Madam de Sade

من أمستردام- صالح حسن فارس: من يتابع عروض فرقة أمستردام المسرحية، ينتظر بشغف عروضها المثيرة والممتعة بفارغ الصبر، لما تتمع به هذه الفرقة من وسمعة وخبرة رائعتين وتنوع في عروضها. إن تاريخ هذه الفرقة حديث العهد إذ تأسست عام 9871، ومنذ ذلك الوقت وهي تـُبحر في المسرح العالمي تارة، والمسرح المحلي تارة اخرى، ومن امتيازاتها إنها لم تخضع لشروط فنية معينة أو ليس لها خطة ثابته، هي فرقة أهلية تضم فنانين محترفين هولندين أوهولندين من أصل أجنبي. تحصل على أعلى مساعدات مادية من قبل الدولة، وتقدم عروضها في أهم المسارح الهولندية والبلجيكية وفي مقدمتها (مسرح ستاتس سخاوبورخ) في قلب العاصمة الهولندية أمستردام.
إنها فرقة تعمل بنشاط متواصل حيث يتجدد لقاء الجمهور بها مرات عديدة في السنة، بل هي تبحث دائماً عن الجديد والمثير في عالم المسرح. من الجدير بالذكر انها قدمت في عام 1987(سنة تأسيسها) مسرحية (الشجرة الاستوائية- boom in de tropen) للكاتب اليابني يوكيو ميشيما وبعد تسعة عشر عاماً تقدم لنا هذا العمل للكاتب نفسه مسرحية (مدام دي ساد).
إن الحديث عن هذه المسرحية يحيل المشاهد الى كل ما يتعلق بالماركيز دي ساد بدءاً من عنوان المسرحية مروراً بأحداثها وأجواء أو عوالم وحياة الماركيز دي ساد.
في مسرحية (مدام دي ساد) ليوكيو ميشيما توجد ست شخصيات نسائية على الخشبة، أما في فرقة أمستردام المسرحية، فقد مُثلت الادوار النسائية من قبل خمسة رجال على الخشبة، ما عدا شخصية الخادمة التي مثلتها إمرأة ( Marieke Heebink) . تدور أحداث المسرحية حول قصة الماركيز دي ساد الذي أودع السجن بسبب ممارساته الجنسية المتطرفة التي سببت صدمة كبيرة للسيدة مونترو (أم زوجته) Hugo Koolschijn بينما استمرت أبنتها (رينيه) Barry Atsma وفية لزوجها وهي تدافع أيضاً عن ممارسته الشاذة للحب بسبب رابطتهما العميقة جداً، الا أن الأم التي تبحث عن السعادة لابنتها تريد منها أن تنفصل عن زوجها (ماركيز دي ساد)؛ هذا الماركيز صاحب التاريخ المنحرف والسمعة السيئة. هذه هي فكرة مسرحية quot;مدام دي سادquot; التي كتبها واحد من أهم كبار الكتاب اليابانين (يوكيو ميشيما) 1925-1965الذي رُشح أكثر من مرة لجائزة نوبل، هذا الكاتب المسرحي والاديب المثير للجدل، الذي مات انتحاراً بطريقة طقسية؛ غرس سيف الساموراي في بطنه، وهي طريقة مشهورة في اليابان في عملية الانتحار.
استفاد مؤلف المسرحية من حكاية الماركيز الفرنسي دي ساد في القرن الثامن عشر، والتي تناقش حياة الماركيز كما كان يفعل بعشيقاته من قسوة وتلذذه بتعذيبهن أثناء مغامراته الجنسية، وهو الشخص الذي ما زال أحد المصطلحات العلمية والثقافية مشتقاً من أسمه (السادية)، ومن الجدير بالذكر ان الماركيز حُكم عليه بالسجن لمدة 17عاماً وأنتهت حياته في مستشفى الامراض العقلية.وليوكيو ميشيما أعمال مسرحية وروائية كثيرة منها: هدير الامواج، الجياد الهاربة، عطش الحب، والبحّار الذي لفظه البحر.

المسرحية:
في مسرحية ( مدام دي ساد) نشاهد مواجهة بين ست نساء، السيدة وأبنتيها وصديقتيهما والخادمة، كل واحدة تملك بشكل ما علاقة خفية مع الماركيز دي ساد، ويحاولن من خلال كلماتهن أن يجدن منفذاً يوصلهن إلى هذا الشخص الغريب.
بعد أن جلسنا في مقاعدنا أتاح لنا المخرج فرصة أن نرى الممثلين بكل وضوح وهم يضعون اللمسات الاخيرة لمكياجهم ويرتبون بعضاً من أزيائهم، كأنهم مقدمون على مهمة صعبة، امام المرايا الصغيرة الخمس التي تواجه الجمهور وتقترب منه، وظف المخرج المرايا بشكل مختلف عما الفناها في مشاهدة المرايا في المسرح، وظفها توظيفا جميلاً ومعبراً مما جعلها مراّة من الواجهة الامامية وعاكسة شفافة للاحداث من الخلف، بإمكان المشاهد ان يرى الاحداث في عالمين، متحرك وثابت في آن واحد، أي انه جعل المكان والشخصية منشطرة، نعم إنها تقنية فائقة بأستخدام الديكور بهذا الشكل.
شخصيات محطمة منشطرة لايشغلها غير الجنس والخيانة، هذا ما لاحظناه من خلال الأمكنة المغلقه واستخدام المرايا والانشغال بالملذات الحسية.
قبل أن يبدأ العمل رأينا الخادمة وهي تخترق الجمهور وتحمل في يديها أدوات التنظيف منهمكة في عملها في تنظيف المقاعد المخصصة للجمهور في محاولة من المخرج لإدخال الجمهور في عالم الحكاية وربما كان ذلك دلالة على أن المكان الذي نجلس فيه تفوح منه رائحة العفونة، أو انه مكان مدنس.
بعد أن خفتت الموسيقى الكلاسيكة الهادئة والتي كانت تُنذر بحدوث شئ ما قادم، ارتفعت وبشكل تدريجي مراّة كبيرة بحجم الكارثة التي سوف تحل بهذا البيت، حتى تظهر لنا الخادمة من جديد ولكن هنا بدور المغنية الشبقية أمام المايكروفون والتي تقول في أغنيتها:

تسألني كم أحبك
أنا أحتاجك
تعال
أحبك

قد تبدو ان هذه الأغنية بسيطة وساذجة ولكن ربما تكون في الأشياء البسيطة ثمة أمور غريبة وكبيرة. في أول الأمر تكاد تكون مشكلة صغيرة أو بسيطة نستشفها من خلال المشهد الاول، الا أن هذه المشكلة تنشأ وتكبر وتتضخم في هذا الوسط العائلي وتحطمه بسبب رجل متمرد وشاذ. بعد أن هدأ هذا الصوت الجميل تحولت المغنية مباشرة الى راوية يسرد لنا قصة الماركيز دي ساد الذي لم يظهر لنا طيلة العمل وقصته المثيرة مع هذه العائلة، من خلال الجنس، الالم، العنف، الشذوذ، الجمال، والفنتازيا، من هنا تبدأ الاحداث وتتشابك خطوط الحكاية المرعبة والمثيرة. يبدأ الحوار بين الأم وصديقتي إبنتها اللتين لهما نفوذ ديني وسياسي في كيفية إنقاذ الماركيز دي ساد من السجن، أذ تطلب الأم المساعدة من تلكما المرأتين . بالرغم من أن هذه المسرحية تعتمد اعتماداً كبيراً على الحوار والسرد الا أن المخرج لم يقع في فخ الملل الذي يسود بعض المسرحيات الحوارية الهولندية، وذلك لاستخدامه الديكور المعبر والجميل واعتماده على طاقات الممثلين واستثمار كل الفضاء المسرحي وخشبة المسرح. استخدم إضافة إلى المرايا البانيو وكان توظيفه دلالة للتنظيف من بقايا الجنس والدم والدمع، ومن آثار الجريمة.

وفي نهاية العمل نكتشف تناقض وانتهازية الأم التي كانت تُظهر لأبنتها انها تريد أن تنقذ حياة زوجها الماركيز من الاعدام، لكنها تمارس سلوكاً انتهازياً في تدخلها غير المشروع في ابقاء الماركيز مدة أطول في السجن، وبعد أن قررت زوجة الماركيز التخلي عنه لتصبح راهبة، ترفض الام قرار ابنتها وتنقلب الادوار.
ان الشيء الخاص في هذا العرض هو ما قام به المخرج حين جعل الممثلين الرجال يلعبون أدوار النساء ماعدا الخادمة التي مثلتها امرأة، ربما تعود التفاتة المخرج هذه الى تاريخ شخصية الماركيز دي ساد الشاذة أو الى مسرح النو الياباني الذي اعتمد في جوهره على أن ادوار النساء يلعبها الرجال. لقد لعب المخرج دوراً كبيراً في هذا العمل من خلال بناء قطعة فنية من المشاعر، الالم، الوهم، التشاؤم، الحب، والمشاعر المتناقضة للنساء.

العمل المسرحي من إخراج المخرج البولوني المشهور كرزسزنوف واركوفسكي (1962) الذي درس الفلسفة في بولونيا وتاريخ المسرح في جامعة السوربون في فرنسا.
ويعتبرهذا المخرج من المهتمين باعمال شكسبير وقد عمل مع كبار الفنانين العالميين المرموقين والمشهورين منهم: انجي برغمان، جيرجور ستريلر، وبيتر بروك.
شارك هذا المخرج في مهرجان هولندا المسرحي لعام 2001 في مسرحية هملت ونالت استحسان الجمهور والنقاد، وهذه المرة الثانية التي يشارك فيها هذا المخرج بعمله المسرحي الجديد مع فرقة أمستردام المسرحية.