قراءة تحليلية في اسطورة الاصل ومساحات الصمت

بعد نشر كتابه الاول (مابعد برشت ) درس الدكتور خالد الامين الاستاذ في جامعة تطوان في المغرب، الجذور الحقيقة والمؤثرة للمتخيل المسرحي في كتابين صدرا بالعربية وهما(الفن المسرحي واسطورة الاصل) و(مساحات الصمت ـ غواية المابينية في المتخيل المسرحي ). ولأهميتهما ساحاول ان اقرأ افكار الباحث التي لابد ان ان تخلق وعيا متطورا في المسرح العربي عموما لانها تتناول اهم مشاكل المسرح العربي والعالمي بوعي شمولي. فهو دائما يخرج في بحوثه ـ سواء في تحليله او ربطه للظواهر الثقافية والمسرحية

د. خالد الأمين
يما بينهما ـ من دائرة الانطباع الساذج عن العمل الفني( كما اعتاد الكثير من النقاد والباحثين )، الى التحليل الاكاديمي للظاهرة مما يؤدي الى اعتبار النقد او البحث نصا ابداعيا وليس شرحا يرتكز على الافكار المكرورة.
وبالرغم من ان ثقافة د. خالد الامين انجلوسكسونية، إلا انه كباحث يتميز ايضا بموقفه الانتقائي وحساسيته النقدية المؤثرة ذات البعد الشمولي في التحليل لانه يمتهن نقدا مغايرا على مستوى الكتابة عن المسرح من منطلق الوعي التنظيري البنائي الذي يتمثل كما يقول د. حسن المنيعي في مقدمته (بتحقيق جدلية بين المادة المدروسة والبعد الحضاري والتاريخي والسياسي ).
ومن خلال الاختيار المنهجي الواضح الملامح، عالج الباحث قضايا فنية جوهرية توزعت على الجوانب المهمة التالية: ـ بحوث تتناول هيمنة مركزية الغرب على الثقافة الفنية، وتحديد الهوية الثقافية، والعلاقة بين الهوية والغيرية أي الانا بالاخر، في محاولة للخروج من هذه الهيمنة.
ـ اضافة الى انه تناول اشكالية مهمة في المسرح العربي وهي علاقته بالمركزية الغربية مما يدفعنا للتشكيك بجميع المفاهيم والاسس التي بني عليه المسرح العربي. ولأجل تحقيق هذا يعمد الباحث الى تحليل ارتكازات النظريات التي تعتمد على اسطورة الاصل.
ـ وكذلك بحوث اخرى تعالج جنيالوجيا مفهوم التمثيل اعتمادا على ارسطو، ومن هذا المنطلق فان الباحث عالج التمثيل باعتباره حضورا واسطورة للاصل مما ادى به ان يتعمق بجينالوجيا مفهوم التمثيل منذ ارسطو حتى الوقت الحاضر ومن ثم كيفية تجاوز النموذج المسرحي المطلق على اعتبار ان المسرح الارسطي هو ليس المسرح الوحيد، وايضا من خلال ذلك التلاحم الحذر( خوفا من عدم االتهميش الابداعي والتجريبي ) بين اكتشافات الغرب المسرحية وبين اسس الفرجة في الثقافة الشرقية التي مازالت تمتلك حيويتها في الثقافة الشعبية.
والباحث في هذا الصدد يدعو الى فضاءآت الهجنةباعتبارها فرجة وحلقة يمكن للمشاهد المغربي والعربي ان يجلس فيها ليمارس طقوس الفرجة مع ممثليه، واثارة الاسئلة الجوهرية التي تحدد وتؤثر على مستقبل المسرح المغربي ـ العربي ملتحما مع انجازات المسرح الغربي.
وقد تناول الباحث قضيتين غاية في الاهمية هما :
ـ الفرجة بين المسرح ـوالانثربولوجيا
ـوالمسرح والصورة الفوتغرافية.
مع التاكيد على ان المسرح هو تاريخ العرض المسرحي وليس تاريخ تطور النص المسرحي.

يتميز المسرح عادة بالعرض الدائم من خلال الزمن الاحتفالي، فالخاصية الرئيسية في مثل هذا الاحتفال وكل احتفال تكمن بتكرار ايقاعي خاص quot; يسمو فوق صيرورة الزمان quot;وكأنه الايقاع الكوني (ففي الزمان الاحتفالي ما يعود هو اللحظة المتسامية ) وهذا هو الجوهر، فالمسرح هو اعادة اللحظات المتسامية في الحدث والزمان والتاريخ والاسطورة والذات المتعددة في الذات الواحدة او تلك التي هي ذائما متعددة في لاوعيها.
فالباحث في كتابه ( الفن المسرحي واسطورة الاصل ) ربط المسرح بجذوره الفلسفية مما يمنح التمثيل بعدا لايكمن في المحاكاة التي تبدو وكانها تقليدا للحقيقة وانما هي اكتشاف حقيقة جديدة، وبهذا فان المؤلف استند الى اكثر النظريات المعاصرة تقبلا وتاثيرا في الفكر الانساني المعاصر.
ان موسوعية فكر الباحث تجعله يعتمد مفاهيم فلسفية وجمالية معاصرة و مرجعيات لها علاقة بفلسفة الاختلاف والتفكيك والتحليل النفسي. وحتى يستطيع الباحث ان يبرر منهجه الفكري وان يزرع بذرة الشك في المفاهيم الساكنة في معاصرتنا، فانه كشف ومنذ البداية عن جوهر حقيقي للمسرح استنادا على ارسطو الذي يعتبر المحاكاة متجذرة بعمق في المعرفة الانسانية، وهذا يؤكد غريزة الذات في الابداع، وان تعميق وغنى دلائل الاشكال وتاويلها يجذر ويوسع افق الخيال البشري. بعكس افلاطون الذي يحط من شان الكتابة والتشكيل والشعر ويدعوها( بالمحاكاة الزائفة والمشوهة للحقيقة). اذن الكتابة اصبحت تمثيلا للكلام والفن اصبح تمثيلا للحقيقة.
ان الشرخ الذي كشفه افلاطون يكمن في كون المحاكاة تشكل خطرا على الحقيقة بل خطرا على النظام بمعنى ان الفنان المحاكي يخلخل ( بنية السلطة التراتيبية )التي تستند على بنية المدينة، ولهذا اعتبر التمثيل من وجهة نظر افلاطون فعلا يشكل خطورة على النظام الرمزي والمادي وسيادة المدينة بمفهومها الاغريقي القديم.وبالتاكيد فان افكار ارسطو وافلاطون اصبح لها بعد ذلك تاثيرها الكبير على المذهب الكلاسيكي والطبيعي والكلاسيكية الجديدة، لكن نيتشه وماركس وفرويد فرضوا مبدأ الشك في كل شئ.
ويواصل د. خالد تفكيك مفاهيم ومقولات ارسطو وافلاطون وحتى دريدا بعد ذلك، فيما يخص المحاكاة والتمثيل باعتباره فعلا للحضور وكذلك الحقيقةوتشبيه الحقيقة ليخلص الى تاكيد كون (( المحاكاة هي ظلا للاشباح مثل تلك الصور المنظورة في العتمة على جدار الكهف )بالرغم من دفاع ارسطو عن المحاكاة باعتبارها طاقة متجذرة في الطبيعة، واعادة تملكها من لدن الطبيعة الانسانية يكشف الشرخ الحاصل بين الممثل (بفتح الثاء ) والممثل (بكسرها ) بما هما عالمان متميزان.)).

وبما ان الهدف هو البحث في جينالوجيا التمثيل فان المؤلف استنادا الى مفاهيم معاصرة استطاع ان يكشف تلك الثوابت التي اكدت المركزية الغربية من خلال تشخيص مكانة التمثيل في علم الجمال الغربي باعتباره محاكاة وتقليد، وبالتاكيد ومن اجل رفض هذه الثوابت المركزية يحتاج الامر الى فضاء جديد يتحرك فيه المسرح اعتمادا على ان فنان المحاكاة لايقلد المخلوقات والاشياء والطبيعة وانما يعيد خلقها وانتاجها، وهذا حتم اولا التخلص من ( التصور المحاكاتي والجماليات الارسطية ) كما دعى لهذا انتونين ارتو الذي اكد على اعتبار ان التمثيل هو انتاجية والنص الدرامي والعرض باعتبارهما لغة خاصة مستقلة عن الكتابة الادبية، وهذا يحتم انتاجا لفضاء ابداعي اكثر منه تكرارا لحضور فعل واقعي، على اعتبار ان المسرح هو الحياة بذاتها لانها لايمكن ان تمثل، بل احيانا ان المسرح اكثر مصداقية من الحياة، لذا فان المسرح لايتبع الواقع او المخطوط الادبي المنقول عن الواقع.
ان هاجس د. خالد الحقيقي في بحوثه هو التاكيد على ان الفرجة هي ذات بعد ابداعي ايضا و ترتبط بانثربولوجيا غنية ومعبرة كما في موضوعة ( الفرجة والانثربولوجيا )، وكذلك البحث عن آفاق جديدة لمستقبل المسرح عندما يكتب عن المسرح والصورة الفوتغرافية التي طرحهما في كتابه ( مساحات الصمت ـ غواية المابينية في المتخيل المسرحي ). ولاهميتهما ساحاول ان القي الضوء عليهما تفصيليا.

الفرجة المسرحية والانثربولوجيا

Performativity يؤكد د. خالد في موضوع ( الفرجة والانثربولوجيا ) على ان الفرجة المسرحيةالتي بدأ صداها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي يمكن اعتبارها وسيلة للتفاعل والتعليق على التجربة الثقافية عموما وليس فقط كوسيلة تعبيرية يتواصل من خلالها الجمهور او ( هي شكل تمثيلي يحاكي حضورا معينا )، اضافة الىاعتبار الفرجة شكلا فنيا واجتماعيا ايضا مادام المجتمع في الكثير من سلوكياته مبني على الفرجة التي تتميز بخصائص طقوسية وجمالية، فهي لاتعتمد على نص ما فقط، وانما ايضا حدث في الماضي اعيد صياغته من جديد استخداما لوسائل اكثر غنى تعبيري كالحركة التعبيرية والرقص والبانتوميم واللغة الادبية وكل انواع الدراما، فتتشكل علاقة خاصة وتوهج وجداني بين صانع الفرجة ومشاهدها. وبما ان الفرجة مرتبطة بالانثروبولوجيا في المسرح عادة، وهذا مااثبته يوجين باربا وايضا ما جاء في افكار واعمال الروسي فيزفولد مايرهولد. ان هذه التصور يفرض مسرحا يتميز بكونه
1) لا ينقل حوار المؤلف نقلا سلبيا كما هو المسرح التقليدي.
2) يكون فيه للفرجة مكانتها واهميتها الابداعية وذلك من خلال ديناميكية العلاقة بين المؤدي والمتفرج.
3) وهو مسرح لابد ان يتجاوز تطور احداث النص لصالح لغة الجسد وتاثيرها الكبير على المتفرج. أي ان المتفرج في هذا المسرح يتواصل مع العرض من خلال امكانيات وتقنيات الجسد الفرجوية وليس مع تفاصيل تاريخية الجسد اليومية ووضائفه كما هو عليه في الواقع.وهناك الكثير من المسارح في العالم التي تعتمد امكانيات الجسد الفرجوية مثل : مسرح الكابوكي والنو والكتاكالي، والاشكال الفرجوية، ورقصة احواش في المغرب. وبالتاكيد فان هذه هي بعض مميزات الانثروبولوجيا التي يهتم بدراستها د. خالد اعتمادا على منجز باربا المهم في هذا الصدد المبني على ( دراسة السلوك السوسيوـ ثقافي والفزيولوجي للانسان داخل تواصل فرجوي ) وبهذا الصدد يحذر الباحث من الخلط بين انثربولوجيا المسرح مع انثربولوجيا الفرجة.
ولاهمية فعل الفرجة وعلاقة المؤدي والمتفرج المشارك هنالك شرح وتعليق على مراحل انجازات غروتوفسكي الاربعة فاضافة الى اكتشافه لغة جديدة للممثل المقدس الذي ينصب فعله على انجاز الفعل الابداعي الشامل المبني على الصدق وسموعمل الممثل ـ الفاعل الذي يكتشف ذاته الداخلية الاخرى خارج كليشسهات الزيف الاجتماعي اليومي وثرثرة الجسد اليومية المجانية. ومن خلال هذه الذات المكتشفة يدفع الممثل المقدس متفرجيه الى العيش بنفس معاناته في البحث عن الذات الباطنية، فان عمل غرتوفسكي كان يتجوهر في ( البحث عن المسرح في حد ذاته ولذاته ) وبهذا فانه عمل على خلخلة العلاقة بين الايهام /الفرجة، والتمثيل / الحضور، من اجل اكتشاف اللغة الجديدة للمثل وتعتبر هذه هي المرحلة الاولى في عمله.
في المرحلة الثانية عمل غروتوفسكي على مرحلة عرفت بمسرح المشاركة او اللقاء وركزت على ازاحة قناع التمثيل والمحاكاة ومحو الشرخ القائم بين الممثل والمتفرج من خلال الاعتماد على ( دراسة الفضاء المشترك بين المتفاعلين الذين يرغبون في التواصل والتفاهم خارج اللغة اليومية. ومثل هذا اللقاء الذي يبنيه غروتوفسكي يختلف عن المفاهيم الاخرى لطبيعة اللقاء بين المؤدي والمتفرج. والمرحلة الثالثة هي مسرح الاصول ويعتمد على اكتشاف العناصر البسيطة التي يمكن ممارستها بين المشاركين بغض النظر عن التاثيرات الثقافية .والمرحلة الرابعة هي الدراما الموضوعية وهي المرحلة الاكثر اهمية لان فضائها يتشكل من دراسات الفرجة والشعائر و الانثربولوجيا الثقافية، ولهذا فان مثل هذه الدراما الموضوعية تهدف الى ( عزل ودراسة تلك العناصر الفرجوية من حركات ورقص وغناء وانشاد وبنى فوقية وايقاعات واستعمالات محددة للفضاء، ويتم فرز تلك العناصر الفرجوية من خلال تفكيكها وابعادها عن تلكالعناصر الاخرى ).
والمرحلة الاخيرةلبحث غروتفسكي سماها بيتر بروك (بمرحلة الفن كوسيلة).اذ ان صناعة الفرجة يؤدي الى تاثير واضح على طاقة المشارك، ولذا فان بحث غروتوفسكي(في هذه المرحلةلايهتم بردود الفعل والانفعالات بقدر ما يركز بشكل دقيق ومكثف عن الاثر البسيكو ـ فيسيو لوجي لتأثير الفرجة على الفاعل ).

المسرح والصورة الفوتغرافية
هنالك دائما علاقة جوهرية بين الصورة الفوتغرافية والمسرح ومن الضروري توضيفها في المسرح على اعتبارها نصا له دلالته، وهي في ذات الوقت يمكن ان تكون وسيلة ولغة تنتمي الى التمثيل. والصورة ( هي تثبيت لحضور متحرك عبر فن الرسم بالضوء) ولهذا فان الصورة الفوتغرافية وامكانيات الصورة الفنية او الشعرية عموما هي مقاومة للموت، العدم والزمن والنسيان، ان لها علاقة بالذاكرة والزمن اكثر من أي شئ آخر.والصورة يمكن ان تقرأبصيغ مختلفة حسب وعي القارئ او المشاهد ويصبح لها وجودها وكينونتها مادام علاقتها بالجسد وهو في ديناميكيته الزمانية سواء كنا نشاهد جسد انسان ما في صورة ما او جسد الممثل في الفضاء.
ولكن الاختلاف الجوهري هو ان التمثيل ( فعل الممثل في الفضاء ) هو فعل ابداع ينجز في لحظته الانية( الان وهنا ) وله علاقة بالفضاء ( الزمكان )، وهو بهذا لايقوم بتقليد واقع سابق له، (لان المسرح لايقوم بتقليد الواقع او اعادة انجازه ) أي هنالك قطيعة بين الواقع والواقع الابداعي التجريبي الموازي الذي يخلق في فضاء المسرح. اما الصورة الفوتغرافية فهي محاكاة لتصوير حاضر موجود وكائن وسابقا على فعل التصوير ولحظته.
واستخدام الصورة الفوتغرافية في المسرح يعده الباحث وسيلة من والسائل التي تؤدي الى الميتا مسرح الذي يمكن ان يتحقق كما يؤكد ذلك في كتابه ( مساحات الصمت ـ غواية المابينية في المتخيل المسرحي).من خلال طرائق مختلفة يستخدمها المسرح المعاصر مثل المسرحية داخل المسرحية ـالاحتفال داخل المسرحية ـ لعب الدور في المسرحية وفي الدور ذاته ـ الاحالة الى الذات داخل المسرحية.
اضافة الى هذا فان استخدام الصور الفوتغرافية في المسرح تؤثر في طبيعة فرجة المشاهد، فتؤثر في وعيه ثقافيا وتاريخيا واديولوجيا، بل ان الصورة بحد ذاتها تقوم بمسرحة التاريخ وخاصة الطريقة التي استخدمها برشت ومن بعده هاينر مولر، في الحرص على منح المشاهد معرفة تاريخية وثقافية عن المانيا في مرحلة الرايخ الثالث من خلال استخدام الصورة الفوتغرافية كوثيقة، وايضا الطرائق التي اتبعها ارفين بيسكاتور في استخدامه للصورة الفوتغرافية بحيث ساعدت على فهم المشاهد ليس لتاريخ المانيا وانما تاريخ العالم من وجهة نظر المانية تقدمية.
ان استخدام الصورة الفوتغرافية مصاحبة للكتابة والتعليق،يؤدي الى نوع من التقاطع الادبي والواقعي وعند تمثل ومقارنة المتفرج للنص المشهدي مع نص الصورة يحدث لديه نوع من التغريب، لان الصورة المستخدمة قد تتناقض مع الحدث المشهدي، والتغريب هو الهدف الاساسي في مسرح برشت من اجل خلق جدلية علاقة الواقع والتاريخ. وتأكيدا على هذا يتطرق الباحث الى مفهوم رولان بارت فيما يخص وظائف الخطاب اللغوي الذي يوازي الصورة الايقونية حيث يقوم بوظيفتين : الترسيخ اولا والتدعيم ثانيا. ووظيفة التدعيم هي المناسبة للمسرح لان هذا( مرتبط بالنص اللغوي الذي يقوم باضافة دلالات جديدة حيث ان مدلولاتها تتكامل وتنصهر في اطار وحدة كبرى ).
وبما ان النص اللغوي يمارس سلطة على الصورة فيتحكم في قرائتها فان هذا بالتاكيد يخلق المباشرة في المسرح لذا يجب اتقان استخدام الخطاب اللغوي والخطاب الصوري. والخطورة في هذا المجال كبيرة عندما لايعرف المؤلف او المخرج كيفية استخدام هذين الخطابين، مما يحول المسرح الى وثيقة تاريخية مباشرة، كما هو الخطا الذي وقع فيه المخرج بيسكاتور في هذا الخصوص في بعض عروضه التاريخية التي تحول فيها الخطاب المسرحي الى وثيقة تاريخية، لانه اثقل المشاهد والاحداث بالكتابة الادبية التوضيحية والصور التاريخية المختلفة، مما حتم على استخدام آلا ت ومكائن لعرضها اثقلت المسرح وشتت الفرجة.( لكن باحث مثل الدكتور خالد الامين واع لمهته البحثية عندما يناقش مثل هذا الموضوع وخاصة فيما يخص المسرح الملحمي وبرشت (و يمكن الرجوع الى كتابه ـ مابعد برشت ـ ).
وبالرغم من اهمية هذه الافكار التي تخص استخدام الصورة الفوتغرافية في المسرح إلا اننا يمكن القول بان الصورة ستكون ديناميكية ومؤثرة عند استخدامه بوعي من خلال الطريقة التي يمكن من خلالها ان تجعل الصورة تتخلى عن هدف تصويرها التي من اجلها صورت، حتى تكتسب واقعا جديدا يمنحها تأويلا جديدا عندما يتم قرائتها ايحائيا وسميولوجيا وضاهراتيا مما يؤكد هذا على البعد الاديولوجي والاسطوري، واستخدامها بطريقة تمنح المشهد المسرحي بعدا جديدا، فتتخلى عن وظيفتها كونها وثيقة واقعية او تاريخية ولا تصبح خارجا عن المشهد المسرحي بل تمنحه تاويلا ثقافيا واسطوريا وإيمائيا لمرجعيات اخرى خارج حدودها وحدود المشهد المسرحي مما تصبح الديناميكية او الحيوية الانية في التأويل وغنى الاستعارة، هي السمة العامة للصورة في المشهد المسرحي والصورة الفوتغرافية.

ومن اهم القضايا الاخرى التي يعالجها د. خالد هي الفضاء الثالث الذي ميز المسرح المغربي واعني ما يطلق عليه ( بفضاء الهجنة )، ويعتبر هذا ضرورة اساسية لكل مسرح.والباحث لاينسى التطرق الى تاكيد الهوية ضمن هيمنة وتمركز الثقافة الغربية المؤثرة اساسا في ثقافتنا وكياننا العربي شئنا ام أبينا، لدرجة انه تحتم علينا ان نتكلم بذات المفاهيم الفنية وغير الفنية. اذن كيف يمكن لنا ان نصل الى تاكيد الهوية وفي ذات الوقت تاكيد الاختلاف ؟. ان احد السبل المهمة للوصول الى هذا هو التزام ( النقد المزدوج) أي نقد المفاهيم المهيمنة وفي ذات الوقت الاختلاف معها، وايضا نقد الهوية الذاتية، مادام النقد المزدوج يعني طريقة ( تفكيكية وحوارية )في الان ذاته (موجهة صوب كل خطاب يروم الهيمنة والسيطرة على غيرية آخره، ويتشبث بمبادئ الاصل، المركز المحوري، الحضور المتعالي، والهوية الثابتة، سواء كان هذا الفكر غربيا او حتى عربيا ). ومن اجل الاجابة على سؤال، كيفية تمثل النقد المزدوج في المجال المسرحي المغربي ؟ ( وهذا يشمل العربي ايضا ) يقدم الباحث فرضية هي ( ان المسرح المغربي واحد ومتعدد، وفي نفس الوقت متارجح بين الهوية والاختلاف، الانا والآخر، الغيرية والانية ). مما يحتم هذا مناقشة ( هجنة المسرح المغربي ) لتوضيح اشكالية النقد المزدوج وتأكيد الهوية المغربية مما تشكل اتجاهان في المسرح المغربي وكذلك في المسرح العربي عموما هما :
1)الاعتماد على مكتشفات المسرح الغربي الارسطوي واعتبار التقليد المسرحي الاوربي هو النموذج الوحيد لفن المسرح الذي يجب ان يعاد انتاجه واستنساخه.
و2) : هو رفض هذه الهيمنة والاعتماد على الاصول واشكال ماقبل المسرح وغيرها.
وبما ان المسرح هو واحد ومتعدد في ذات الوقت، فان التاكيد والاعتراف بنموذج واحد وهيمنته هو اشكالية كبيرة تؤدي الى اغتراب جديد. وعادة فان الثقافات والانجازات الحضارية مبنية على التداخل والتلاقح، وهذا يمنح مفهوم ( الهجنة ) أهميته (إذ ليس ثمة مسرح مكتف كلية بذاته، فالمسرح الغربي بدوره يمتاز بالهجنة، بل هو في الحقيقة جنس هجنة بامتياز ). ولهذا فان الكثير من المبدعين والمنظرين الغربيين اتجهوا نحو الشرق لخلق هذا اللقاء الثقافي والحضاري بين ثقافة غربية واخرى شرقية، وخلق ( الهجنة ) في فنونهم، مما ادى الى اغناء ابداعهم مثل أنتونين آرتو، يوجين باربا، برشت، بيتر بروك غروتوفسكي... الخ.ومن نافل القول بان المسرح غير ثابت فهو في نشأة مستمرة ولهذا فمن الضروري ان يكون هنالك أفق ثالث في المسرح، أي يكون وسط بين المسار التأصيلي(الايمان المطلق بالهوية الواحدية فقط ) والمسار التغريبي (الايمان المطلق بانجازات الثقافة الغربية فقط ).
وهذا الافق الثالث يحتم خلخلة فضاء المسرح الغربي التقليدي ( العلبة الايطالية ) لينغمر في فضاء المسرح المفتوح بعد ان يستفيد من تكنيك المسرح الغربي للوصول الى هجنة حقيقة لتطوير التكنيك الابداعي لتلك الاشكال التي تتميز بثراها ودراميتها مثل الحلقة والبساط وغيرها، ومثل هذا المفهوم سيغني ليس المسرح المغربي فحسب وانما للمسرح العربي عموما. من هنا تاتي اهمية افكار الباحث المغربي د.خالد الامين.

كوبنهاكن
[email protected]