فرش أوراقه على الطاولة، وأقام قلمه، ومد يده من أجل إشباع رغبته في الكتابة، ترجى أن يحصل على القصة التي من أجلها جلس إلى الطاولة بالرغم من أن الفترة الأخيرة أغرق نفسه بالتفكير أن يكتب شيئا جديدا، وهو بحاجة للكتابة التي تستبد به، وتجذبه في حيرة وارتباك. مشهد موجع وحزين الذي يحدث في وطنه المنفى، فحاله اليوم يختلف عن أي يوم آخر، أنه في حالة الجزع يليق به الألم، لم يكسب منه خطوة من خطواته سوى توبيخ الذات، شئ عجيب، المرء يولد، وينشأ، ويتحول، ماذا يبصر على الورق، وعلى قلمه المنزلق بالكتابة؟! أثار ذلك دهشته، ووقع في التشوش، فليحاول تغير أسلوبه في الكتابة: أشرعة بيضاء منشورة فوق الأمواج، حوريات البحر فرحات، بشعور سوداء منفوشة مع الريح، يغنن أغاني سامية، محبوبات منذ القدم، يحتفلن، ويسيطرن على البحر الغائم، الممتد، المستبد بالأشرعة المجتثة المخيفة بتمزقها كذوائب شعلة منطفئة. أن القاص يهزأ من إله البحر، فرأى السفن كيف تسبح، كيف تزحف كأنها خرجت من العدم، يا للأسف، تحطمت السفن، من يحمي البحارة؟! حوريات البحر لم يردن الظهور، وخشين الأضرار، لم يكن لطيفات، ناصعات البياض، وهن مليئات بالشوق لحماية البحارة، إلا أنهن متعطشات إلى غيرهم، إلى ما لم يستطع البحار الوصول إليه، لم يظهرن مثل النجوم الصغيرة التي تنشر الضياء، مشهد موجع حزين، ظهر ثعبان عملاق هاجم البحارة، وانقض عليهم، وقد أخفق البحارة أن يفلتوا منه، فكان يطوق واحدا تلو الآخر، فيستميت هذا في صراع دون جدوى، فيعصره الثعبان، ويغرس أنيابه في جسده، ويرميه إلى أعماق المياه، موت زائف، ينتقص من قيمة وعظمة، ومجد الإنسان، ومن شهرة أبطاله، ومن خرافة قديمة، أينما اختبأ يلاحقه الثعبان، وتتجسد آلام الاعتصار، ووخز اللدغات، فيبث الرعب في روح القاص، أن هذا المشهد يعذب الضحية، المغلوب على أمرها، وهي لم ترتكب إثما يذكر، حاول أ يصب فيضا من الضوء على الضحية، كأن يجعل البحار يمسك شعلة نار على شكل سيف معقوف، وغير شكل البحارة، وحجب توتر عظلات الوجه، و الأذرع، وكل لحظات الجهد الإنساني المضني والمعذب في المقاومة المستميتة، وسمات الألم المبرح التي ينطق بها وجه القاص، حجب أشياء كثيرة، واستطاع أن يرى عن قرب المجهود في شكل المقاومة الهائلة النبيلة، فالقاص يعرف الحكمة الدنيوية، لم يتراء له هذا من قبل، إلتواءات خائرة حيث دم البحار في يديه، وهو يقاوم بيديه، ورجليه، اضطراب، وحركة، وصراع، لا تعوزه الصفات الروحية، تدثره، وتعبر عنها في المهارات العينية التي لها جسد، هذا المحك الذي يجلو قدرته أن يجسده في القصة الغافلة عن جوانب الظلم والعدالة، في قضية إنسانية كمصير البحارة كأنه عقاب في رشاقة الكلمات، وأناقة الإيماءات كي يرضي نوازعه من شغف بالمعنى، والشك في قيم الحياة الخيرة، وفضائلها، ها هو ذا موجود، يبدو له من ناحية أخرى أن ثمة رؤيا، لتطيل التفكير، والتدبير، وقد ابتدأ من البحر، أن هناك ألوان يحاول أن يحرر ذاته من إسار القيود التي تصفده، انفعالات تمور داخل وجدانه الغريب في الكلمات التي بسطها على الورق، شاء إضاءتها من ظلمة شديدة، البحر يبتلع السفن والبحارة، هذا كان مقصده، تلك الحالة التي تجول الإنسان الواعي بكنه الحقائق الغائبة عن بصائره، فتنكشف له على غرار ما تنبثق عنه ومضات الأحلام المنسية معنى أدق يزداد ارتباطا بالحياة، ويتكامل ارتباطا بالحياة، ارتباط تسمو على ما يعهده، ويتقرب إلى الحقيقة، هناك تشويه أجراه عن قصد في القصة بوصفه حيلة الارتفاع بمستوى الكلمات عن مستوى نظر القارئ حتى تبدو القصة في أعينهم شامخة أ فأبرق الرعد فوق البحر، وأنزلت السحب مطرها، والأمواج تتدفق تلو الأمواج، فطوح بالسفن، وابتلعتها الأعماق، هزيمة مخيفة، ماردة، عظيمة، هذا في أعلى وفي أسفل يتغير، ويتبدل كل شئ، ثعبان وقتل، توحش، وهزيمة من براثن الحرائق، وهذا التفسير سبب في نعته البعض له بالجنون إلى الحيلة البعيدة عن الواقع، كما ذهب البعض الآخر إلى إصابة عينيه باختلال في الرؤيا، ناجم عن عدم تساوي العين في الاتجاهات العمودية والأفقية، حرمه من تحديد صورة القصة في بعدها الأسطوري الساحر، الشيء غير المرئي في كل الاتجاهات، وولع بالزخرفة، لمجرد زخرفة واحتدام، هذا الولع على مر الأيام كيف انتهى إلى اعتبار الشكل الآدمي نفسه عنصرا خياليا زخرفيا شديد الجاذبية، على أن قد قدم إلى جواز كلمات نمطية متخيلة مبتكرة عناصر أخرى جديرة بالتقدير كرشاقة الصور، فهنا وحش آخر في جوف البحر كأنه معلق بين السماء وسطح المياه، بفكين فاغرين، وهناك حورية البحر مقيدة بالأغلال إلى صخرة تقع على شاطئ البحر، هلعة، عارية، تغشيها الأغلال، والظلال، مستترة من فكي الوحش، لذلك تطلب من القاص أن يعلق على هذه المرحلة بمهارة، وتنوع، وأكثر إقناعا، وجهد على التكيف مع الزمن الماضي في مضمون الشكل وشكل المضمون، يهتدي إلى الحاضر بحكمة الماضي، يستقي لغة القصة بما تلمعه العين التي يراد بها أن تنفذ إلى أعماق النفس البشرية، فللبحر لون أزرق، فوقه غيوم بنية تنذر بالعاصفة، وكلما انفصل القاص بالكتابة يرى أن السكون الظاهر واللون الغائم، والتكوين الصارم وتتابع الإيقاعات المتوازية في موضوع المصدر أن الحورية عارية الانطباع بصلابة التجسيم رغم بساطته، ونقاوته، فالعينان تشدهان إذ يستعصي عليه أن يسبر أغوار النور المنطلق منهما، فينأى عن إبراز الخوف الذي لا شك هي تكابده أمام فكي الوحش الفاغرين المتأهبين لالتهامهما، والقاص يسكب في جسدها البض اختلاجات من النشوة في عينيها حتى تبدو غريبة، وقد حاول أن يعير نفسه ضوء القمر، والظلال، وقبلات الحب يستدفئ بها، ويشيد عالمه القصصي، رحيما بنفسه، محتفظا بها لنفسه، راقدا رأسه على الطاولة بين ذراعيه، وهو يدرك لابد أن ينفصل عن أسرار البحر بلطف الذي يموج، ويصخب في ذهنه، وإنه لم يشعر من قبل بما يشعره اليوم أن يوثب من البحر باضطراب، ويمضي بحزن، ويمضي، فالحورية تضئ خلال الألم، وتتألق على الرغم إنه من صنع خياله، تلمع بإصرار، وصفاء، وتمضي، تمضي بوثبات في البحر hellip;إنها صورة القاص في متاهته.