مأساة العراق

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت الحرب العراقية الإيرانية ما تزال في بدايتها، ترأس صدام حسين اجتماعا، أو الأصح محكمة، جرت في قاعة الخلد، لمحاكمة أعضاء حزب البعث، رجالا ونساء، من الذين رفضوا، وقتها، المشاركة في تلك الحرب. وكعادتها في توثيق ما تريد توثيقه من أحداث، فأن أجهزة نظام صدام حسين سجلت وقائع تلك المحاكمة في شريط فيديو، تم توزيعه في البداية على أعضاء الحزب، ثم شاع الشريط لاحقا وأصبح في متناول الجميع.
في ذاك الشريط يظهر صدام حسين، الذي كان وقتذاك حداثويا متطرفا، جالسا على المنصة بملابسه العسكرية، وبيده سيكار فاخر. وعندما جاء دوره للحديث، فأن صدام التفت إلى رجل كان جالسا داخل القاعة، كبقية "المتهمين"، لكنه كان الوحيد بينهم الذي يرتدي الملابس العربية، أي العقال والكوفية والعباءة الرجالية. وبدلا من أن يسأل صدام الرجل عن أسمه أو كنيته أو موقعه الحزبي، فإنه أمره باللهجة العراقية قائلا: "كوم أنت أبو عكال". ويعرف كل من يلم بالعادات والتقاليد، وبلغة التخاطب العراقية، كم هي قاسية ومهينة ومذلة جملة "أنت أبو عقال"، ليس لأن هذه الجملة تظهر الرجل، وهو على أي حال عضو في نفس حزب صدام، مجرد نكرة لا أسم له، ولكن لان العقال أو الملابس العربية التقليدية بدت هنا كنقيصة ومؤشر على التخلف الحضاري، وعلى من يرتديها أن يشعر بعار.
وعندما انتهت جلسة المحاكمة وبدأ "المتهمون" بالخروج، طلب منهم صدام أن يتريثوا، لسماع تحذيره الأخير، فقال لهم، باللهجة العراقية، أيضا:"لو سمعت أن أحدكم روى للآخرين، ولو همسا، ما جرى ألان داخل هذه القاعة فأني سأطرو "أقطعه" سبع وصل". طبعا، ما كان وجود لقرأن، آنذاك، لا على المنصة يقسم به صدام، ولا بيده يرفعه أمام الحاضرين.
في تلك الأيام بالذات كان صدام قد توج نفسه حاكما أوحدا للدولة العراقية، وقائدا أوحدا لحزب البعث، بعد أن نجح في إقصاء البكر، وبعد أن صفى جسديا رفاقه القادة التاريخيين الذين كانوا ينافسونه زعامة الحزب، أي محمد عايش وعدنان الحمداني وعبد الخالق السامرائي ومجموعتهم. منذ ذلك اليوم أصبح بمقدور صدام أن يردد، وبكل اطمئنان: أنا الدولة والدولة أنا، أنا الحزب والحزب أنا، وأن يسير قدما وبدون أي منافسة مهما كانت، في تنفيذ مشروع حزب البعث الذي أصبح قائده الفعلي والوحيد، بل أصبح مالكه.
ولكن صدام، حالما أصبح الحاكم والقائد الأوحد، لم يعد يفكر ويتصرف بوحي من تعاليم الحزب الذي كان ينتمي إليه، وإنما وفقا لرؤياه الخاصة به، هو صدام حسين، باعتباره الشخص الذي اختارته العناية الإلهية لإنقاذ العراقيين من حال الانحطاط التي كانوا يعيشونها، ونقلهم من الظلمات إلى النور. وتبعا لذلك فان صدام كان يرى نفسه كأحد المصلحين العظام، وكصاحب مشروع مستقبلي شامل، حداثوي، تنويري، غايته جعل العراق، أقله، بمصاف ألمانيا أو اليابان. وقد ظل صدام يبشر العراقيين، حتى بعد توالي هزائمه العسكرية وتخريب البلاد، بان بلادهم ستصبح يابان الشرق الأوسط/ ردد ذلك في أول خطاب ألقاه في مدينة الموصل بعد هزيمته في حرب الكويت/.
بعد الثورة الإيرانية، التي صادف حدوثها تفرده في الحكم، وجد صدام نفسه أمام تحد، ما كان يتوقع حدوثه، على الأقل بتلك السرعة. ولم يكن أمام صدام سوى طريقين.أولهما أن ينحني أمام العاصفة الإسلامية الإيرانية ويدعها تمر، انتظارا أن تهدأ الأمور.
والطريق الثانية هي الإمساك بزمام المبادرة لمحاصرة الحدث الإيراني، عسكريا وصولا لإجهاضه، إن أمكن، وهذه هي الطريق التي سلكها صدام.وفيما يخص الجانب المدني الثقافي من استراتيجية تلك المواجهة مع النظام الإسلامي في إيران، فأن صدام بدأ، وقد أصبح الحاكم الأوحد داخل العراق، بحقن المشروع البعثي الحداثوي بجرعات حداثوية إضافية، تحمل طابع صدام الشخصي. وكان الغرض من ذلك هو، أظهار التناقض بين حداثة وعصرنة المشروع الصدامي من جهة، وبين "تخلف" المشروع الإسلامي الذي كانت الثورة الإيرانية قد قدمته وحاولت تصديره خارج حدود إيران.
ولكي يثبت "تخلف ورجعية" وظلامية" عقلية "الملالي" الذين بدأوا يحكمون إيران، كما كان يسميهم، وحداثوية وعصرنة مشروعه هو، فأن صدام بدأ، وبطريقة استعراضية وبلجاجة تعدت كل حدود النزق والصبيانية، بتطويع الأمور داخل العراق وجعلها تتماشى مع حداثة مشروعه. وقد بدأ صدام يغير حتى في بعض تفاصيل حياته الخاصة. فقد شرع منذ تلك الأيام، بارتداء أنواع من الأزياء الغربية، لا يتجرأ حتى اشد عشاق الموضة تطرفا في الغرب على ارتدائها. وكان صدام يحرص، وهو بملابسه تلك الموغلة في "غربيتها" وتغربها، على الظهور على شاشة التلفزيون العراقي، سائرا فوق ثلوج جبال كردستان، متأبطا يد عقيلته وهي ترتدي، مثله تقريبا، أخر صيحات الموضة. ومن كان يشاهد صدام في تلك الأيام بالقبعات الفارهة التي كان يعتمرها والسراويل والقمصان الفضفاضة التي كان يرتديها، فانه كان يظن انه، ليس أمام إنسان عراقي خارج توا من قرية عراقية، وإنما أمام أوسكار وايلد جديد، أو أمام أحد بارونات فرنسا أو لوردات بريطانيا أو قياصرة روسيا، ضل طريقه بعد أن خرج من قبره، فدخل الأراضي العراقية عن طريق الخطأ.
في 19 تشرين الأول 2005 ، مر أكثر من ربع قرن على واقعة قاعة الخلد، وكلمات "أنت أبو عكال" و"أطرو سبع وصل". وفي هذا اليوم انعقدت محاكمة أخرى جديدة كان صدام، أيضا، حاضر فيها.لكن في قاعة هذه المحكمة ظهرت عناصر جديدة. مثلا، أن صدام لم يظهر هذه المرة على منصة الرئاسة يكيل الاتهامات، وإنما داخل قفص الاتهام يستمع لاتهامات تكال ضده. ولم يقف صدام وحيدا، اعزلا ومخذولا، مثلما وقف رفاقه الذين حاكمهم في المحاكمة الأولى، وإنما وقف صدام بجانب محام يذود عنه ويشد من أزره ويرفع من معنوياته. ولم تتم محاكمة صدام، مثلما حدث للآخرين، في المحاكمة الأولى، داخل قاعة مغلقة، وإنما تمت تحت مراقبة ومشاهدة ملايين العيون.
هناك، أيضا، عناصر جديدة أخرى في هذه المحاكمة، هي عندنا أكثر أهمية من العناصر التي ذكرناها توا وهي، أن صدام ظهر وبيده نسخة من القرآن، بدلا من السيكار مثلما في المحاكمة الأولى. والأمر المهم الثاني هو، عندما رفض المتهم عواد البندر الإفصاح عن هويته قبل أن يسترد عقاله، قائلا للقاضي "عقالي هويتي"، فان صدام لم يستهزأ من العقال مثلما فعل سابقا، بل أطرى على تصرف البندر بكلمة "عفية". رؤية صدام "القاضي" في "المحاكمة" الأولى في بداية الثمانينيات، ورؤية صدام "المتهم"، في المحاكمة الثانية عام 2005 ، تجعلنا نتساءل: هل يوجد صدامان حكما العراق، وليس صدام واحد؟
وإذا كان الجواب نعم، فأي من الصدامين زائف وأيهما الأصيل ؟ صدام الجالس على منصة الرئاسة في بداية الثمانينيات الماسك بالسيكار بيده والمستهزأ بالإصالة العراقية "العقال"، أم صدام الماسك بالقرآن في قفص الاتهام عام 2005 ، والذي يظهر اعتزازا بالعقال العراقي؟
أيهما الزائف وأيهما الحقيقي؟ صدام ال"الداندي"، شبيه بودلير واوسكار وايلد ، في ثمانينيات القرن الماضي، أم صدام الصبور المتجلد السليط اللسان، في قاعة المحكمة الأخيرة ؟ بل أيهما نصدق؟ سواد هامة صدام، أم شيب لحيته؟ هل يمكن أن يكون إنسان شارف السبعين، بلحية بيضاء ولمة سوداء؟
لا، لا يوجد صدامان. يوجد صدام واحد هو، ذاك الذي شاهده العراقيون لأول مرة على شاشة التلفزيون في 30/07/1968 ، يقف وراء البكر والرشاش بيده. ومنذ ظهوره في ذاك التاريخ وحتى ظهوره في 19/10/2005 ، فأن صدام ظل هو هو، لم يتغير."المدفع الرشاش" الذي كان صدام يمسكه عندما أطل على العراقيين لأول مرة قبل أكثر ثلث قرن، هو الحقيقة الوحيدة في حياة صدام، وكل ما سواها مجرد إكسسوار، لا أهمية له.
طوال فترة حكمه، ظل صدام على يقين أن المدفع الرشاش هو الوسيلة الوحيدة لحل مشاكل الحياة. ومثل جميع الذين يسترشدون بغرائزهم الذئبية ومناوراتهم الثعلبية، فأن صدام كان على استعداد دائما وأبدا، عندما تجبره الظروف، أن يستبدل المدفع الرشاش بوسيلة أخرى، تبدو ظاهريا مختلفة، لكنها في نهاية الأمر، الوسيلة ذاتها.
فعندما أيقن صدام أن البندقية لم تعد بذي فائدة أمام القوة الاميركية في حرب الكويت، فانه سرعان ما استبدلها بسلاح الدين وغير في تصميم الراية الوطنية، بعد أن كان صدام قد وضع الدين على الرف طوال سنوات المواجهة مع إيران. وعندما وجد أن البعد القومي العربي الحداثوي وحده لا يكفي للتعويل عليه في المواجهة الجديدة مع الغرب، أطلق صدام حملته الإيمانية ليوسع من جغرافية الدعم الذي كان بحاجة إليه، بعد أن وضع على الرف كل أقواله ونظرياته السابقة حول إبعاد الدين عن السياسة.
وهكذا، فأن القرآن الذي رفعه صدام إثناء ظهوره الأخير في المحاكمة هو، في نهاية المطاف، البندقية ذاتها التي ظهر بها صدام لأول مرة. القران بالنسبة لصدام، وسيلة يكسب بها تعاطف ملايين من المسلمين، خارج العالم العربي، مثلما كانت البندقية وسيلة لإخافة العراقيين. و"العقال والكوفية" اللذان شجع صدام رفاقه أن يتمسكوا بإرتدائهما، وهم في قفص الاتهام هما، أيضا، وسيلة للتركيز على الهوية العربية أمام ملايين المشاهدين العرب وكسب تعاطفهم.
ما من شيء مجاني في سلوك وتفكير صدام حسين، حتى وهو يواجه حبل المشنقة: لحيته المشذبة بعناية، دخوله الاستعراضي لقاعة المحكمة، "قرآنه" الموضوع بالحضن، ابتسامته، التفاتته لجليسه في قفص الاتهام...
إنه تمثيل جيد وإخراج جيد.
ما من شيء برع فيه صدام طوال فترة حكمه، وهي فترة طويلة جدا وكارثية بكل المقاييس، غير براعته في التمثيل.
والمأساة الحقيقية للعراقيين هي أن صدام حسين ظل طوال أكثر من ثلاثين عاما، الممثل الوحيد والمخرج الوحيد وكاتب النص الوحيد، لكنه كان، أيضا، الشرطي الذي يقودهم بقوة السيف لمشاهدة عروضه، وليستحموا بالدماء بعد الانتهاء من العرض. وأخشى ما نخشاه أن تجد طريقة صدام، بسبب طوال الإدمان على معاقرتها، هوى وإعجابا حتى من أولاءك الذين شرعوا في بناء عراق جديد، مغاير لعراق صدام.