يولد الانسان بغير اٍرادته ودون اختيار منه لوالديه وموطنه واٍسمه، يهبط مفتحا على الحياة طفلا ضعيفا موسومة فيه مورثات جينية، ويكتسب فيما بعد خاصية التعلم من خلال مؤثرات خارجية. يتوالد الانسان ويتكاثر منذ تكّون (الزوج الاول)، الانثى والذكر حيث لم يكن لهما ولجميع النسل من بعدهما خيار الوجود وكذلك اختيار لحظتي الميلاد والموت، ورمي الانسان في الحياة بغير ارادته او اختيار منه. ولاشك ان الانسان يدرك ان هناك منعطفان قهريان، منعطف الميلاد و منعطف الموت، جُر الانسان اليهما قسرا دون ان يعي بلحظتيهما او يُحاط علما بطبيعة ظرفيهما أو حتى بمن جرّ رجله اليهما، الا من خلال منقولات شفوية او نصوص خطية ضاربة في قدم التاريخ، متفاوتة في الازمان، قادمة من خارج مملكة الانسان، مؤطرة ومرتكزة على "الايمان بعالم الغيب".
فالالهة المتعددة لدى بعض الاديان او الاله الواحد مندرج في اطار علم الغيب، والرسل كذلك، والكتب السماوية، والملائكة تبقى جميعها في هذا الاطار. ويبقى الانسان مثله كمثل الحقيقة الواقعية المادية الملموسة، وهو الكيان المبدع المكابد، ولاعجب ان يكون الادمي (هو وهي) محور الكون ومركزه.
مواليد من قبيل الصدفة
يولد (مصادفة) الطفل الدالاي لاما (ولانقصد شخص تنزن جياتسو الدالاي لاما الرابع عشر) ويترعرع وينمو في بيئة تسودها ديانة ارضية بوذية فهي عقيدة تؤمن بتناسخ الارواح، فينتهجها الدالاي لاما مسلكا في رشده بحكم المؤثرات البيئية والعامل الوراثي المتشرب، ويعتنقها ويجتهد في تطبيقها ويصبح مدرك وواع بقراره الايماني هذا. انه شأن طبيعي بشري، حيث اغلب المواليد تؤثر فيها بيئتها وخليتها الاولى. وهناك اناس كثيرون مشابهون للدالاي لاما من حيث ولادة الصدفة الطبيعية، وجدوا على هذه الارض بمختلف تنوعاتها العقائدية وافكارها المتعددة وخاضوا غمار الحياة بايجابياتها وسلبياتها وعانق الكثير منهم الموت. ومنهم من لايزال ينتظر ذلك العناق الغير مرغوب واللا اختيارية فيه، انه عناق مع الموت، المتسم بالقهرية المطلقة، عندما يطبق الموت على النفس الانسانية ينتزعها دون اذن من صاحبها او رحمة به، ليبقي الانسان الحي الماض في خضم الحياة معتبرا ومتوقعا مصير مشابه في اي لحظة و بقعة، ويستمر الانسان في السباحة في عالم ضبابي غامض وقيد المصير المستقبلي المجهول.
والامر ذاته مع (مواليد من قبيل الصدفة)، حدث مع بابا الفاتيكان عندما كان مولودا طفلا وكذلك مع شيخ الازهر وآية الله العظمى والحاخام، فنمى هؤلاء الاطفال واصبحوا متمتعين بالرشد والرؤية وملتزمين بمعتقداتهم، واصبحت لهم صفات يتصفون بها ومسميات في بيئتهم، فالحاخام يهوديا، ، وآية الله العظمى شيعيا مسلما، وسماحة شيخ الازهر مسلما سنيا، وقداسة البابا مسيحيا كاثوليكيا، وكذلك امر المصادفة المولدية هذا ينسحب ايضا على ولادة اناس وضعوا بصمات جميلة او مخالب جارحة في التاريخ الانساني امثال فلاديمير اليتش اليانوف المعروف بـلينين (1870-1924) وجوزيف ستالين (1878-1953) وادولف هتلر (1889-1945). وهؤلاء الاعلام التاريخيين والقداسات، لم يكن لهم جميعا حق اختيار ميقات يوم مولدهم او سبق و اخذت مشورتهم قبل مسقط رؤوسهم وبزوغهم للحياة فيما اذا كانوا قد وافقوا على القدوم الى الحياة والانتقال بهم من حالة (العدم) الى حالة اليقظة لممارسة مهامهم بعد ابداء تصوراتهم ورؤاهم حول برنامج الحياة والنمو والانشغال في معتركها واحداثها بحلوها ومرها، ليواجه جلهم بعد ذلك حالة اخرى قادمة لامحالة من المجهول وهي، حالة الموت، لينتهي بهم جميعا المطاف، ويطوي التاريخ صفحاته بماسطرت ايديهم، لتستقبل الحياة صفحات جديدة وأعلام جدد، واحداث متتابعة اخرى او مشابهة تكتب وتطوى في سجل التاريخ، وهكذا دواليك..
الهومو سـابينز
"ماهو غريب، وماهو مدهش، ليس ان الله موجود حقا، وانما مصدر الدهشة، هو ولوج هذه الفكرة، فكرة ضرورة الالة، في رأس حيوان شرير متوحش مثل الانسان، كم هي مقدسة وكم هي مثيرة للمشاعر، وكم هي حكيمة، وأية كرامة عظمى تضفيها على الانسان". هذا ما اعلنه دستويفسكي على لسان ايفان كارامازوف. ليقول مستكملا دوبجانسكي (1900-1975) في كتابه (علم الاحياء ومعنى الحياة): "فقد نشأ الجنس البشري، الهومو سابينز (الانسان العاقل) من اسلاف لم يكونوا بشرا، ولم يكونوا عقلاء بالطريقة التي يمكن ان يكون عليها الانسان. لقد صعد الانسان الى حالته الراهنة من حالة اكثر وحشية، وان لم تكن بالضرورة اشد فسادا، لكنها بكماء ولاعقلانية، ولم يكن داروين موفقا عندما اطلق على احد كتابيه العظيمين اسم (هبوط) الانسان بدلا من (صعود) الانسان، فقد كانت فكرة ضرورة الالة والافكار الاخرى التي كرم بها الانسان غريبة على اسلافنا البعيدين لقد نشأوا ونموا وتملكوا الفكر الانساني الخلاق خلال صعود الجنس البشري المضني الطويل من حالة الحيوانية الى الانسانية" (دوبجانسكي، 1967).
لم يكن لسلالة البشر سابقا او الهومو سابينز لاحقا، الحق في اٍبداء رأيهم وأخذ مشورتهم قبل الميلاد والحياة والموت ليتحتم على منطق العدالة على ضوئهاعرض (قائمة شروط) لكل فرد وافق وقبل تجربة العيش والحياة واستقبال الموت، وتحمل التبعات الجزائية جراء خوض التجربة الانسانية من الميلاد حتى الموت والمرتكزة على مبدأ (المكافأة والعقاب) الابدي كخاتمة نهائية في مسيرة السلالة (البشر- انسانية). والامر ذاته الذي انطبق على القديسين والسياسيين -سابقي الذكر- من مولجي عالم الصدفة بالتوالد، ينطبق ايضا على العلماء امثال الانجليزي تشارلز داروين (1809-1882) عالم الطبيعة مؤلف كتاب (اصل الانواع عن طريق الاصطفاء الطبيعي، 1859) وسيغموند فرويد (1858-1939) اول منشئ لمدرسة التحليل النفسي. وهؤلاء الاعلام الاكاديميين، لم يخيروا، ولكنهم تمتعوا كغيرهم بـ(الفرصة المتكافئة العادلة) لجميع البشر، وهي: عدم سؤالهم قبيل الميلاد ومسقط الرأس في كينونة عالم حالة انعدام الوعي بالذات والوجود، وما اذا كان في رغبة كل منهم خوض تجربة ممارسة الحياة والاستسلام للممات واستقبال الحساب والرضى بالمكافأة والعقاب. ولكنها تمت الولادة فحسب، والخروج للوجود، ومثلها تمت المغادرة، بحسب شروط وقوانين خارجة عن اٍرادة جميع البشر، واستوى في ذلك العلماء والاميين، الاغنياء والفقراء، المهمين والاقل اهمية في المناصب الاجتماعية والسياسية، جميعهم على حد سواء، ومن نقطة البداية هذه، فقط، يمكن تثبيت القول بمنطلق العدالة الالهية والتأكيد، بأنها عادلة، بعدم استشارة الجميع قبل الولادة في امر الحياة. ولكن ماهو الوضع بعد الولادة؟ ومعيار العدالة.
الايمان والالحاد
عندما يتكون الوعي والادراك لدى الانسان في مرحلة التكوين ويسبر غور الحياة ومن ضمنه التعرف على معنى (الدين) فيصبح هناك اناس مؤمنون باخلاص بالاديان (الله)، مثل الامام الكوفي ابو حنيفة النعمان (699-767)، والقرشي المطلبي الامام الشافعي (767-819)، وكذلك هناك من وصلوا في درجة الايمان الى مرتبة القداسة كالراحل يوحنا بولس الثاني (1920-2005) بابا الفاتيكان، والقديسة البلقانية الام تريزا (1910-1997)، وفي المقابل هناك اناس كانوا غير مؤمنين ولهم كامل الحرية و الحق في الحياة والعيش وفق وجهة نظرهم وتصوراتهم، وربما امثال، آرثر كيت، جوليان هيكسلي، د. هـ. سكوت، ويدعون بالداروينيين، وجان بول سارتر (1905-1980) مؤسس الحركة الوجودية، فالالحاد او عدم الايمان بالالهة او الاله الواحد يعتبر مسألة شخصية فردية تعود الى مستوى القناعات لدى الافراد وفق المعطيات الفلسفية القائمة، وقد يأتي الايمان كما هي في الصورة الغالبة والسائدة، توارثيا، فالمولود يرث في الخلية الاولى دين والديه، ووفق هذا التصور لم يكن للاديان من بد الا ان تطرح مسألة (الاختيارية الحرة) في المعتقد كحل سليم لتخرج من هذه المعضلة الشائكة فتعلن صراحة التخيير بين المشيئتين: (الايمان) او (عدم الايمان)، وشريطة ان يتم ذلك في مساحة واسعة من الحرية وممارسة حق الاختيار، دون اكراه او تحت اي مسمى واي ضغط، الدولة، جماعات ضغط سياسي او اجتماعي ايديولوجي منظم او حتى اسري، حيث يمارس الاهل والاسرة الترهيب والقمع على الحلقة الاضعف فيها وهم الابناء ومن ثم المرأة. بعض القراءات البشرية الخاطئة التأويلية للنصوص الدينية قد تكون فرضت القسرية والالزامية بالايمان وتفاصيله التأويلية البشرية، ودعمت التفريخ الايماني المتوارث واستحسنته كونه عملا ناجزا يوفر مجهود الدعوة والتبشير، واشهرت سيف "الردة" في وجه كل محاول مختار حر رغب بمراجعة افكاره ومعتقداته الموروثة لغرض ترهيبه، والردة، هي مردود وحدث سياسي تاريخي زمني محدد لحقب تاريخية سوداء، مارست فيها السلطة السياسية القمع وارتدت لبوس الدين، واصبح مفهوم الردة امرا شرعيا قائما.
كان سارتر المثير للجدل في افكاره والتي يشتم منهارائحة الالحاد كما اشار الكاتب خالص جلبي في مقالته (مئوية جان بول سارتر) قائلا: "ولكن الوجودية لاتعني الالحاد، فالفيلسوف الوجودي كيركيجارد كان عميق الايمان يقوم بحركة في الاصلاح الديني، وبقى سارتر الثائر (الابدي) لحرية الافراد والشعوب" وقال ايضا: "عندما اعلن نيتشة موت الاله فهو كان يعني الكنيسة ولكنه في اعماقه كان من اشد المؤمنين، ولذا كان ينصح من حوله اذا اردت ان ترتاح، فأعتقد، واذا اردت ان تكون من حواريي الحقيقة فأسأل؟" (الاتحاد الامـاراتية، 4/5/2005). فالالحاد بحد ذاته ليس تنظيما او فكرا سياسيا منظما مؤدلجا، بل قناعات فردية خاصة ومسألة شخصية وفي غالبها فلسفية، تعتمد على مبدء الحرية: مشيئة عدم الايمان، ومشيئة الايمان، والمشيئة تتيح الاختيار، والاختيار يقود الى حرية التطلع والبحث دون خوف او جزع من العلم بالامور العامة والخاصة وكذلك العالقة والمرتبطة بفكرة الاله الضرورة، وحينها تنشأ القناعة بالايمان من عدمه، وتؤسس هذه القناعات على اسس راسخة في المفاهيم العقلية، لان مركز ها الدماغ.
ومع ان مسألة الوعي والادراك خاصية وعامل بشري مشترك بين المؤمنين وغير المؤمنين، الا ان الاشكالية الحقيقية لدى الطرفين تجلت في مسألة مدى صحة مفهوم (العدالة الالهية) في الاصل، لانسان مابعد الولادة وليس ماقبله، وهل الامر حقا كان عادلا ان الانسان لم يخير ويستشار ويفصح عن رغبته قبل مسقط رأسه بخوض التجربة من عدمها؟. لقد تسائل برونتون في كتابه (شكل العقل العصري): "هل لحياتي وحياة الناس معنى؟ هل للكون الذي رميت فيه بغير اختياري اي معنى؟" (برونتون، 1953). هذه الاسئلة الميتافيزيقية هي جزء من التركيبة النفسية للانسان. اذ، لايمكن بأي حال من الاحوال اقصاء الميتافيزيقا من طبيعة الناس، فالعلم جزء من هديهم وكذلك الخرافة قائمة على حد سواء الى جانب العلم، كلاهما مؤصل في طبيعة النفس البشرية، وكلما تعامل الانسان مع العلم ازداد ادراكا بالواقع وفسر مسائل ماورائية كانت تعتبر عالقة ومرتبطة دوما بقوى خفية خارقة او شريرة شيطانية، وقد يكون من الممكن ان يرتبط العلم بالاديان ارتباط طرديا عكسيا، اي انه كلما زادت نسبة العلم كلما تناقص مستوى الارتباط بالدين، او هكذا قد بدت الامور في فترات من الزمن.. بسبب تقصير رجالات الاختصاص في الاديان المتنوعة السماوية و الارضية عن التفسير السليم الواقعي للنصوص الدينية وخشيتهم المزمنة من مواكبة العصر والمكتشفات الحديثة التي قد تشكل تهديدا وهدما لمبادئ واسس الاديان كمُكتشف الاستنساخ وفك لغز الجينوم البشري في العصر الحالي، ومُكتشف المطبعة والراديو في عصر سابق. اذ، ان كل جديد مكتشف يثير بلبلة لاتهدأ في اوساط رجالات الاديان ويعترضون من اجل المعارضة ولايحكمون العقل والعلم الا بعد فوات الاوان، فالانسانية التي يقودها (الانسان السوبر) تسير قدما دون توقف وعدم الالتفات لهرطقة المثبطين، والا لكان قد نجح مجتمع الجهالة في اطفاء نور علم الراديو او تم احراق المطبعة في زمن نشأتها. ولانه ايضا في طبيعة كلا من العلم والدين منبعان مختلفان مغايران، فالعلم يقوم على الشك والتجربة والبرهان واحتمالية نقض النظرية، ويقوم بهذه الخطوات الانسان بطبيعة الحال، بينما الدين يقوم -في جانبه العقدي- على الايمان الغيبي، الغير قابل للشك ولا للتجربة ولا للبرهان وبالتالي لايقوم على احتمالية النقض، وخطوات تحققه قد تتم وتقوم بناء على وسائل ورسائل من خارج المملكة الانسانية او قد يكون من داخلها في حالة الاديان الارضية، ترسل على اشكال عدة، منها النصوص المقدسة التي بين يدينا من شتى الاديان المختلفة. ولكن في المقابل الواقعي ايضا، لايمكن اشتقاق رؤية كونية متماسكة من العلم وحده، وقد ذكر دوبجانسكي ذلك في نفس المصدر السابق بقوله: "كانت حياتي مكرسة للبحث العلمي، وبخاصة علم الاحياء التطوري وان العلميين ليسوا اكثر تأهيلا، وامل ان لايكونوا اقل تأهيلا من غير العلميين، للتفكير في تلك الاسئلة والاجابة عنها نجد انه من السذاجة بمكان الاعتقاد انه يمكن اشتقاق رؤية كونية متماسكة من العلم وحده، او بأن بما يمكن ان نتعلمه عن التطور يمنحنا القدرة على تقديم اجابات قاطعة لتلك الاسئلة الكبيرة" (دوبجانسكي، 1967). لقد المح دوبجانسكي الى احتمالية تدخل اشياء اخرى غير العلم في اشتقاق رؤية كونية متماسكة. في حين اضاف تنزن جياتسو (الدالاي لاما الرابع عشر) من خلال تجاربه الشخصية، بأهمية الطرق العلمية في مقاله (الراهب في المخبر) عندما اعتقد بوجود طرق عملية لكبح نوازعنا الخطرة ولجمها قائلا: "تلك النوازع التي يمكن ان تؤدي جماعيا الى الحرب والى العنف الجماهيري، وكدليل على ما اذهب اليه، لم اعد املك رياضتي الروحية وفهمي للوجود الانساني القائم على التعاليم البوذية فقط، انما عمل العلماء ايضا" (نيويورك تايمز، 26/4/2003). وبهذا أيد صراحة مجهود العلماء واهمية العلم الى جانب الروحانيات، والاشكالية مزمنة ومستمرة بين النظرية العلمية التطبيقية والنص المقدس. والى عهد غير بعيد كان يعتقد الناس ان الامراض سببها الارواح الشريرة او قوى خفية وكان يعتقد الى عهد قريب -خاصة رجالات الدين- ان الارض مسطحة. وبتقدم الانسان علميا ومعمليا اكتشف اسس واسباب الامراض (مجهريا) وشخص ان الطفيليات والفيروسات يمكنها ان تشكل المرض، وصنع الانسان (السوبر) المكوك وصعد الفضاء، وعلم ان الارض ليست مركز الكون بعكس ماكان يعتقد، واكتشف ان الارض كروية وراقب الانسان دورتها من علو بواسطة السفن الطوافة الفضائية، وتمكن من السيطرة الجزئية على الارض بادوات الرصد والتحكم التيكنولوجية، اخذا بأسباب العلم، وهو يبحث امكانية السيطرة على الزلازل والكوارث الطبيعية، فالانسان بغزارة علمه يعتبر خط الدفاع الاول عن وجوده وعن الارض، حيث تبين كارثة زلزال مدينة بام الايرانية (2003) بجلاء مدى اهمية الانسان السوبر في الدفاع عن الارض والمجتمعات الانسانية، مقارنة بزلازل لاتهدأ في اليابان، ومدى سيطرة الانسان المتفوق عليها من حيث الارقام في عدد الوفيات والخسائر المادية، فيموت شخص واحد في فوكو جراء زلزال ضرب جزيرة كيوشو (2005)، بينما يموت 50 الف في بام او مايزيد عن 17 الف في زلزال اٍزميت التركية (1999) بشدة زلازل مشابهة لبعضها على مقياس ريختر تقريبا.
نصل بماتقدم الى واقع قد ينحرف قليلا عن رؤية دوبجانسكي مع اهميتها، مفاده، ان العلم اساس لتوسع المدارك والمعرفة في سبيل الرخاء والتقدم الانساني، وبالتالي الاخذ باسباب العلم يعمل علىتخفيف المخاوف من المجهول القابع في منطقة اللاشعور للانسان، فتقل وتتراجع بذلك مستوى الخرافة المؤصلة في النفس البشرية، وتمكن الانسان من التغلب على (الطوطم)، وتحد من قيود (التابو)، وايضا استطاع الانسان ان يفسر بفضل العلم كثير من اعمال القوى الخارقة لناموس الطبيعة او هكذا كانت تبدو في ازمان سابقة والتي كان مردها الى الالهة او القوى الشريرة دوما، بسبب ضعف مستوى الارضية العلمية للمجتمعات في ذلك الزمان.
وهناك تظل اسئلة معلقة وعالقة لم يجد الانسان لها اجوبة الى يومه هذا، بينما جاءت الاديان بأجوبة جاهزة لادليل علمي عليها، فتقبل اجوبتها كثير من الناس كون الارضية العلمية لاتزال هشة تسمح بقبول الوصفات المعلبة الجاهزة، ولاتسمح بتفسير ظواهرها علميا تزامنا مع الزمن الذي يعيشونه وحالة تدني مستوى العلوم عامة، وظلت هذه الاسئلة حبيسه في عالم الغيب، والواقع انه يطيب للانسان ويسهل عليه القبول بالحلول الجاهزة المريحة لتوفر عليه عناء البحث والتدقيق العلمي. وكون الانسان يعتبر عمره الزمني قصير جدا بالنسبة لحركة الكون، اذ يبلغ متوسط حياته حوالي (60) عاما يقضي ثلثها في النوم اي يكون قد قضى عشرين عاما في حالة النوم الضرورية لصحة العقل والجسد، وربعها، خمسة عشر عاما بين طفلا ضعيفا وقاصرا، وربعها الاخير هرما، وخرفا عاجزا اذا ماتجاوز المتوسط. وتبقى هناك اسئلة مفصلية عالقة بدون اجابات علمية او حتى اجوبة جاهزة.
معنى العدالة الالهية لما بعد الميلاد ومسقط الرأس؟
لكي تتم المقارنة بشكل جيد لمعنى العدالة الالهية والتحقق منها بعد ميلاد الطفل الانسان، توجب الاستشهاد وضرب مثال ديانة ارضية بأخرى او أخريات سماوية، فيصبح المثال قائما بالشكل التالي: لماذا يتحتم على الطفل المولود في التبت الصينية والتي تسودها الديانة البوذية، في السعي والاجتهاد المضني في رشده في اختيار الدين "الحق" السماوي المغاير لبقعة وبيئة مولد الطفل الذي قد يصبح يوما ما دالاي لاما (ولانقصد شخص تنزن جياتسو الدالاي لاما الرابع عشر). ومن حيث ان كل دين سماوي وارضي يرى تابعيه انه الدين الحق. فيصبح بذلك لزاما وحتما على الدالاي لاما لكي يكون معتنقا للدين السماوي "الحق" -على الاقل في نظر اتباع الاديان السماوية-، ان يعمل الدالاي لاما ويجتهد قبل ذلك في البحث الحثيث والمضني في رشده وحياته والتحول عن ديانته لصالح الديانة الاخرى السماوية التي سعى اتباعها بالتعريف والاعلان عنها ولايزالون يبشرون بها علنا وخفية كونها قابضة على "الحقيقة المطلقة" في تصور اتباعها. ولو افترضنا جدلا انه لابد ولزاماعلى الدالاي ان يعتنق دينا أخر، ان يتعلم لغة الدين السماوي المراد اعتناقه ويجد ويبحث عن الحقيقة ويقارن بين دينه وبقية الاديان السماوية المتلاحقة الاخرى ليصل به بحثه المضني ان يلتف بطوق النجاة ويختار دينا واحدا منها ويرتد عن دين ابائه وبيئته ويعتنق الدين الجديد، ويتحمل نظرة المجتمع السلبية التي ستنشأ جراء تبديل ديانته، فضلا عن مصارعة النفس في هذا المضمار التي يصعب عليها القبول بما هو غير معتاد والفت النفس عليه!؟. في حين ان مواليد اتباع الديانات السماوية كان الامر بالنسبة لهم اكثر يسرا وسهولة بحيث لم يتكلفوا عنا البحث المضني في التحقق ومصارعة النفس ونظرة المجتمع السلبية جراء الارتداد وتغيير الديانة الاصلية. فالذي ولد في مكة قد خلص من هذه الصراعات والنظرة السلبية للمجتمع ومكابدة عناء البحث، وليس مثل مولود مكة كمولود التبت الصينية، والذي ولد في بيت لحم او بقرب الفاتيكان ليس كمن ولد في قم الشيعية، وكذلك الذي ولد في تل ابيب ليس كبقية المواليد الاخرى، مع الاخذ بعين الاعتبار عامل الدين الموروث من العائلة. فالمهم في هذا السياق والمعنى، هو ابراز حالة المعاناة الشخصية المضنية التي صاحبت مواليد بقعة على الارض لصالح بقعة اخرى على الارض، وجل المواليد تكافئت لديهم ظروف ماقبل الميلاد، منها انهم غير مخيرين على المولد او الارض او الوالدين، بعبارة اخرى، ولدوا من قبيل الصدفة في تلك البقع ومع اولئك الوالدين. ومن هنا قد نضع منطق ومفهوم العدالة الالهية على المحك مالم نتمكن من الاجابة على هذا التساؤل الملح والذي يتعلق بشقين: الاول، مسألة خيار ماقبل الولادة. الثاني، مسألة معاناة البحث عن الحقيقة بعد الولادة. فاذا كان البشر قد تساوو بعدم مشورتهم قبل المولد الا انه ليس من العدالة ان يقبلوا بنتائج مابعد المولد، كونهم لم يخيروا اصلا، فضلا عن مواجهة صراعات فتاكة (معنوية ومادية) يواجهها الانسان بعد المولد في خضم الحياة كـ(صراع النفس، صراع الشيطان، صراع الترهيب بالحساب والعقاب، صراع الحروب والاخطار، صراع الفقر، صراع المرض و صراع الموت). يقول دوبجانسكي: "الحكمة الإنسانية ثمرة الوعي بالذات: الإنسان يستطيع أن يتجاوز نفسه وان يراها موضوعاً بين الموضوعات الأخرى، لقد وصل إلى مرتبة الإنسان بالمعنى الوجودي، وصارت لديه تجربة وإحساس غامر بالحرية، بالقدرة على تدبير الأفعال وتخطيطها، وعلى تنفيذ خططه أو تعليقها، إن أراد، واكتسب الإنسان بالحرية معرفة الخير والشر. هذه المعرفة عبء ثقيل، أمانة بُرأت منها الكائنات الأخرى" (المصدر السابق). ومن مفهوم العدالة الالهية الغير مفسرة، نرى مواليد اطفال تموت ولم تأخذ نصيبها من الحياة، بينما استمرت مواليد اخرى بمواصلة النمو و العيش فخبرت الحياة وقدمت اعمالها وقد تخلل سلوكها بالضرورة الاعمال الحسنة والرديئة، وبالتالي جرى عليها ناموس كل دين، وهو مبدأ الثواب والعقاب الالهي، وتوقف هذا الناموس فجأة عن اقرانها اللذين توفوا مبكرا ولم يخبروا الحياة ولم تتح لهم فرصة الانجاز الحسن او العمل السيئ!. فلماذا قد يعاقب نمط من البشر فقط كونهم خاضوا تجربة فرضت عليهم اساسا، ولم يتوفاهم الموت باكرا، وخاضوا الصراعات الحياتية الفتاكة المعنوية والمادية، بينما، نفذ من هذه التجربة ومن ناموس الحساب نمط أخر من البشر قضوا قبل اوانهم في اعمار صغيرة مختلفة!؟.
ان الموت هو (المرعب) الرئيس الذي تستند عليه الاديان لتدعم قوة حضورها على ساحة الحياة وتفاعل البشر معها، فبالموت يُهزم الانسان سلفا من داخله لانه يمس حالة "الشعور بالخلود" المؤصلة في النفس بالشلل ويبقى الامر في صراع دائم داخلي بين الامل والشعور بالخلود وبين رعب الموت القادم من المجهول. يقول سيغموند فرويد (1915) في بحثه (أفكار لازمنة الحرب والموت): "(..) فان موتنا هو بالفعل أمر لايمكن تخيله، وكلما حاولنا ان نتخيله ندرك اننا في الواقع نعيش كمشاهدين. ومن هنا استطاعت مدرسة التحليل النفسي المجازفة بالتأكيد بانه لا احد يعتقد -في اعماقه- في موته الشخصي، او اذا قلنا الشئ نفسه بطريقة اخرى، أن كل واحد منا -في اللاشعور- مقتنع بخلوده الشخصي" (فرويد، 1977).
ان التكاثر العددي في المواليد، يعطي بصيص تفسير لفكرة اهمية احتمالية ظهور الانسان (النابغة والصالح) الذي يقود الانسانية ويحمي الارض والمجتمع، كمثال الزلازل سابقا. وفي كثرة الولادات لابد وان يظهر حتما الانسان السوبر المتميز، وفي الشح تقل الاحتمالية. والمجتمعات بحاجة ملحة للانسان السوبر، ومن هنا الاعتماد على كثرة الادرار في الخلق والتأكيد على اهمية تباعد الجينات الوراثية، وابراز ضرر تزاوج الاقارب في الارتباط بين الذكر والانثى، يعطي فهما واضحا واشارة في مدى ايجابية تنوع الجنس وتعدده وتباعده، لما له اهمية في تحسين النسل، وبالتالي هذا التنوع يزيد من عدد النوابغ فيه، (ولذلك يفضل عمل احصاء لعدد النوابغ في كل مجتمع تماما مثلما هناك احصاء لعدد الاثرياء)، وكذلك التعددية الثقافية والمعتقدية تثري المجتمع بالافكار المختلفة والمنتوج الثقافي والقيمي، ولاعجب في ان اصل المادة الخام انها مليارات من الحيامن المنوية، وواحد منها فقط ينجح عند تلقيح البويضة الانثوية الواحدة فيصبح انسانا، كاشاره الى الكثرة العددية في توفر المادة الخام للانسان لتدعم فكرة كثرة المواليد لادرار النوابغ. ومن هنا تبرز اهمية التكاثر الولادي (مع تنظيم النسل، اذا تطلب الامر) وتعدد وتنوع الثقافات كونها لصالح الانسان بهدف البناء والتقدم والرقي، اما الانحسار على الثقافة الواحدة او الشمولية، فلاتؤدي الى الهدف المنشود، وانما قد تعيقه، كما حدث مع فكرة الجنس الاري، والتي دعى اليها ادولف هتلر كونها مخالفة للطبيعة وقوانينها ولذلك سبحت الفكرة في بحر من الدماء ولم تعمر طويلا، فضلا عن محاولة نشرها وبسط سيادتها على الارض او جزء منها كانت عن طريق القوة التي عجلت بسقوطها.
ولن يكتب النجاح لمثل هذا التنوع الثقافي المتعدد في المجتمع الواحد، الا باحتضانه في ظل (نظام سياسي) مرن يقبل بالاخر ويحترم حقوق الانسان ويتعامل مع الافراد على اساس المواطنة، ولايميز بينهم، لا على اساس الجنس او اللون او المعتقد، جميعهم مواطنون وسواسية امام القانون.
حاولنا الحفاظ على حيادية اللسان في المقال، لان فحوى الرسالة واسئلتها عامة تنبعث من اعماق النفس البشرية، ولاتزال تسئل مثل هذه الاسئلة الكبرى، ولكن تبقى الاسئلة دون اجابات، قد تفسر لنا معنى النشئة، الولادة والحياة والموت، ولماذا نحن هنا؟. وطالما هناك قضايا جدلية لازالت بحكم العالقة ولايمتلك احدا الاجابات عليها، لابد من القبول بالاخر في كل الاحوال، واحترام كل المعتقدات ونشر ثقافة السلام، بالتغلب على نوازعنا المائلة الى الشر في تصاعد الانفعالات المدمرة، كالغضب والخوف والحقد، والتي اشار اليها الدالاي لاما الرابع عشر في المصدر السابق وقناعته باهمية الطرق العلمية العملية للتخلص منها، اذ، انه يبين ثمرة جهوده وعلاقاته مع علماء غربيين مدة خمسة عشر عاما من خلال سلسلة حوارات تبادلوا فيها الاراء حول موضوعات تتراوح مابين الفيزياء الكوانتية والكونيات وبين الرحمة والانفعالات المدمرة، فقد وجد الدالاي ان الاكتشافات العلمية الحديثة تقدم فهما اعمق لحقول الكونيات وكذلك بوسع التعليلات البوذية ان تقدم احيانا للعلماء الغربيين المتخصصين خاصة في مجالات علوم الادراك والبيولوجيا وعلوم الدماغ طريقة جديدة للنظر في حقول اختصاصهم. اذ كون الدالاي لاما يعزو هذا الامر الى تاريخ البوذية الممتد من 2500 سنة من استقصاء آلية عمل الذهن. ومن اجل هذا الغرض زار الدالاي مخبر علم الاعصاب العائد للدكتور ريتشارد ديفدسون في جامعة وسكونسن، حيث تمكن الدكتور ديفيدسون باستعمال اجهزة تصوير تبين مايحدث في الدماغ اثناء التأمل، من دراسة أثار الرياضات البوذية في تنمية الرحمة والاتزان او الفطنة، حيث يعتقد البوذيون لقرون ان المواظبة على هذه الرياضات تجعل الناس اهدأ واسعد واكثر محبة ويقل بالتالي التعرض للانفعالات المدمرة. وبحسب ديفيدسون هناك اسانيد علمية تؤيد ذلك وقال ان بزوغ الانفعالات الايجابية قد يكون مرده الى: تأمل البصيرة يقوي الدارات العصبية التي تهدئ ذلك القسم من المخ الذي يعمل كمحرض للخوف والغضب. كما فحص ديفيدسون راهبا بوذيا بالتخطيط المخ الكهربائي لقياس موجات المخ فوجد ان الراهب يتمتع في مراكز دماغه بأعلى مقدار من النشاط المتلازم مع الانفعالات الايجابية (الراهب في المخبر، نيويورك تايمز، 26/4/2003).
التعليقات