منذ أكثر من عامين، أخذت أتجاهل أية دعوة توجه إلي للمساهمة في مهرجان شعري، إما لسبب واضح في ذهني أو لمزاج نفسي وشعور باللاجدوى. حتى هذه التي وجهها أصدقاء أكن لهم احتراما خاصا: محمد علي شمس الدين، محمد بنيس، حسن الطلب... والسبب هو: أني لم أر في حياتي بلدا عربيا واحدا، إذ غادرت العراق مباشرة إلى أوروبا وسأبقى فيها محتفظا بهذه الخصلة الحميدة وهي إني لم أزر أي أرض عربية... وأتذكر عندما أعطيت هذا السبب إلى مسئول في مؤسسة البابطين اتصل بي ليأخذ موافقتي على المشاركة في مهرجان للشعر العراقي في الكويت، اندهش وتوقفنا عن الكلام لدقيقة ثم ودعني دون أن يصدقني. أما الدعوات التي تصلني من مؤسسات أوروبية، غالبا ما أتجاهلها أو أقبلها حبرا على ورقة... لكن كم أشعر بحزن بسبب تخييب أمل صديقي المقدوني منظم أهم المهرجانات للشعر العالمي المعروف بمهرجان ستروغة، لعدم حضوري المهرجان المنعقد في نهاية آب (اغسطس) 2004، وقد خصصت إدارة المهرجان إصدار ترجمة مقدونيةلشعري ضمت ما يقارب ستين قصيدة مع دراسة شعرية وقد صدر بطباعة جد جميلة.

إزاء كل هذا، أشعر بكسل حد إني لم أنشر مجرد خبر عن هذا الإصدار... بل بقرف يجعلني أتعجب من شعراء، كنت احترمهم، يتوسلون الدعوات والأخبار عن حضورهم، وكأنهم لا شيء من دون هذا الحضور المشهدي... ما قيمة أن تقرأ قصائد أمام جمهور، وهو عينه في أي مكان من العالم، ليس له سوى مهمة واحدة: التصفيق عند نهاية كل قصيدة.
ألا تخون القصيدةُ التي تدّعي الحداثةَ، مشروعَها ما إن تُقرأ بصوت عال فيصبح حالُها حالَ ما تمردت عليه: علاقة العبد والسيد بالجمهور.
ألا يتحول الشاعر الذي عاش ظلمائية قصيدته وسرية أعماقه وصراعه مع اللغة، إلى مجرد برغي في آلة مشهدية كالمهرجانات الشعرية التي تضم ما هب ودب. وهل فعلا يمكن قراءة شعر حديث بصوت عال أمام هذا وذاك...
أسئلة... صفعة لمن يجد أجوبتها.

قبل أكثر من أسبوعين اتصلت بي السيدة كاترين دافيد التي لا أعرفها لكنها يبدو أنها على علم بنشاطات "الرغبة الإباحية" ومعجبة بها... وطلبت مني الاشتراك في مؤتمر ثقافي أن ينعقدما بين 17-18 ديسمبر... تناقشنا وأبديت لها تحفظي من بعض الأسماء مقترحا عليها بضرورة دعوة كتاب جديين وحقيقيين من داخل العراق كعبد الرحمن طهمازي ليدلي بشهادته التي ستكون مهمة لأنه ينتمي إلى جيل الستينات الحقيقي أي اللادونكيشوتي، وأنه عاصر دكتاتورية صدام دون أن يتلوث، وله مواقف جد واضحة من قضية حرب تحرير العراق... قالت سأفكر بهذا. وإذا كان الأمر يتعلق بوجهات نظر مختلفة، هناك سامي مهدي شاعر بعثي حقيقي مهما تنطوي شهادته على زور، ستكون مفيدة أكثر من كل ما أنتجته أسماء تعتاش على عدائية كاذبة للنظام البعثي... ستفكر، قالت، بهذا أيضا. ثم طلبت منها أن ترسل إلي بالايميل فكرة عن المؤتمر، وساعلمها بجوابي:
بعد أيام وصلتني الرسالة التالية:


Dear Abdel kader al Janabi,
My name is Hila Peleg, I'm Catherine David assistant in Berlin. Catherine is traveling at the moment and asked me to write you with some informations on 'Contemporary Arab Representations. The Iraqi Equation' a project that will open in Berlin in a few weeks.
KW Institute of Contemporary Art in Berlin together with the Fundaciَ Antoni Tàpies, Barcelona, the Arteleku, San Sebastiلn, and the Universidad International de Andalucيa (UNIA) in Seville, is realising a project with Catherine David on contemporary cultural developments in Iraq. The project "The Iraqi Equation: Contemporary Arab Representations " is part of the series "Contemporary Arab Representations" Catherine David is working on since 1998. "The Iraqi Equation" is a progressive platform based on conferences, publications and other presentations . The aim of the project is an exchange between people engaged in the Iraqi cultural sector and their European colleagues - such as artists, filmmakers, architects, authors and theoreticians. The project will reflect on the diverse modern Iraqi culture, putting focus on complex and ambivalent realities, that especially during ideological times of war are not the centre of public attention – neither in the Iraq nor in Western media.
For our upcoming platform in KW Berlin we are collaborating with Talal Refit , Ihsan Fethi, Samir, Sinan Antoon, Tariq Hashim, Naseer Shamma, Ali Bader, Soheil Najm , Mouayed al Rawi , Huhsin Al-Ramli, Fadhil Al-Azzawi, Pierre-Jean Luizard, Anwar Al-Gahassani, Khalid al Maaly and others.
In Berlin, we will concentrate the live lectures and debates in two weekends, 17-18 of December 2005 and 3-4 of February 2006 .
I would appreciate if you could refer me to some of your writings translated to English, French or Spanish. Since 'elaph', is only in arabic, its hard for us to follow.
Many thanks.
Greetings,
Hila Peleg

شعرت أولا أني أمام برنامج عائم لا لون له، وثانيا صدمت ببعض الأسماء التي لا أعرف ما ذا تمثل وأية حيوية لها بالنسبة إلى الثقافة العراقية، وثالثة الأثافي لماذا نصير شمة، ليس هناك موسيقي عراقي آخر... وكيف يمكن لمثقف يهمه العراق أن يتحدث أو يلقي قصيدة في مهرجان ستكون إحدى فعالياته عزف على عود منفرد تحيةً لـ"شهداء" الفلوجة الإرهابيين ولما يسمى "المقاومة العراقية"!
لم أرسل لها ما طلبته من كتاباتي، بل لم أجبها أبدا... تجاهلت الأمر كليا.

خلال أيام طوال، تأملت هذا المصير الذي يبدو وكأنه مكتوب عربيا على جباه العراقيين... لماذا لا يخرج العراق الثقافي الصارمإلى ضوء المواجهة الحقيقية مع أعدائه من كل نوع... لماذا يبقى المصير العراقي مجرد صفقة يستثمرها هذا الكاتب أو تلك المؤسسة.
لاحاجة للتفكير الطويل لمعرفة أن هذا المؤتمر، كباقي كل مؤتمرات الدول المتصارعةاقتصاديا مع اميركا، ليس سوى لعبة جيوسياسية تخص، هذه المرة، النظام الألماني للحصول على حصة من عراق ما بعد صدام. أعرف أن الدول تفكر، قبل كل شيء، في مصالحها، لكن أنا أيضا أعرف أن لي إرادة عدم المشاركة والابتعاد صوب عزلتي التي لامناص لها في ظروف قطيعية.
على أن ما يُحزنني ليس قيام مؤسسة ألمانية بمؤتمر يختلط فيه الحابل والنابل، فهذه عادة كل المؤسسات التابعة لدول العالم. كلا. المحزن هو أنك تشعر فجأة وحدك، ماكتشفا أن السبب الحقيقي وراء انتقادات هذا الذي تعتبره قريبا من موقفك، الموجهة ضد آخرين،ليس سوى الغيرة أو لأنه لم يُدع، وليست انتقاداتهمبنية على موقف فكري واضح.
فمثلا، سمعت من أحد الأصدقاء أن فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي وأنور الغساني سيحيون حفلا (بكل المعاني السيئة للكلمة) عنوانها "جماعة كركوك"... مما يدفع الأمرإلى ضرورة توضيح بعض النقاط:
-ليس هناك على الإطلاق وجود تاريخي لجماعة كركوك.. وأقصد بوجود تاريخي أن يكون لها نشاط مسجل وعيني ينم عن توافق مبدئي حول قضية أدبية أو سياسية، وان يكون لها على الأقل وثيقة واحدة موقعة باسم "جماعة كركوك"، في مجلة، بيان أو على الأقل ان يكون لها ذكر في مقطع مكتوب في رسالة من ذلك الزمان، أو بخبر من سطر واحد في نشرة.
-كما أن "جماعة كركوك" عبارة صاغها الشاعر الراحل شريف الربيعي كاستهزاء من النازحين من كركوك... فبغداد ستينات القرن الماضي عرفت هجمة كتاب وشعراء وفنانين نزحوا من الأرياف والمدن الأخرى.. لكن لم نسمع بمجموعة الرمادي أو الفلوجة آنذاك، وإنما اليوم نسمع بمثل هذه المجموعات (الإرهابية طبعا) لكنلها بياناتها وتماسكها الدموي الموثق.
-في كل مدن العالم تتم اجتماعات حقيقية بين أفراد ووفق طموحات جديرة بالاحترام، ومع هذا لا يفكر واحد من هؤلاء الأفراد أن يطلقوا على لقاءات اجتماعية المنحى تسمية "جماعة"..
-هل عراق اليوم خال من أية قضية ثقافية حقيقية، حتى يبرر هؤلاء الشعراء حضورهم من خلال تواجد وهمي في تاريخٍ زائف.
-ألم يكن من الأجدر طرح دور المثقف العراقي أمس واليوم.. في مصير العراق.. وأقصد طرح التساؤلات الحقيقية المقلقة، لا عرض بطولات "حداثة" وهمية...
-كيف يمكن أن يجتمع بعض هؤلاء إلى جانب أشخاص موقفهم ملتبس مما يسمى "المقاومة العراقية"...
- أعرف أن سركون بولص سيبقى سركون بولص.. فلن يرفض، مثلا، إذا دُعي إلى قراءة شعرية لإدانة الوجود الاميركي في العراق (ومضمر هذه الادانة هوضد
اعطاء العراق فرصة تقرير مصير حر)، ويقرأ بفرح:

"جنرالاتُ أمريكا
يشحذونَ آلة َ الخراب."

لكن مؤيد الراوي هذا الذي يرفض دمج اسمه مع آخرين...، هذا الذي بقي مختبئا وراء مواقف تعتبر على الأقل حازمة، مثلا، أن الشعر لا يقرأ في المنتديات، هذا الذي لا يخفي ارتيابه مما ينسجه العزاوي حول كركوك والستينات... هذا الراوي، لم نسمع منه نأمة احتجاج.

إن ما ينقص العراق، اليوم، هو مثقفون لهم تماسك وانسجام موقف.. مثقفون لا جَلَد لهم على المزاح مع الخنازير، على حد عبارة رينيه شار، أي لا مهادنة مع أي كان في قضية مصير العراق المطروح على بساط الحرب... مثقفون أن يستبصروا بعمق مسؤوليتهم الخاصة...وبالتالي أن لايأبهوا بعواقب التعتيمالتي تنتظرالضحائيينبالمرصاد.

عنوان هذا المقال مأخوذ من عنوان ديوان للشاعر السوريالي بنجاما بيريه