إن أهم مكون من مكونات الشخصية الفنية هي البيئة التي يتعامل معها أينما كان وباختلاف البيئة تختلف الرؤيا وهذا التنوع هو سر ديمومة المسرح وتواصله الايجابي ومثلما يتبع العرض المسرحي اشتراطات الظروف المعطاة كذلك الفنان تسهم ظروفه في رسم وتكوين نظرته.. وبالتالي تكوينه الفني...
لذا يبقى الاختلاف قائما ما اختلفت الظروف ولعل الظروف التي تعرض لها الفنان العراقي من هجرة واغتراب قسري عن منابعه الأولية في تكوين الرؤيا في التعامل مع مفرداته الفنية ساهم إذا بتكوين ذات متشظية كونها ترغب بالتجديد والتعامل مع الواقع الذي فرضه المهجر لكن هناك أيضا جذور قوية تشده إلى الوطن الأم والذي هو أيضا خزين دائم من الذكريات والصور المتراكمة والتي شكلت لدى الفنان بنية الوعي الأول لذا صار هذا الفنان المغترب بين عالمين مختلفين تماما متوحدين في ذاته الإبداعية ومن نظره بسيطة نلاحظ إن مجمل ما أنتجه الفنان العراقي المغترب هو صدى كثير للماضي وتجديد حذر ويبدو لي إن هناك خوف دائم من الانسلاخ هو الذي يشكل ذواتنا في الخارج فعندما نشرع للقيام بعمل مسرحي يكون هاجس ألذات وخصوصيتها مهيمن على كل التفسيرات وقراءة الإحداث وتحليلها وهذا غالبا ما يكون عقبة حقيقة كون أن المخرج المغترب هو واحد من مكونات أخرى لا تنتمي إلى هاجسه فقط فعندما تعمل مع كادر غربي مثلا فالممثلين والفنيين ينتمون إلى عالم آخر عليك أن تبذل جهدا كبير للوصول إلى مفاتيحه وهذا الجهد بالضرورة يتطلب منك تنازلات ربما ليس من السهولة بمكان أن تعطيها لو كنت في بلدك..
تتغير أيضا مفردات العمل في المهجر وتحل مفردات أخرى وهكذا تبقى الدائرة تدور ويبقى العمل أكثر صعوبة هنا من الناحية الإبداعية البحتة لكن له أيضا سحره الخاص كون التواصل الثقافي العالي الذي ينتج هو الذي سيشكل الشخصية الفنية للمبدع ..
لو نظرنا إلى خارطة العالم المسرحي لوجدنا أن كثير من الفنانين الذي تركوا بلدانهم وذهبوا إلى بلدان أخرى تنتمي لنفس الثقافة مثلا هجرة أوربية أوربية أو عربية عربيه لم تكن لديهم نفس المصاعب بالعمل والتواصل والإنتاج لكن المشكلة الكبرى إننا جئنا من واقع إلى واقع مغاير تماما وبالتالي سنحتاج إلى زمن كثير كي نتخلص من الهواجس النفسية والاجتماعية والتي انعكست على معظم منجزنا الإبداعي فالمخرج الذي يقدم على عمل مسرحي تلاحظ إن الهواجس النفسية والاجتماعية تثقل على شخوصه وروياه وبالتالي يفتقد إلى الاسترخاء التي تتطلبه العملية الفنية..

في أعمالي التي سنحت لي الفرصة أن أخرجها هنا في هولندا تسيطر كثيرا فكرة المنفى أو المهجر ففي مسرحية ليلة الزواج كانت شخصية الغائب هي جوهر المسرحية وشخصية الانتظار كانت الرديف الثاني وقد حاولت جاهدا أن الفت الانتباه إلى العوامل الداخلية للشخوص لان المنفى هو فكرة داخلية بنظري وهي تخصك وحدك.
والغريب إن كل مهاجر يشعر انه وحيد برغم وجود الكثيرين من أبناء بلده في نفس المكان الذي يعيش فيه وهذا التناقض هو جوهر فكرتي بالتعبير عن حالة الانزواء التي تعيشها الشخصية المغتربة وهي هالة داخلية وليس خارجية كما يعتقد البعض وقد اعتمدت على تقديم شخوصي كأسوياء ويملكون كل مقومات العيش السوي ولكن هناك فراغ في داخل ألذات هو الذي يقود الإحداث ومن وجهة نظري إن النفي أو المنفى هي أقسى عقوبة حتى من الموت لأنك تحمل معك دوما روح معذبة وهذه الروح المعذبة كانت لفترة ليست بالقصيرة هي محور معالجاتي التحليلية لشخوص مسرحياتي وهكذا تكون الظروف المعطاة هي لاعب مهم في رسم أي شخصية...
ولعل من الغريب إن ما خزنته ذاكرتنا التي بالتالي ستكون ذاكرتنا الانفعالية التي خصها ستانسلافسكي بالكثير من الأهمية هذه الذاكرة ستسبب لنا حرج كثير ومشكلة حقيقية كون ما خزنته لا يتلاءم بالضرورة مع الواقع الجديد أو البلد الجديد لاختلاف الثقافات والمدلولات الاجتماعية والفلسفية و الحياتية الأخرى وبذلك قد نكون أحيانا في غنى عن عنصر مهم في عملية الخلق الإبداعي..وبالتالي علينا إن نكون ذاكرة أخرى تتوافق مع المخزون المعرفي والبصري للمشاهد الذي نحن بصدده والذي يحمل هو أيضا تراكماته الخاصة وشفراته الخاصة والكيفية التي يتعامل بها مع العرض المسرحي والتي لا تمت بأي صله بي كمخرج قادم من عالم أخر فتصبح العملية معكوسة تماما
لهذا كله فقد تأثرت الشخصية المكتوبة على الورق تأثرت كثيرا بشخوصنا كأفراد عاملين في مجال المسرح وبالتالي فان لعنة المنفى لم تطالنا كفنانين مسرحيين عراقيين غادرنا بلدنا عنوة بل طالت أيضا شخوص من كلمات كتبها كتابها دون أن يعلموا إننا سنأتي هنا لنؤل كل شي..
في مسرحية فاقد الصلاحية لكاتبها الهولندي خر تايس كانت هناك شخصيات من نوع آخر وكأنها مكتوبة لي أو تخصني فكانت هذه المرة الزاوية مختلفة تماما فلدي أشخاص هولنديون يعيشون في بلدهم ووسط ناسهم لكن لديهم مشكلاتهم أيضا وفي النص أيضا كان هناك خوف من الأجانب الذين صاروا كثر من حولهم في الحقيقة كان الموضوع مغريا تما ما فهذه الشخصيات تمثل بالنسبة لي تحديا كبير للتعرف على كنهها ومكنوناتها السرية ومنذ البداية كانت تلك هي خطتنا لتفسير النص وصار الممثلون يبحثون على العوامل النفسية الكامنة وراء هذا الاغتراب الافتراضي والذي يتحكم كثير بحركة الشخصية بتأزمها و سويتها لذا كان الهدف الأول هو هدف اجتماعيا ونفسيا في سلوك شخوص مسرحيتنا وهنا لابد من الإشارة إن للمنفي فوائدة (الفنية) أيضا كونه يكون لدينا نوع من الاسترخاء الفني والتقني للإحساس بالجماليات في العمل المسرحي سواء من خلال إيقاع الحياة الراكز أو ما يحيطك من مؤثرات ..
في هذه الشخصيات وجدت إن من المناسب أن أعير أبعاد شخوص المسرحية من الواقع الذي عشته أنا شخصيا وهو الاغتراب الداخلي والتعمق به وكذلك جعله السمة التي تتمحور خلالها أحداث المسرحية هذه الإعارة كانت لها فوائدها الفنية لاحقا سواء على تركيبية الشخوص أو تركيبية المشاهد ودائرة العلاقات المرسومة بين الأشخاص هنا في هذا العمل تفتق الخزين الهائل من الأسى والمشاعر المكبوتة التي أحالتني إلى كائن معزول كلها تفتقت لتضيف للشخوص بعد إنسانيا إبداعيا عالي الجودة جعل المشاهد ملتصق ومراقب ايجابي وكانت المسرحية..
بعد هذا العمل جاءت مسرحية الخادمات وهنا انتبهت فوجدتني مأخوذا بنمط من الإحداث ونمط طاغ من الشخوص في مجمل ما تحمل هي تساوي ما احمله كذات وبالتالي كفنان إن تكبير الصورة التي تدل في غالبيتها على ما يفعله الاغتراب في الفنان ما هو إلى صورة حية للمبالغات الغير منضبطة التي نشاهدها في بعض عروض مبدعينا في المنافي وبظني أن هناك خيط رفيع ينبغي أن لا ندعه ينفلت منا وهو التوازن الفني لمكونات شخوصنا حتى لا تسجن في سجن نحن اخترناه أو اجبرنا علية لكنها الشخوص ولدت حرة ونحن بذلنا جهود كبيرة لتكبيلها بكل ما نعتقد وهنا أود أن أشير إلى أن فن المسرح هو فن ديمقراطي بمعنى الكلمة فاحترام المسافات حتى بالنسبة للشخوص الورقية هي قمة التحدي وكوننا قادمين من مجتمعات لم تتحسس الديمقراطية بالتالي لم يكن لها وجود في تكون ذواتنا الإبداعية لذا من الصعب جدا أن لا ينفلت ذاك الخيط منا....
ومثلما في الحياة في المسرح أيضا فاليوم العادي هو مجموعة أحداث وأناس تحل بمشاهداتك تراها تتعامل معها تؤثر بك وأحيانا تكون أنت فاعل فيها أيضا...
في التمرين المسرحي كل هذه الأشياء تجتمع عندنا و نبحث لها على إطار فني يعطيها قيمة أخرى كي تصل إلى المشاهد وتؤثر به لكن ما يحصل في التمرين المسرحي هو بمثابة إعادة تنظيم للأحداث اليومية الواقعية
وبما إننا كفنانين مغتربين أو غرباء على وجه الدقة إذا يبقى هذا الهاجس حاضرا معنا في التمرين ويؤثر هنا وهناك في سياق البروفة ويتشكل صراع من نوع آخر مابين ألذات الإنسانية التي يحملها الفنان وبين ألذات الفنية التي تشكلت من مكونات لا تشبه بأي حال من الأحوال مكونات البروفة المسرحية الآنية واشتراطاتها وهذا بحد ذاته عبئا نفسيا هائلا تصبح إمكانية تسويقه في منتهى الخطورة أحيانا وهنا نحتاج التمرس ولأننا افتقدناه حتى عندما كنا في أوطاننا والتمرس هنا هو القدر العالي من الحيادية في النظر إلى الشخصية والتعامل الفني الراقي والذي يشبه الحياة أحيانا ولذا قلت إن المسرح فن ديمقراطي يطالبنا بنوع من الحيادية الناضجة في التعامل مع عناصر العرض الذي نحن بصدده....

أخيرا شكل المنفى لنا نحن المشتغلين في المسرح هنا حضورا طاغيا على منجزنا المسرحي وهيمنت مفرداتنا الشخصية على سياقات عروضنا وهيمن البعد النفسي والاجتماعي على شخوصنا الني أنتجناها ونحن في قمة التوتر................