلاص، مجازية عشاقها الهاربين، فكرت :لو كنت من البيض لما صدقت تلك الحكاية، لو كنت هنديا، فسأعرف ان امرأة مسنة هناك مطمورة تحت الجليد. أصغيت برهة، فعرفت ان امرأة مدفونة حتما في ذلك المكان، تطلعت لمجرى الضوء من جديد، ثم دلفت.
داخل الخيمة كان جمع غفير من الهنود، بعضهم اتخذ مجلسه على المصاطب لصق الجدار الدائري، وراح البعض الآخر يؤدي رقصاته حول الطبل الذي يتوسط أرضية السرادق، لم يعرني احد انتباهه، كما لوانني بين أناس لم أرهم من قبل، كانت هناك أمرأة سمينة بشعر طويل، يقعي اطفالها على ركبهم محدقين بأهتمام بعيونهم السوداء في حركات الراقصين، تلك الوجوه الصغيرة التفت بالسكينة والخشوع، وجوه الشيوخ خاشعة هي الأخرى، وعيونهم المتألقة يكتنفها الفرح، أنظر اليهم مباشرة، ببنطلوناتهم الداكنة وصداريهم المخملية المخرزة، يرتدون أحذية موكاسن سوداء بلاكعوب، ورؤوسهم تتمايل مع الموسيقى.
ترى هل أحببتهم يوماً ؟ استمروا في الرقص، يرفعون أقدامهم مع وقع الطبل مترنحين
بخفة، انظر حولي، ألمح عيونهم، فيتملكني ولع مباغت وقد أخذني وقع اللحن.
توقف الرقص، عاد الرجال الى جدرانهم، يتحدثون الى بعضهم بأصوات واطئة مستعملين أشارات الأيدي، كانت مناقشاتهم بالغة القصر، كأنما كل منهم يشارك الجمع أسراره، المرأة أمعنت النظر بالصبي دون ان تنبس بشفة، عاد مسرعا وأقعى الى جوارها، غريب، سرعان مافكرت متذكرا، هؤلاء الناس لايتشاركون بالكلمات، وانما يشتركون بالطبائع، وقد غمرت قلوبهم السعادة، يبدو غريبا على البيض ادراك ان العديد من الناس يمكنهم العيش سوية دون ان يتحاوروا، سعادة هؤلاء الهنود بوجودهم المشترك، وبجمال الليل البعيد والموسيقى التي أحبوها، احاول جاهدا نسيان المدرسة والناس البيض، لكي أكون واحدا من ابناء شعبي، احاول نسيان كل شيئ ماعدا الليل،
وجزء من احساسي هو كوني جزءاً من قومي الذين يشكلون باجمعهم جزءا من الكون،
أراقب العيون، فأرى الآن بوضوح، هؤلاء الرجال الكبار، كانوا يكلمونني بأعينهم طوال الوقت،
ويحنون اجسادهم قليلاً بشكل غير محسوس، وقد ارتسمت على اعينهم البسمة، أنظر حولي في المكان، كل العيون صديقة، وكلها تضاحكني، لاأحد يستفسر عن وجودي بينهم.
بدأت الطبول قرعها من جديد، تلقفت الدعوة بعيون الرجال الكهول، بدأت أرجلي التنقل مع الأيقاع، وأنا انظربسعادة الى الليل خارجا خلف الجدران، ألمح أنبلاج الضياء، شيئ جميل ... انا في بيتي الآن.
الولايات المتحدة
[email protected]
التعليقات