ثمَّة ما يُحيِّر في القرارين الجمهوريَّين اللذين اتَّخذهما سيادة الرئيس بشَّار الأسد الأسبوع الماضي. الأوَّل بخصوص ضم الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى الجبهة الوطنيَّة التقدميَّة في الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة، والثاني تسمية السيِّد عصام المحايري عضوًا فى القيادة المركزيَّة للجبهة. سبب الحيرة يتعلَّق بالشكل والمضمون.
شكلاً، يتوقَّع المراقب أن يتقدَّم أيُّ حزب يرغب بالانضمام إلى الجبهة بطلب في هذا الخصوص، مرفقًا ببرنامج عمله والأسباب الموجبة للانضمام، فتتمُّ الموافقة أو الرفض. ولكن فيما يتعلَّق بالحزب السوري القومي الاجتماعي تحديدًا، ثمَّة شرط آخر يجب أن يُستوفى. هذا الشرط هو أن يُزال الحظر المفروض عليه منذ سنة 1955، قبل أن يتمكَّن من التقدُّم بطلب الانضمام إلى الجبهة الوطنيَّة التقدميَّة.
يسبق استيفاء هذين الشرطين أن يكون الحزب السوري القومي الاجتماعي قد وضع دراسة تتعلَّق بجدوى الانضمام إلى الجبهة الوطنيَّة التقدميَّة، وكلفتها والأخطار التي يمكن أن تنشأ عنها. وعلى أساسها يتَّخذ الحزب قراره. في الشكل أيضًا، في حال تمَّ استيفاء كلِّ هذا وقبول الجبهة ببرنامج طلب الانتساب، يقوم الحزب بتسمية مندوبه إليها. إنَّ التركيز على الشكل هنا مهم لأنَّ أيَّ حزب ذا مؤسَّسات راسخة ويحترم نفسه لا يستطيع أن يتجاوز هذه الخطوات ويقبل بقرار يصدر عن جهة خارجة عنه، حتَّى ولو كانت سيادة الرئيس الأسد.
استنادًا إلى المعلومات الصحافيَّة المعلنة، فإنَّ أيًّا من هذه الخطوات لم يتم. بل إنَّ مركز الحزب الرسمي في بيروت لاذ بصمت محيِّر، ولم يصدر بيانًا في الموضوع.
لو كان القرار يستند إلى الأصول المرعيَّة، لوجب على قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي أن تصدر بيانًا يتضمَّن حيثيَّات طلبه وبرنامج عمله، ويشكر السيِّد الرئيس على حسن بادرته في إنهاء صفحة مؤلمة من تاريخ الحزب في الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة. سكوت الحزب حتَّى كتابة هذا المقال، يحمل مدلولات كثيرة لا تبشِّر بالخير له، وربَّما تقوِّض الهدف الذي من أجله "قرَّر" الرئيس الأسد "ضمَّ" الحزب إلى الجبهة. فما هو هذا الهدف؟
الهدف، كما نشرت جريدة "السفير" الغرَّاء منذ أيَّام، هو: "التسلُّح بالأفكار والطروحات الشعبيَّة والحزبيَّة لتقوية موقف الراغبين في الإصلاح خلال مؤتمر البعث، إضافة إلى تعميق الفهم للمطالب والتوقُّعات الملقاة على القيادة السياسيَّة في البلاد، مع إضافة عامل آخر يتمثَّل في الأرضيَّة الاجتماعيَّة التي لدى "القومي" في الشارع السوري والتي تعطي الجبهة شرعيَّة أقوى في تمثيل الشارع."
"الهدف" إذًا ثلاثيٌّ: الأوَّل ساقط منطقيًّا. إذا كان المطلوب هو "التسلُّح بالأفكار والطروحات الشعبيَّة"، فهذه يمكن الاستعانة بها دونما حاجة لقرار ضمِّ الحزب إلى الجبهة. وإذا كان المقصود هو التسلُّح بالأشخاص حاملي هذه الأفكار والطروحات الشعبيَّة، فإنَّ هذا غير ممكن لكون هؤلاء غير بعثيِّين، ولا يستطيعون أن يغيِّروا في قرارات حزب البعث، بل ربَّما ينعكس الأمر سلبًا.
يمكن للحزب السوري القومي الاجتماعي أن يلعب دورًا ما في الهدف الثاني استنادًا إلى "الأرضيَّة الاجتماعيَّة" التي يملكها في كلٍّ من لبنان والجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة، فيصبح الهدف الثالث من القرار تجيير هذه الأرضية إلى الجبهة. ولكن هذا الدور لا يمكن أن يتمَّ دون برنامج عمل يتقدَّم به الحزب كما سلف.
أمَّا في المضمون، فقيمة أيُّ حزب هي في قوَّة عقيدته، وصلابة أعضائه في الدفاع عنها وعن سياساته المنبثقة عنها. على ما بدا من ردَّات فعل لأعضاء في الحزب، فإنَّ القرارين اللذين اتَّخذهما الرئيس الأسد وُجِها بغضب عارم. أسباب الغضب عديدة أهمها: أوَّلاً، الشكل الذي تمَّ به "القرار"، ثانيًا هشاشة أحزاب الجبهة ونظر المواطن السوري إليها على أنَّها ليست أكثر من "ختم تصديق" لقرارات حزب البعث، واعتباره لها شريكًا في الحكم على مدى عقود، ثالثًا، ولعلَّه الأهم، هو شعور العديد من السوريِّين القوميِّين الاجتماعيِّين أنَّ أنضمام الحزب إلى الجبهة سوف يجعل منه شريكًا في التوقيع على أيَّة اتفاقيَّة سلام مع إسرائيل، وفي هذا تخلٍّ عن قسم من الأرض القوميَّة، وإعطاء شرعيَّة لإسرائيل في فلسطين المحتلَّة، وهذا ما لا تقرُّه مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي التي تقول بوحدة البلاد السوريَّة، القوميَّة والاجتماعيَّة، وعلى أساسها يرفض قيام أيَّة دولة دينيَّة فيها.
بناء عليه، فالغضب الكبير الذي تشهده قواعد الحزب ممكن أن يؤدِّي إلى عكس الأهداف المتوخَّاة من قرار الرئيس الأسد ضمَّه إلى الجبهة. فقرار كهذا، دون قبوله من أعضاء الحزب، ممكن أن يؤدِّي إلى إشكاليَّات عديدة يشعر القوميُّون أنَّهم في غنًى عنها لا سيَّما وأنَّ حزبهم قد توحَّد بعد أكثر من انشقاق. ويخشون أن يؤدِّي قرار مثل هذا ليس إلى شق الحزب فحسب بل إلى شرذمته، فيفقد حيويَّته التي ميَّزته من سواه من الأحزاب.
ما هي ميزة الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ أنَّه يعمل لإطلاق نهضة تزيل الحواجز السياسيَّة بين كيانات الهلال السوري الخصيب، والحواجز الاجتماعيَّة عبر فصل الدين عن الدولة، وبناء مجمتع مدني قائم على المواطنة وليس على الدين أو العِرق، وإلى قيام جبهة عربيَّة من أمم العالم العربي: سورية الطبيعيَّة وشبه الجزيرة العربيَّة، ووادي النيل، والمغرب العربي الكبير. وإذا كان هذا الحزب لم ينجح في تثبيت نظرته القوميَّة، فإنَّ أعضاءه قد نجحوا تمامًا في الناحية الاجتماعية، فألغوا الطائفيَّة من نفوسهم وبنوا نموذجًا ملموسًا لمجتمع مدني مصغَّر، يضم في عِداده أعضاءًا من مختلف كيانات الهلال السوري الخصيب وأطيافه الدينيَّة والعرقيَّة.
لقد وضع الرئيس الأسد قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي في وضع حرج جدًّا. فالقوميُّون الذين يكنُّون له احترامًا كبيرًا ويأملون منه أن يقوم بإصلاحات جذريَّة تحصِّن الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة من الأخطار التي يرونها قادمة عليها، يرفضون الوصاية من أحد لا سيَّما إذا شعروا أنَّ قرار ضمِّهم إلى الجبهة، ربَّما يهدِّد وجود حزبهم نفسه بربطه بعمليَّة سلام مع إسرائيل.
لو قُدِّر للقوميِّين، كما يبدو من مطالعة آرائهم وبياناتهم، أن يتقدَّموا من الجبهة الوطنيَّة ببرنامجهم لوضعوا في طليعة هذا البرنامج ما يلي: وقف جميع المساعي لإقامة صلح مع إسرائيل، وبناء مقاومة وطنيَّة شاملة كلِّ أراضي الوطن المحتل لمواجهة الاحتلالات، وتحصين الجبهة الداخليَّة بإطلاق الحريَّات والمساجين السياسيين، ورفع مستوى المعيشة للمواطن وحفظ حقوقه، ووضع دستور جديد للبلاد لا ينصُّ على دين أيِّ مسؤول فيه، ومواجهة الأصوليَّات المذهبيَّة والتكفيريَّة المتنامية. عندها يمكن للجبهة أن تقرِّر ما إذا كانت تقبل في صفوفها عضوًا مثل هذا، وعندها فقط يتمكَّن الرئيس الأسد أن يقرِّر ما إذا كان يريد شريكًا في الحكم مثل هذا.